د. عمرو خالد
الثقة يقينية..
دعونا الله كثيراً وندعوه في كل يوم وليلة... ربّما.. ولكن هل ندعوه بيقين؟ هل ندعوه بثقة؟ هذا هو السؤال الذي يجب علينا أن نسأله لأنفسنا.. لذا علينا الثقة بالله ثقة بلا حدود.. ثقة يقينية حقيقية، وذلك بأن لا نربطها بالنتائج، بمعنى أن نثق بعطاء الله سبحانه وتعالى دون شك بمقدرته وإرادته فهو القادر... المهيمن... القهار... الجبار، فتعالوا ننظر كيف نثق بالله، ونتعلم أن ندعوه بيقين.
الثقة واليقين بالله لا علاقة لها بالنتائج.. فنحن نثق بالله؛ لأنّه القادر المقتدر... فالكون كله بيمينه يقلِّبه كيف يشاء، يقول الله تعالى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) (الأحزاب/ 22)، إنّ الإنسان مرتبط بالتغيرات والظروف الحياتية بشكل عام. أما المؤمن ترى ثقته بالله تزداد وتثبت كلما زادت المصائب وكثُرت المصاعب.. فيقول: لبيك وسعديك والخير كلّه بيديك، والشر ليس إليك..
فهل يا ترى ما زالت ثقتنا مرتبطة بالنتائج؟ وهل إذا تغيرت النتائج تتغير ثقتنا بالله؟؟
أحبتي.. ثقتنا بالله فيها مشكلة.. فيها اهتزاز لابدّ من التخلص منه، ولكي نسد هذه الفجوة التي أصبحت متأصلة في نفوس معظم الأُمّة، يجب أن نعمد إلى زرع الرضى فينا من كلِّ ناحية، وبذلك يصبح من اليسير أن نواجه أي مشكلة تعترضنا..
يا نار.. كوني برداً وسلاماً...
وضع الله سبحانه وتعالى أنظمة وقوانين ثابتة في الكون... كالنار... والشمس ما مفعولهما؟ فالله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء، فهو يخرج النجاة من قلب التهلكة.
أيها القارئ الحبيب، إليك قصة سيدنا إبراهيم.. اتفق الكفار على رميه في النار لينصروا آلهتهم.. ماذا تقول الآية؟ (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) (الأنبياء/ 68)، وماذا قال الله في آيته؟ (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء/ 69). قد تسأل: لماذا لم ينقذه الله قبل رميه في النار؟ لولا ذلك ما ظهرت لنا الثقة بقدرته تعالى.
أسألكم بالله... من ذا الذي يستطيع أن يخاطب النار ويغير من وظيفتها غير الله؟
نموذج آخر للثقة في الله:
الله سبحانه وتعالى يخرج النبوة من قلب الكفر... سيدنا موسى أين نشأ؟
تقول الآية: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) (القصص/ 8)، راقب عظمة الله، فالله سبحانه وتعالى يخرج الماء من قلب الصخر... والآية تقول: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) (البقرة/ 60).
تصوّر! يضرب الحجر بالعصا، فالمفترض أن تنكسر العصا ولكن الله أحدث أمراً آخر... "قد علم كل أناس مشربهم، أي شربوا من الحجر".
ازرعها عميقة راسخة!
إخواني.. لماذا لا نغرس الثقة بالله في نفوسنا ونفوس أولادنا؟ لنزرعها بشدة حتى لا تقتلعها أيّة مشاكل.
الرسول (ص) يقول لابن عباس: "واعلم أنّ الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك"... مع العلم أنّ ابن عباس كان لا زال غلاماً... "وأن الأُمّة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك". [الترمذي: 2516].
انظروا للنبي (ص) كيف يغرس الثقة بالله في الأطفال... إذاً الله – عزّ وجلّ – يغير نواميس الكون، فيأتي بالنجاة من قلب التهلكة ويأتي بالنبوة من قلب الكفر... ويأتي بالماء من قلب الصخر... وهو على كلّ شيء قدير... فإنّه يحيى الموتى بالموتى – يعني يرد روح ميت بشيء ميت – تقول الآية: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة/ 72-73)، يعني: بني إسرائيل، قتلوا نفساً ولكنهم لم يعرفوا من قتلها، فقال لهم ربهم: اضربوا ميت بميت، أي اذبحوا بقرة، وخذوا رِجلاً من أرجلها واضربوا بها الميت فيحيى بإذني، فيقول لكم من قتله... من يستطيع قول هذا الكلام إلا مالك الملك سبحانه وتعالى...
وليس هذا فحسب بل يخرج كلّ شيء ويظهر لك نقيضه مثلاً: السكين في الأصل للذبح... لكنها لم تذبح إسماعيل... والنار في الأصل تحرق... من جعلها باردة لإبراهيم؟... هذا أمر الله... هو القائل للحوت أن يبتلع يونس... وهو الذي شق البحر لينجي موسى... كل شيء هو بيد الله لا إله إلا هو...
