• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مناشئ الاختلاف في القراءات التفسيرية

د. إحسان الأمين

مناشئ الاختلاف في القراءات التفسيرية
◄منذ عهد التأسيس لعلوم القرآن وتدوين تفسيره، برز اختلاف أساسي بين العلماء والمفسِّرين، وجوهر الاختلاف هو حول جواز تفسير القرآن بغير المأثور (المروي عن الرسول (ص) والأئمة والصحابة والتابعين)، فقد كان الرأي المشهور لدى عموم المسلمين – سنّة وشيعة – هو أنّ تفسير القرآن لابدّ من الرجوع فيه إلى المأثور المروي، وأنّ تفسيره بغير المأثور يُعدّ ضرباً من التفسير بالرأي المنهي عنه، بموجب روايات عن النبي (ص) في ذلك، منها ما أخرجه أبو داود والترمذي أنّه (ص) قال: "مَن تكلّم في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ"، وأنّه (ص) قال: "مَن قال في القرآن بغير علم، فليتبوّأ مقعده من النار"[1]. وفي مقابل هذا الرأي، نجد رأياً آخر لدى الفريقين، يذهب إلى جواز تفسير القرآن بغير المأثور – المروي من الروايات والأحاديث – وذلك بالتدبّر في آيات القرآن نفسها وبالاستعانة بأدوات اللغة واستنباط المفاهيم الدلالية منها وبالاستعانة بآيات القرآن نفسه في تفسير بعضه البعض. وبناءً على الفهم الثاني، لجأ كثير من العلماء إلى تأويل ما ورد من الروايات عن النهي عن التفسير بالرأي، فقد حمل الطبري أو أوّل كافّة الأخبار والأحاديث الواردة بالنهي عن إعمال الرأي في القرآن على معنى تقديمه على ما اختصّ الله به نبيِّنه ببيانه[2]، أمّا الطبرسي المفسِّر، فقد ذهب إلى القول بترك العمل بظاهر هذه الروايات، لأنّها تعارض آيات القرآن الحاثّة على التدبّر والاستنباط، أو تأويل الروايات على أساس أنّ "مَن حمل القرآن على رأيه ولم يعمل بشواهد ألفاظه، فأصاب الحقّ، فقد أخطأ الدليل"[3]. وعلى أي حال، فإنّ تناقل تلك الروايات والتوقّف على ظواهرها كان أحد الأسباب الرئيسة وراء اقتصار التفسير على المأثور لقرون عديدة منذ صدر الإسلام، واعتبر بعض العلماء الالتزام بظاهر تلك الأحاديث سدّاً لباب العلم في القرآن، إذ لو صحّ ما ذهب إليه لم يعلم شيء بالاستنباط ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئاً"[4]. وبناءً على التوقّف على ظواهر القرآن والاقتصار على المأثور فقط في تفسيره، نشأت الاتجاهات الظاهرية والأخبارية والتي قد تكون من امتداداتها الاتجاهات السلفية المعاصرة. إلا أنّ نظرة واحدة إلى التراث المأثور في التفسير – وغيره – ترينا بوضوح أنّ السلف الصالح من الصحابة والتابعين، لم يكونوا أيضاً متّفقين في تفسير كل الآيات، قال أبو حيان الأندلسي: "وقد جرّبنا الكلام يوماً مع بعض مَن عاصرنا، فكان يزعم أنّ علم التفسير مضطرّ إلى النقل في فهم معاني تراكيبه بالاسناد إلى مجاهد وطاووس وعكرمة وأضرابهم، وأنّ فهم القرآن متوقِّف على ذلك. والعجب له أنّه يرى أقوال هؤلاء كثيرة الاختلاف متباينة الأوصاف متعارضة ينقض بعضها بعضاً..."