• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أسباب تأثُّر الغرب بالحضارة العربية

توفيق حسن

أسباب تأثُّر الغرب بالحضارة العربية

 

◄إنّ التاريخ لم يشهد حضارة دام إزدهارها على طول الزمن، والحضارة العربية لم تكن لتشذّ عن هذه القاعدة. فقد مرّت بالأُمّة العربيةّ ظروف وأحداث كان لها أثرها الواضح على تطوّرها الحضاري. إنّ هذه الأُمّة التي حققت كل تلكالأمجاد، واحتلّت مرتبة الصدارة في التقدُّم الحضاري قروناً عديدة، كتب عليها أن تصاب بمرحلة من الجمود القسري، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا العصور الوسطى قد تقمّصت نور الحضارة المنتقل إليها من الشرق المتحضر   لقد كتب على الشعب العربي أن يتولّى أُموره حُكّام غرباء، لم يكونوا يفهمون لغته العربية فكيف بالتالي إستيعاب حضارته العلمية المتقدِّمة؟ ولهذا فإنّ هؤلاء الحُكّام الأغراب أهملوا رعاية المؤلفين، وكانت هذه الرعاية أمراً مهماً، لأنّ المؤلفين في تلك الأزمنة كانوا بحاجة إلى مَن يرعاهم ويؤمن لهم حقّ التفرُّغ في التأليف.. فالثقافة لم تكن تعتمد على جمهور القُرّاء، بل كانت تزدهر حول قصور الملوك وفي كنف الأُمراء، ومن ثمّ تشع منها على الناس.. وليس من المعقول عندما يكون الملك أو الأمير لا يفهمان العربية أن يحرصا على تشجيع المؤلفين بهذه اللغة. إنّ النكبات التي توالت على الأُمّة العربية منذ القرن الحادي عشر وما تلاه، هي التي سارعت في بداية عصر الجمود ومن ثمّ الإنحطاط كما تُسمّى تلك الفترة. - الحملات الصليبية التي نجحت في إقامة قواعد عدوان على الأرض العربية دامت قرابة القرنين من الزمان، صرفت الأُمّة العربية عن متابعة جهودها في بناء صرح الحضارة، واستنفذت جهودها في الحرب والقتال. - الغزو المغولي بدوره الذي أباد مع وصوله كل تراث الفكر العربي بقسوة وجهل ووحشية بشكل لم يعرف مثله التاريخ. - الغزو التركي العثماني في أوائل القرن السادس عشر لعب دور الفاصل بين الفكر العربي وبين التيارات الحضارية التي كانت قد بدأت تظهر في أوروبا إبان نهضتها. إنّ هذه العوامل الثلاثة أدّت إلى تجمّد فاعلية ثقافتنا العربية، فغشيها غبار السنين في ديارها، حتى جاء عصر النهضة العربية الحديثة بعد إنتباه العرب لقوميتهم، حيث كان لابدّ لإحياء هذه القومية من إعادة نشر التراث العربي والإتصال به من جديد ومن ثمّ وصله بثقافة العالم. ومن المهم هنا أن نورد هذه الملاحظة: أنّه ليس يعني جمود العرب وتخلُّهم أن ثقافتهم قد ماتت أو قضي عليها، وإنّما هو لم يكن سوى ضياع لجانب منها وإنفصال العرب عن روح هذه الثقافة وما بقي من تراثها. ومن المهم أيضاً الإشارة إلى أنّ هذه الثقافة العربية قد بقيت متصلة بالغرب الأوروبي منذ عرفت هناك حتى زماننا هذا. ونحن الآن نعمل على إعادة الإتصال بها والعمل على تطويرها بشكل يواكب عصرنا الراهن. أمّا عن أسباب تأثُّر الغرب بحضارتنا العربية وتقمّصهم لهذه الحضارة، فيمكن أن نقول أنّه أوّلاً بسبب الإتصال المباشر الذي تمَّ من خلال بوابة العبور في الأندلس، وثانياً من سبب الحروب الصليبية التي اجتذبت الصليبيين ليس من (قبر المسيح) وحده كما ادّعوا، بل الذي اجتذبهم بالدرجة الأولى هو غنى الشرق الأسطوري – الأقمشة الثمنية والحلي الذهبية والحجارة الكريمة والأكواب