العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله
◄- التوفيق الضار:
يعيش الفكر الإسلامي، في هذه المرحلة من تاريخه، في قلب المعركة – معركة الحقّ والباطل – بين تيارات شتّى من هنا وهناك، وفي مقدمتها التيارات التي نفذت إلى داخله، فبعثت فيه القلق والحيرة والارتباك.
لذلك، فلن يكون غريباً أن يرى المتتبع لقضايا الفكر الإسلامي المعاصر اتجاهات دخيلة على الإسلام، تعيش ضمن نطاق إسلامي يحضنها ويغذيها كنتاج إسلامي خالص.
وكان من أثر ذلك أن تأثرت النظرة إلى الإسلام نفسه بهذا الأسلوب فأصبح الإسلام – في نظر الكثيرين – يمثّل الدِّين الذي يستطيع أن يهضم أي فكرة أو دعوة حديثة، مهما كانت، ويحتضنها بما فيه من طاقة حيّة للتجديد والاستيعاب، كأنّه معرض من معارض الأفكار والآراء من شتّى الأصناف والألوان.
وقد راقت هذه الفكرة لكثير من مفكري المسلمين، فتقبّلوها بروح الزهو والفخر لما فيها – حسب مفهومهم – من الدليل على عظمة دينهم وسماحته وسموه.
ومن هنا، فلم يعدّ من المستغرب أن نرى بعضهم يحاول أن يفرض على الإسلام لوناً من ألوان الاشتراكية، ونرى بعضاً آخر يحاول أو يوفق بين الماركسية وبينه في بعض الخطوط الاقتصادية فيستفيد من الآية الكريمة: (وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ) (الرحمن/ 10).
إنّ الإسلام يرى إشاعة الأرض بين جميع أفراد الإنسان، فليس لأحد حقّ في تملك قسم من الأرض من دون الآخرين. وهناك بعض آخر، ممن بهرتهم أضواء الفكر الغربي وحضارته، فودّوا أن يوفقوا بين الإسلام وبين ما وضعه الغرب من مفاهيم وقوانين ومناهج في الاقتصاد أو التربية أو الاجتماع أو الحياة بشكل عام. فأنكروا – مثلاً – وجود خطة اقتصادية، أو تنظيم للاقتصاد، في الإسلام، بل كلّ ما هنالك أنّه وضع بعض التشريعات التي تدعو إلى الإحسان بالإضافة إلى بعض الضرائب، التي لا تقوى على أن تكون نواة لنظام اقتصادي فضلاً عن أن تكون هي النظام نفسه.
وإذا – فلا يمنعنا ديننا – حسب هذا التفكير – من أن نتبنّى أي نظام اقتصادي في الحياة.. وعلى هذا الأسلوب من التضليل رأينا الكثير من التصريحات والبيانات التي تقول بعدم المنافاة بين الشيوعية والإسلام، لأنّ الشيوعية، حسب ما يدعون، لا تمثل إلّا نظاماً اقتصادياً بحتاً، وليس في الإسلام ما يعارض ذلك المنهج، لأنّه لا يشتمل على خطة اقتصادية معيّنة، وإذاً، هنا مركز الهدف، فلا مانع من أن يكون الإنسان مُسلماً وشيوعياً في آن واحد.
وأقبل الكثيرون من السذج والبسطاء على هذه الفكرة، من دون أن يلتفتوا إلى أخطارها، نظراً لسطحية تفكيرهم وضحالته.
وما زلنا نعاني من آثار هذه الفكرة الضالة الشيء الكثير.
- درء الخطر:
هذه ألوان من أساليب التفكير التي سار عليها الكثيرون ممن يكتبون في الإسلام أو ينطقون باسمه.
وربّما يكون المنشأ لاتباعهم هذا الأسلوب هو غفلتهم وجهلهم بواقع الإسلام وحقيقته، وقد يكون المنشأ تغافلهم عن هذا الواقع وهذه الحقيقة، كمحاولة بارعة لتبرير بعض الأفكار التي يعتنقونها، ويجدون في فرضها على الإسلام طريقاً منتجاً لإشاعتها ونشرها في أوساط المجتمع، لأنّها تتصل حينئذ بالحس الديني العميق.
ومهما يكن السبب، في ما دعوا إليه، فإنّ ذلك لا يغير شيئاً من طبيعة المشكلة التي أصبحنا نعانيها، وهي أنّ الفكر الإسلامي يعاني ارتباكاً خطيراً في داخله، ويعيش مرحلة خطيرة من مراحل تاريخه.
ولابدّ لنا – في سبيل إبعاد مجتمعنا عن أخطار هذه المشكلة – من التوفّر على دراسة الإسلام دراسة مستفيضة شاملة، ترتكز على أُسس واقعية على ضوء من نصوص القرآن والسّنة الصحيحة، لكي نعرضه ونقدّمه للمجتمع بجوهره وحقيقته، في صفاء ونقاء، وفي صراحة عملية لا تعرف اللف والدوران، فنتفادى بذلك مواطن الضعف، التي قد تقتضينا التخلي عن كثير من مفاهيمنا الأصيلة، من أجل إرضاء بعض التيارات والاتجاهات التي تعيش في حياتنا الحاضرة، والتملق لها بشتّى أنواع الملق على حساب الإسلام، طمعاً في الحصول على صفة "التقدمية".
وأخيراً، إنّ المشكلة التي نعرضها تعدّ من أخطر المشاكل الإسلامية التي نعيشها في حياتنا الحاضرة، لأنّها تتصل اتصالاً وثيقاً بمفاهيم الإسلام وأسلوبه؛ فإذا أردنا أن نعيشها بصدق وإخلاص فعلينا أن نقوم بتعرية الأساليب التي ساهمت في إيجاد هذه المشكلة، وطبيعة الأشخاص الذين يحاولون أن يعمقوها ويركّزوها في مجتمعنا الحاضر، وبالتالي، محاكمة الفكرة نفسها التي ترتكز عليها هذه المشكلة، بأسلوب علمي رصين بعيد كلّ البعد عن أساليب التهويش والتشويه.
وكلمة أخرى نقولها بهذه المناسبة: إنّ بعض الذين يدعون لمثل هذه الأساليب في التفكير يخطئون كثيراً عندما يحاولون تبرير سلوكهم هذا بأنّه يساعدهم على تركيز الإسلام في المجتمع، لأنّهم يعرضون له بالشكل الذي يلائم ذوقهم وتفكيرهم.
إنّهم يخطئون في هذا الزعم، ويخطئون أيضاً إن اعتقدوا أنّ أحداً من المخلصين للإسلام يتقبّل منهم هذا العذر وهذا التبرير. فإنّ هذا يدعون له، ويصوّرونه بصورة جذابة، قد يصلح لأن يكون كلّ شيء، وإن نطلق عليه أي صفة ولكنّه لن يكون إسلاماً على أي حال.
- الإسلام مكتف بنفسه:
إنّ الإسلام ليس بحاجة إلى أن نستعير له سمات مبادئ أخرى. فهو غني بمفاهيمه وأفكاره.. بخطّطه وتنظيماته.. بمناهجه العملية في سائر نواحي الحياة، وله لونه الخاص، وأسلوبه المعين في العمل والتفكير.
ولن نحتاج إلى تركيزه في المجتمع الحاضر، إلّا إلى عرضه للناس – كما أنزله الله – مجرّداً عن أي فكرة دخيلة، أو أي أسلوب آخر من أساليب التفكير.►
المصدر: كتاب قضايانا على ضوء الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق