(إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (ص/ 71-72).
فهو في نظر القرآن الكريم مزيج من مادة وروح، ولكلٍّ من هذه العناصر مطالبها ونزعاتها، فالجزء المادي (الترابي) من الإنسان ينزع إلى عدد من الجوعات المادية، كالحاجة إلى الطعام والشراب والجنس والتملّك، وما إليها من ضرورات الحياة المادية، والنفخة الروحية التي يحملها الإنسان تعبّر عنها أشواقه العليا، وعواطفه وميله للتدين، والتقديس لما يعتقد أنّه مصدر وجوده أو خيره وشرّه، الأمر الذي تعبّر عنه ظاهرة العبادة في التأريخ البشري بظواهرها العديدة من عبادة الأصنام والنجوم والماء والنار والشمس والقمر وتقديس الأبطال وما إلى ذلك، فضلاً عن عبادة الله الواحد الأحد تبارك وتعالى...
وليس من مقاصد هذا البحث أن يشير إلى تفاهة تلك العبادات المنحرفة عن الحقّ وسفاهة الغارقين في وحلها، وإنما هدفنا أن نشير إلى أنّ لها دافعاً طبيعياً فطرياً، وقد تحدثت سيدة نساء العالمين فاطمة (ع) بنت رسول الله (ص) حول المعبودات الشائعة عند مبعث أبيها سيد المرسلين فقالت:
"ابتعثه الله – تقصد الرسول (ص) – إتماماً لأمره وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه، فرأى (ص) الأُمم فرقاً في أديانها، عُكفاً على نيرانها، عابدةً لأوثانها منكرةً لله مع عرفانها".
إنّ نظرة الإسلام للتركيب الطبيعي للإنسان لم يأتِ على شكل نظرية أو تخمين أو احتمال، وإنّما هي صورة واقعية لهذا الكائن نطق بها وحي الله، وعرضها كلامه المعصوم، إضافةً إلى أنّ الدراسات الحديثة تتجه مؤخراً نحو هذه النظرية الإسلامية للإنسان.
على أنّ هذه النظرة الواقعية للإنسان تلتها معالجة واقعية لمشاكله ومطالبه الحياتية، بالشكل الذي يحفظ التوازن ويأخذ حاجات الإنسان الطبيعية كما هي دون إفراط أو تفريط:
فلا تهالك على المادّة وضروراتها على حساب الأشواق الروحية:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (فاطر/ 5).
ويقول المصطفى (ص) مهاجماً المتهالكين على الدنيا، المتّخذين منها هدفاً:"ما لي أرى حبّ الدنيا قد غلب على كثير من الناس، حتى كأنّ الموت في هذه الدنيا على غيرهم كُتِب، وكأنّ الحقّ في هذه الدنيا على غيرهم وجب".
ويعرض أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) نفس المفهوم، فيقول:"يا أيها الناس متاع الدنيا حطام مؤبئ، فتجنّبوا مرعاه، قلعتها أحظى من طمأنينتها، وبلغتها أزكى من ثروتها".
ولا تنكُّر للضرورات الحياة، ومتطلّبات الجسد من أجل إثراء الأشواق الروحية لدى الإنسان، قال رسول الله (ص):
"لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة: أصوم وأُصلّي، وألمس أهلي، فمن أحب فطرتي، فليستنَّ بسنّتي".
وهكذا فليس في الإسلام الحنيف رهبانية مدبرة عن الحياة الدنيا، وليس فيه إقبال متهالك على الدنيا وضروراتها ومطالبها المادية، بل أنّ أسلوب الإسلام الواقعي هو الحرص على تجسيد حالة من التوازن بين الطاقات والجوعات الطبيعية التي يحملها الإنسان.
قال تعالى مبلوراً منهج الإسلام هذا:(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص/ 77).
وقال تعالى:(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32).