الزجاجية المتقنة الصنع والحلوايات العربية... إلخ، أي كل ما كان يصل إلى أوروبا عن طريق التجّار المسلمين واليهود والمسيحيين.. ودليلنا على ذلك بأنّ الكتب تحدثت عن كثير من الإقطاعيين الصليبيين الذين لم يكونوا متميزين في مظهرهم عن جيرانهم العرب، حيث كان (بالدوين الادويسي) في القرن الثاني عشر يلبس ثوباً شرقياً ويستقبل الضيوف في قصره وهو جالس على السجادة حسب العادة الشرقية، كذلك فإنّ (تانكرد الانطاكي) أمر بصك عملة على النمط الإسلامي. ومن الأسباب أيضاً، أنّ الغرب قد تأثّر كثيراً من كتب العرب في الفلسفة والعلوم، فاتخذوا نصوصاً دراسية استخدموها في جامعاتهم خلال بضعة قرون مبتدئين ترجمة هذه النصوص ترجمة كاملة ودرّسوها وعلّقوا عليها. وقد طبع بعض هذه الكتب عشرات المرّات، وفي فترات متقاربة مما يُبيِّن أهميّة تلك الكتب عندهم وكثرة إستخدامها، كما إنّ كبار العلماء العرب من أمثال محمد بن زكريا الرازي وابن سيناء وابن رشد والفارابي وغيرهم قد اتخذت أسماؤهم صيغاً في كتابات الأوروبيين لازالت تستخدم حتى اليوم.. ففي كل لغة من اللغات الأوروبية عدد كبير من المفردات التي اقتبست في الأصل من العربية. ومع إنتقال حضارتنا إلى الغرب، انتقلت معها الكثير من المصطلحات العربية العلمية إلى اللغات الأوروبية وأصبحت من مصطلحات الأوروبيين في تلك العلوم ولا يزال هذا القدر حتى اليوم شاهداً على ذلك التأثير الخصب الذي كان للثقافة العربية. ومن الأسباب أيضاً أنّ الغرب لم يتأثّر فقط بالقضايا العلمية العربية، بل تجاوز ذلك إلى النواحي الأخرى كالفنون والآداب. فتأثّروا بالصناعات الدقيقة التي كانت تشيع في العالم العربي نتيجة الثراء والميل إلى رفاهية العيش عند بعض طبقات المجتمع، بحيث أنّ السلع العادية المصنوعة لتسخدم في الحياة اليومية كانت بحدّ ذاتها متقنة الصنع لدرجة جعلتها ترق إلى مستوى التحف الغنيّة. وقد تجلّى ذلك في الصناعات المعدنية والخزفية والزجاجية المموّهة بالميناء، وصناعة الكتاب وفن تجليد الكتب وصناعة المنسوجات الفاخرة.. إلى ما هنالك بحيث أنّ هذه المنتجات العربية ذات الطابع الغني الرفيع استهوى الغرب فانتقل إليه أبّان الحروب الصليبية، كما أسلفنا وذلك عن طريق بيزنطه ومدن إيطاليا. أمّا الأدب العربي، فلقد أثّر بدوره على مجمل الآداب الأوروبية.. فالشعر العربي الذي ساد في الأندلس، ومن أهم ألوانه الموشحات، كان له أثر واضح على ألوان عن الشعر الأوروبي وخاصة شعر البروفانس الذي هو لون من الشعر الغنائي الذي ازدهر في جنوب فرنسا خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر ويعرف بشعر (التروبادور). ولا ننس في مجال حديثنا عن الشعر أنّ الأوروبين قد أخذوا عنّا في أشعارهم مبدأ القافية في الشعر، حيث دخلت في الشعر المكتوب باللغات اللاتينية.. وخيال شعوب أوروبا في القرون الوسطى قد وجد المتعة والإثارة في كثير مما نقل إليه من القصص العربية عن طريق الترجمة ولم يكتفوا بذلك، بل تصرّفوا بتلك الترجمة لمجموعات من القصص العربية التي كانت مستودع موضوعات متميزاً لكثير من القصاصين الإسبانيين والإيطاليين.. وهذا الأثر واضح في القصص الغربية التي تشابه كتاب ألف ليلة وليلة وكتاب كليلة ودمنة الذي عرفه الأوروبيون في صورته العربية قبل أن يهتدوا إليه