[5]. ويضيف الغزالي أدلّة جديدة على جواز التفسير بغير المأثور، وفي مقدّمتها قلّة ما روي عن الرسول (ص) في التفسير، فيقول: "تحريم التكلّم بغير المسموع باطل، إذ لا يصادف السّماع من رسول الله (ص) إلا في بعض الآيات، والصحابة (رض) ومَن بعدهم اختلفوا اختلافاً كثيراً لا يمكن فيه الجمع، ويمتنع سماع الجميع من رسول الله (ص)، والأخبار والآثار تدلّ على اتساع معانيه. قال (ع) لابن عباس: اللّهمّ فقِّهه في الدِّين وعلِّمه التأويل. فلو كان مسموعاً فلا وجه للتخصيص. قال عزّ وجلّ: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) (النساء/ 83). وقال أبو الدرداء: لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهاً. وقال علي (ع): لو شئتُ لأوقرتُ سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب"[6]. أمّا القرطبي، فقد اعتبر اختلاف الصحابة أنفسهم في تفسير القرآن دليلاً على أنّ ما قالوه لم يكن كلّه سماعاً من النبي (ص)، وبالتالي فهو دليل على جواز الاستنباط منه، لأنّ تفسيرهم أيضاً كان منه استنباطاً وليس سماعاً، قال: "... وباطل أن يكون المُراد به أن لا يتكلّم أحد في القرآن إلا بما سمعه، فإنّ الصحابة (رض) قد قرأوا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالواه، سمعوه من النبي (ص)"[7]. واستند الطباطبائي المفسِّر إلى آيات القرآن نفسه، فإنّ الكتاب الذي نزّله الله تعالى "تبياناً لكلِّ شيء"، لا يتوقّف فهمه على بيان غيره، إذ يقول: "... فالحق أنّ الطريق إلى فهم القرآن غير مسدود، وأنّ البيان الإلهي والذِّكر الحكيم بنفسه هو الطريق إلى نفسه، أي أنّه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى طريق. فكيف يتصوّر أن يكون الكتاب الذي عرّفه الله تعالى بأنّه هدىً وأنّه نور وأنّه تبيان لكلِّ شيء، مفتقراً إلى هادٍ غيره ومستنيراً بنور غيره ومبيّناً بأمر غيره"[8]. وأخيراً ننقل رأي الآلوسي الذي اعتبر قلّة المروي عن الرسول (ص) دليلاً على فتح باب التفسير وعدم الاقتصار فيه على المأثور، قال: "والعجب كلّ العجب مِمّن يزعم أنّ علم التفسير مضطرّ إلى النقل في فهم معاني التركيب، ولم ينظر إلى اختلاف التفاسير وتنوّعها، ولم يعلم أنّ ما ورد عنه (ص) كالكبريت الأحمر"[9]. بقي أمر، وهو أنّ كل العلماء على اختلاف آرائهم، اعتبروا ما ثبت من السنّة في التفسير المنطلق الأوّل والمقام الأسمى... نعم، إنّ مَن ذكرناهم وغيرهم – ممّن لم نذكرهم – لم يقصروا التفسير عليه.   الهوامش:
[1]- الاتقان للسيوطي، ج2، ص1206. [2]- دراسات وبحوث من الفكر الإسلامي المعاصر، د. الدريني، ص233. [3]- مجمع البيان، ج1، مقدّمة المفسِّر. [4]- البرهان للزركشي، ج2، ص163. [5]- البحر المحيط في التفسير، خطبة الكتاب، ص13-14. [6]- (تبصير الرّحمن وتيسير المنّان) للعلامة المهاتمي، وهو ملخّص ما كتبه الغزالي في إحياء علوم الدِّين، ج1، ص207. نقلناه عن مقدّمة تفسير مجاهد. [7]- القرطبي ومنهجه في التفسير، د. القصبي محمود زلط، ص189. [8]- الميزان في تفسير القرآن، ج3، ص101.

[9]- روح المعاني للآلوسي، ج1، ص6.

المصدر: كتاب (الإسلاميون على أعتاب القرن الحادي والعشرين.. مقاربات نقدية)

ارسال التعليق

Top