وقال رسول الله (ص) شارحاً هذا الاتجاه الإسلامي وأسلوب الرسالة الواقعي في تحقيق الموازنة الكاملة بين ضرورات الحياة الإنسانية:
"إنّ لأنفسكم عليكم حقّاً، فصوموا، وافطروا، وقوموا، وناموا، فإني أقوم، وأنام، وأصوم وأفطر وآكل اللّحم والدّسم، وآتي النساء، ومن رغب عن سنّتي فليس منّي".
وإلى نفس هذا المفهوم يشير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بقوله:"للمؤمن ثلاث ساعات، فساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يرم بها معاشه، وساعة يُخلِّي بين نفسه وبين لذّتها، فيما يحلُّ، ويجمل".
وبناء على ذلك، فمن المناسب أن نذكر هنا بوضوح أنّ الخطب والمواعظ التي طفحت بالهجوم على الدنيا وزخرفها في بعض أحاديث الرسول (ص) وأحاديث أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة كان يهدفان من خلالها إلى أمرين:
إنّ محور الهجوم كان مركزاً على اتخاذ الدنيا هدفاً من قبل قطّاع من الناس رغم كونها وسيلة وهدفاً للآخرة.
ب- يهدف رسول الله الخاتم (ص) والإمام القائد (ع) إلى تبيان قيمة الدنيا وحقيقتها إزاء الآخرة ونعيمها وإعادة بناء الأمّة بناء يتّسم بالتوجّه للنعيم الباقي في الآخرة الذي كان سرّ نجاح المسلمين وتألقهم في عهد النبي الكريم (ص) حيث التزموا هذا الخط الأصيل.
وفي كتاب الله العزيز والسنّة المطهرة الكثير من النصوص التي تحمل هذا المفهوم، ولعلّ رسالة الحقوق التي أملاها الإمام السجاد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) من أكثر النصوص الشريفة شمولاً لمبدأ الموازنة بين مطالب الحياة الإنسانية جمعاء، حيث تطرّق الإمام (ع) للكثير من التفاصيل طارحاً أبعاد:
- علاقة الإنسان بربّه الأعلى عزّ وجلّ، وما ينبغي أن تكون عليه.
- علاقة الإنسان مع نفسه بأبعادها المختلفة، وأُسرته ومجتمعه بمؤسساته المتعددة.
بيد أنّ مبدأ التوازن الذي يتبنّاه الإسلام في مواجهة متطلبات الإنسان لا يحول دون حضّ الإسلام لأتباعه على الانطلاق، والترفّع على قيود الضرورات المادية.
فالإسلام – بحكم واقعيته – قد أولى الحياة الدنيا نصيباً وافراً من الاهتمام، فلأجل أن يتمتع الإنسان بحياة دنيوية يسودها الرفاه والسعادة والفضيلة والسلام، عمل الإسلام على معالجة كل قضايا الإنسان الحياتية:
- فوضع نظاماً مالياً شاملاً لكلّ المسائل المالية المركزية، ككيفية كسب المال، ووجوه صرفه، وحدّد موقف المسلم من ثروات هذا الوجود الرحيب وغير ذلك.
- وعالج مسألة الحكم، فحدّد شروط الحاكم العادل، وعلاقته بالأُمّة وواجباته الرسالية في القيادة والتوجيه.
- ووضع تصوّره عن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان في إطار العقيدة الإسلامية أو في حالة الاختلاف في الدين، وغير ذلك.
- ورسم تخطيطاً لعلاقة المجتمع المسلم مع المجتمعات الأخرى التي يتعايش معها.
- وحدّد أنواع الطعام والشراب التي يجوز للإنسان المسلم تعاطيها.
وهكذا كان تخطيط الإسلام لشؤون الإنسان الدنيوية شاملاً وحكيماً، على أنّ الإسلام من جانب آخر لا يألو جهداً في رفع المستوى الروحي للإنسان، ودفعه باستمرار نحو السموّ، وعلى التطلّع نحو عالم أرحب "عالم الآخرة".
على أنّ هذا الدفع باتجاه السموّ الروحي إنما يأتي عن طريق التربية والإعداد، وإشعار المسلم بأهمية الشوط الثاني من حياته (الآخرة)، حيث النعيم الأبدي، ورضوان الله الأكبر الذي اعدّ للمتّقين.