بأصوله الهندية بوقت طويل. إنّ آدابنا الشعبية أثّرت بشكل ملحوظ على الآداب الأوروبية في القرون الوسطى. ودليلنا على ذلك قصص (بوكاتشيو) المسمّاة (ديكاميرون) التي نشرت عام 1353م وما حوته من بصمات شرقية. كذلك فإنّ الكوميديا الإلهية لـ(دانتي) تأثّرت بصورة مباشرة بالثقافة العربية من جوانب متعددة. كذلك أيضاً فإنّ الكثير من الأعمال الأدبية الإسبانية في العصور الوسطى قد تأثّرت بالآداب العربية، أمثال ذلك الأعمال الأدبية التي خطّها (خوان مانوئيل) وعلى رأسها قصته (الأمير لوكانور) وكذلك الأديب الإسباني (خوان رويس) الذي كتب (كتاب الحب الفاضل). وانعكست الأساطير العربية الرومانتيكية عن الحب الذي تقف الحواجز الإجتماعية في طريقه وعن شجاعة الأبطال البداة في القصة الفرنسية القديمة في القرن الثالث عشر مثل قصة (أوكاسين ونيكوليت). وفي حديثنا عن القصة، لابدّ أن لا نغفل عن الرواية الغربية المكتوبة على أساس المصادر العربية. وحينما ظهرت حركة الإستشراق في العصر الحديث، وقوي الإهتمام بها في الجامعات الأوروبية، بدأ علماء الغرب يدرسون التراث العربي والإسلامي دراسة منظمة وينقلونه إلى لغاتهم. وكان بعض هذه الدراسة خالصاً للعلم، والبعض الآخر لخدمة الأهداف الإستعمارية التي بدأت تظهر ظهوراً واضحاً في سياسة الدول الأوروبية الحديثة منذ القرن السابع عشر. وقد كان لهذا التراث أثره حين نقل إلى الغرب وتجلّت أعمق صور هذا التأثير في القرن التاسع عشر. وممّن تلق هذا الأثر العربي شعراء كانوا في الوقت ذاته على علم بالشرق وتراثه. ويتجلى ذلك بوضوح في الحركة (الرومانسية) الألمانية إبّان القرن التاسع عشر. وقد أدرك هذا التأثير شاعراً عظيماً مثل (جيته) الذي أنشأ ديواناً شعرياً أسماه (الديوان الشرقي). والجدير بالذكر أنّ الشعر العربي رومانسية النزعة قد سبق حركة الرومانسية الأوروبية بقرون متعددة. إنّ هذه الكلمات الموجزة عن أسباب تأثُّر الغرب بالحضارة العربية لا تكاد تُعبِّر عن هذا الأثر البنّاء إلا بالتلميح والإشارة. ويكفينا أن نقول إنّ هذا الأثر العربي كان العامل الممهِّد في حضارة الغرب لعصر النهضة في القرن الخامس عشر وما تلاه من تطوّر أثمر الحضارة الغربية الحديثة. وما إتصال طلابنا العرب اليوم بتلك الحضارة الغربية إلا لعلمهم بأنّ الجذور العربية الحضارية هي العامل الأساس في تلك النهضة الغربية. فالتراجم وأُمّهات الكتب العربية والمخطوطات العربية التي انتقلت إلى الغرب عن طريق السرقة والنهب لا تزال موجودة، ومعظم باحثينا الذين سافروا إلى الغرب قد اطّلعوا عليها وتثبتوا من خلال بحثهم وأبحاثهم بحقيقة كل ما أسلفنا به القول. ومن الرائع أنّ العرب بدأوا يستعيدون صلتهم بثقافتهم. ولم يكتفوا بذلك لأنّهم وجدوا تلك الثقافة لا تزال قاصرة في بعض جوانبها عن النهوض بحاجات الإنسان العربي الحديث، وهذا طبيعي، لأن تلك الثقافة مثّلت مرحلة تاريخية معيّنة توقّفت عندها، ففقدت مقدرتها على التطّور، فعمدوا إلى الإطلاع عليها ومن ثمّ تطويرها مع ما يتماشى مع هذا العصر، فتعلّموا اللغات الأوروبية ثمّ عمدوا إلى إعادة الترجمة إلى العربية ونتج عن ذلك تطور خطير ورائع في الآداب والعلوم والفنون العربية خلال هذا القرن.   المصدر: مجلة الموقف/العدد 4 لسنة 1983م

ارسال التعليق

Top