يأتينا النصر من حيث لا ندري:
أخي القارئ.. يجب أن تكون دائماً واثقاً من أنّ الله على كلّ شيء قدير... وليس هذا فحسب بل إنّ الله سينصرك وينصر دينه على يد أعدائه... أتعرفون لماذا أسلم أهل المدينة؟؟.. بسبب اليهود!... نعم اليهود هيأوا أهل المدينة لظهور النبي (ص) فكانوا يقولون لقبيلتي (الأوس والخزرج): بأنّه سيأتي نبي في آخر هذا الزمان ونحن سنتبعه ونقاتلكم فنهزمكم... فأصبحوا يغرسون بقلوب أهل المدينة بأنّه سيأتي نبي.. سيأتي نبي.. فلما جاء من العرب رفضوا أن يسلموا، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّه سيأتي منهم، فلما ظهر النبي (ص) كانت المدينة مهيأة لظهور هذا النبي فانتشر الدين على يد أعداء الدين...
سبحانه الله! على يد الأعداء... يأتينا النصر من حيث لا نحتسب. هل ما زالت الثقة بالله مهزوزة؟
آيات ودلالات لعظمته وقدرته...
اقرأ هذه الآيات جيِّداً: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ...) (الأنعام/ 59).
سبحان الله... لا يحصل أي شيء، ولا حتى ورقة شجرة إلا ويعلم أين مستقرها... ولا حبة رمل إلا في كتاب مبين... سبحان الله ما أعظمه... سبحان الله ما أقدره...
وإليكم هذه الآية: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الزمر/ 42)، معنى الآية أنّ النفس ترجع كل ليلة إلى ربها... سبحانه القادر على كل شيء..
وآية أخرى لعظمة الله وقدرته: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ) (الأنبياء/ 104)، السماء سوف تطوى كطي السّجل للكتب يوم القيامة... يا الله أما زالت ثقتنا بقدرته ضعيفة؟... (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الزمر/ 67)، أتشعر بمُلك الله؟؟ (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران/ 26). إخواني نحن ملك من؟ الكون ملك من؟... الأرض ملك من؟ المجرات، والكون كله ملك من؟... لو أصبح عندك هذه الثقة بالله... وأصبح عندك اليقين في ملك الله تبارك وتعالى فإنّ ثقتك بقدرته وعظمته لن تهتز أبداً... انظر للنبي (ص) ومعه أبو بكر في الغار... وسيدنا أبو بكر يقول له: لو نظر أحدهم أسفل قدميه لرآنا... والنبي (ص) يقول له: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".. [مسلم: 6119، والترمذي: 3069]. هل يعقل أن يكون الله ثالثهم ويتركهم؟...
أرأيت الرسول (ص) يعرف قدر الإله الذي اتبعه ويعلم أنّه الحق وكان واثقاً بأنّ الله سينجيه.. اخواني إياكم أن تهتز ثقتكم بالله.. فالثقة بالله – عزّ وجلّ أمر أساسي لنجاح الأُمّة...
سفينة في الصحراء!...
لنرى نموذجاً آخر للثقة بالله مع سيدنا موسى (ع):
هو أمام البحر... والبحر هائج وفرعون يلاحقه مع جنوده ويريدون قتله من أتباعه... فقال أصحاب موسى: إنّما لمدركون... فقال موسى: (كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء/ 62)، كلا... إن معي ربي سيهديني.
سبحان الله... يمشي في البحر وهو واثق بأنّ الله سينجيه وينصره على فرعون وجنوده.. ويقول: إنّ معي ربي سيهديني!...
وانظر إلى سيدنا نوح أتصدق أنّ الله أخبره أنّه لن يؤمن أحد من قومه إلا من قد آمن، وأمره بصنع الفلك... تقول الآية: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (هود/ 37)... أتعلمون ما هو الفلك؟... هو سفينة طُلب من سيدنا نوح أن يصنعها في الصحراء!! أتتخيلون كم ستأخذ من الوقت؟ أوّلاً سيزرع الشجر وينتظره حتى يكبر ثمّ يقطعه!! أي أنّه بحاجة إلى سنوات عديدة... وماذا سيصنع؟! سفينة في الصحراء؟! أهذه هي وسيلة النجاة؟؟
هل تعلم لماذا طلب الله منه ذلك؟ ليتأكد من ثقته بملكه وقدرته... بالله عليك لو كنت مكان سيدنا نوح هل تهتز ثقتك بالله أم تبقى ثابتاً وواثقاً بالله ورسله؟؟... سفينة في صحراء... ستقول: هذه هي التي ستنجينا؟؟!!!
يا إخواني نحن سفينتنا اليوم... (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11)، لا تقول: إنك لا ترى أمل! صحراء سيدنا نوح هي صحراء واقعنا... وأتباع سيد نوح كانوا واثقين من الله – عزّ وجلّ وبنوا السفينة ليركبوها... أين؟؟ في الصحراء...
أخي القارئ... بالله عليك ثِق بأنّ الله على كل شيء قدير: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
المصدر: كتاب حتى يغيِّروا ما بأنفسهم
تعليقات
هية مبارك
الله يجزيكم الف خير يارب