وكتاب الله العزيز مليء بهذا اللون من التوجيه المعبّر الموقظ، فهلمّ نتلو هذه الآيات الكريمة، لتتجلّى لنا طريقة الإسلام الحنيف في إعداد المسلم وتوجيهه نحو الرفعة والسموّ:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران/ 14-15).
(قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) (النساء/ 77).
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الأنعام/ 32).
وإذا كان تبنِّي الإسلام لمبدأ تحقيق التوازن بين أطراف الحاجات الإنسانية جميعاً، الروحية منها والمادية، يجسّد النظرة الواقعية التي يختطُّها الإسلام الحنيف من أجل إسعاد الإنسان في الدنيا والآخرة، فإنّ إشعار المسلم بأهمية الشوط الثاني من حياته، وضرورة الترفّع على لذات النفس والإرتفاع رويداً رويداً في سُلَّم التقوى والتوجّه نحو الله عزّ وجلّ، ذلك الذي يعني الاهتمام بالناحية الروحية بشكل أرحب وأعمق..
أقول: إنّ إشعار المسلم بأهمية الأمر الأخير وحثّه باستمرار على انتهاجه، لا يعني بحال أن ينزع المسلم نفسه من الأرض ويولي دبره للدنيا وما فيها وإنّما لابدّ أن يعطي الآخرة نصيبها الذي تستحق بالنظر لما تحتلّه من مساحة واسعة جدّاً من حياة الإنسان المديدة.
ومن هنا فإنّ الحثّ على التوجّه نحو الحياة الأخرى، وشدّ المسلم إليها لا يخرج النظرة الإسلامية على المنهج الواقعي المتبنّى، بل هو منها في الصميم، لأنّ الإسلام بهذا التوجّه يتعامل مع واقع سيصير إليه الإنسان، ثمّ هو بعد ذلك لا يشاء عزل الإنسان عن معترك الحياة الدنيا وضروراتها بقدر ما يحبِّب إليه الزهد في لذاتها الرخيصة والتوجّه لما هو أرفع منها، على أنّ من الجدير ذكره أنّ الترفّع عن الضرورات "الزهد" ليس خطّاً إلزامياً في شريعة الإسلام بقدر ما هو محبَّب لمن يشاء انتهاجه من المؤمنين، طلباً للزلفى وتسامياً على الشهوات.
بقي علينا أن نتعرّف على الكيفية التي عامل بها الإسلام الحنيف خصائص الكائن الإنساني كُلّاً على حده، وإن كنّا مضطرين اضطراراً إلى هذا اللون من التقسيم، إذ أنّ الكيان الإنساني بجميع أطرافه وحدة متكاملة مترابطة العناصر، متفاعلة الأجزاء، لا ينفصل فيها جسم أو عقل ولا أيّ منهما عن الروح بأي حال من الأحوال!
الهوامش:- وأنظر تفسير الآية في تفسير الميزان للسيد محمد حسين الطباطبائي (رض)، ج17، ص225.
- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج16، ص211، بإسناده لخطبة الزهراء (ع) في مسجد الرسول (ص).
- أنظر كتاب "الإنسان ذلك المجهول"، الكسيس كاريل، وكتاب "الطاقة الإنسانية"، أحمد حسين.
- تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ص22.- نهج البلاغة، ص539. مؤبئ: ذو وباء مهلك، القلعة: عدم السكون للاستيطان، أحظى: أسعد، البلغة: ما يكتفى به للقوت.
- الفروع من الكافي، لشيخ الكليني (رض)، ج5، كتاب النكاح، 494. - كلمة الرسول (ص)، للمرحوم السيد حسن الشيرازي، ط1، ص124. - نهج البلاغة، ص545، يرمّ: يصلح.- تراجع رسالة الحقوق في وسائل الشيعة، ج11، باب (جملة ما ينبغي القيام به من الحقوق الواجبة والمندوبة)، ص131 و138.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق