◄(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود/ 118-119).
لو شاء الله قسر الناس وقهرهم وسلب الحرية والاختيار منهم لو شاء الله لخلق الناس كلّهم على نسق واحد، وباستعداد واحد، نسخاً مكرورة لا تفاوت بينها ولا تنويع فيها، وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الأرض، وليست طبيعة هذا المخلوق البشري الذي استخلفه الله في هذه الأرض.
ولقد شاء الله أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته، وأنّ القدرة على حرية الإتجاه، وأن يختار هو طريقه، ويحمل تبعة الاختيار، ويجازى على اختياره للهدى أوالضلال، هكذا اقتضت سنة الله، وجرت مشيئته في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار، وأن يلقى جزاء منهجه الذي اختار.
شاء الله ألا يكون الناس أمة واحدة – شاء الله أن لا يجبرهم أن يكونوا أمة واحدة – فكان مقتضى هذا أن يكونوا مختلفين – لاختلاف أهوائهم – وأن يبلغ هذا الإختلاف أن يكون في أصول العقيدة – إلا الذين أدركتهم رحمة الله – الذين اهتدوا إلى الحقّ – والحقّ لا يتعدد – فاتفقوا عليه، وهذا لا ينبغي أنهم مختلفون مع أهل الضلال.. من المقابل الذي ذكره النص.
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (هود/ 119).
يفهم أنّ الذين التقوا على الحقِّ وأدركتهم رحمة الله، لهم مصير آخر هو الجنة تمتلئ بهم، كما تمتلئ جهنم بالضالين المختلفين مع أهل الحقِّ، والمختلفين فيما بينهم على صنوف الباطل ومناهجه الكثيرة.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) (هود/ 118).
منذ أن نزلت هذه الآية، حتى اليوم، وأكثر الناس، أو الكثير منهم يقولون: ولماذا لم يشأ، ويا ليته شاء ليريح البلاد والعباد من إحن الطائفية، وويلاتها؟ ويتضح الجواب مما يلي:
1- ينبغي قبل كلّ شيء أن يكون على يقين بأنّ الله سبحانه لا يريد لعباده وعياله أن يتباغضوا ويتناحروا كيف وهو القائل: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا) (الأنفال/ 46)، وليس من الضروري إذا لم يكرههم على الوئام والوفاق أن يريد لهم النزاع والصراع، فإذا قلت – مثلاً – لا أحب أن يكون أولادي على رأي واحد في السياسة، فليس هذا إنك تريدهم متقاتلين متناحرين.
2- إنّ للإكراه على الدين – بمعنى الإعتقاد – طريقين:
الأوّل: استعمال القوّة.
الثاني: أن يخلق الله الإيمان في القلب – كما خلق اللسان في الفم.
الطريق الأوّل: يتناقض مع مبدأ الدين نفسه، بل ومنطق العقل أيضاً، لأنّ القوة لا تصنع الإيمان والاعتقاد، بل العكس هو الصحيح، فإنّ الإيمان الحقّ طريقه الأدلة والبراهين، ومن أجل هذا عرض القرآن هذه الأدلة في أساليب شتى، وحض الإنسان على النظر إليها، وتدبرها، لينتهي منها مختاراً إلى الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، أما الأمر بالقتال من أجل الدين، فالمراد منه القتال للعمل بشريعة الحقّ والعدل، والحفاظ على سلامة المجتمع وأمنه.
أمّا الطريق الثاني: وهو أن يخلق الله الإيمان في قلب الإنسان فإنّه يخرج الإنسان عن إنسانيته، ويجعل أفعاله بالنسبة إليه، تماماً كالثمرة على الشجرة، لا إرادة له ولا كسب ولا تفكر وتدبر لخلق الكون وما فيه، ولا استحقاق لمدح أو ذم، ولا لثواب أو عقاب على شيء.
والخلاصة: إنّ الله سبحانه لم يشأ بطريق من الطرق أن يكره الناس على الإيمان، لأنّه لو شاء لسلب عنهم صفة الإنسانية، وكانوا أشبه بالحيوانات والحشرات، لا يتحملون أي تبعة، ولا يحاسبون على شيء، ولكن شاء الله سبحانه أن يميز الإنسان عن كلِّ مخلوق، ويرتفع به إلى حيث لا شيء فوقه إلا خالق الكون والإنسان، ومحال أن يبلغ هذه العظمة من غير جهد واختيار، ولذا أمده الله بالقدرة والإدراك، والوجدان، والهداية والنجدين، ثمّ ترك له حرية الاختيار ليتحمل وحده تبعة ما يختار، وتتحقق له بذلك الإنسانية الكافية الوافية.
فجاءت النتيجة أن يختلف الناس في عقائدهم وأدائهم: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود/ 118)، أي إنّ الناس اختلفوا فيما مضى، وسيستمرون على هذا الاختلاف إلى الأبد لأنّه نتيجة حتمية لجعل الإنسان مخيراً غير مسير، يتجه إلى حيث شاء وأراد (إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)، والمراد بالمرحومين الذين يتوخون الحقيقة بإخلاص وتجرد، وهؤلاء لا يتطاحنون ويتناحرون على الحطام، وإذا اختلفوا فإنما يختلفون في الرأي ووجهة النظر – واختلاف الرأي لا يفسد في الود قضيته – وتعدد وجهات النظر شيء مفيد، لأنّ القول القوي هو الذي يكون قوياً رغم وجود الأقوال الأخرى.
(ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، أي إنّ الله خلقهم لرحمته وللتراحم فيما بينهم، وإنما تشملهم رحمته تعالى إذا طلبوا الحقّ وعملوا به لوجه الحقّ.
وقال أبو بكر المعافري الأندلسي في أحكام القرآن: إنّ الله خلق الناس ليختلفوا فيما بينهم، لا ليتراحموا يتعاطفوا، لأنّ الله بزعمه يريد الشر والكفر والمعصية، - على حد تعبيره – ولا ينطق بهذا إلا شر الناس، وأجرأهم على الله، لأنّ من يعبد رباً يريد الشر فبالأولى أن يكون هو مريداً له.. وإن أراد الله الشر والكفر والمعصية كما يقول هذا المعافري، فأي فرق بينه وبين من قال: (لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (ص/ 82)، سبحانه تعالى عما يصفه الظالمون.
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، أي أنّه تعالى يملأ جهنم بالعصاة أتباع الشيطان من الجن والإنس، وفي هذا المعنى قوله تعالى خطاباً لإبليس: (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (ص/ 84-85).
هم على الله
المصدر: كتاب دروس من القرآن
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق