• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

نظرة في التربية الإسلامية

د.أسعد السحمراني

نظرة في التربية الإسلامية

كبرت معاناة البشرية في أيامنا هذه، وساد التمزّق والضياع كل مناحي الحياة، ومختلف وجوهها، وبدأ الخطر يهدّد، وفي أكثر من موقع في العالم كلّه إنسانية الإنسان، ويقوده إلى ظلمات وجهل منطبقين.
ولعله من المفيد التذكير في هذا المجال بأنّ السبب الرئيسي في ما يحصل هو تلك السيادة الشاملة للفكر المادي في حقب ماضية في أوروبا وملحقاتها، والذي أنتج تقدماً تقنياً في مجال الكمّ، ووسّع الهوة في الوقت عينه بين الكيف والكمّ، مما انعكس مصيراً مشؤوماً على الإنسان في مجتمعاتهم، وفساداً وانحلالاً.
وفي ظروف التقليد والمحاكاة من المغلوب للغالب، وقعت الشعوب المستضعفة أسيرة تلك المناهج، وبدأت تنقل غثّها وثمينها دون تمحيص ولا تدقيق مما ولّد انفصاماً في شخصية الفرد، وتفككاً في وحدة الجماعة، سببه ذلك التباين بين الجذور الحضارية للمجتمعات التي تفترض نفسها أنّها متخلفة، ولا تتقدم إلا بأشياء الغرب، وبواسطة القيم المستوردة.
وإذا بالنقل والحالة هذه يتحوّل من الاستفادة إلى الفساد، ومن الإسهام في التحضير إلى صناعة الاغتراب الفكري الذي أفقد تلك المجموعات المغتربة تأثيرها، وبات علمها وشهاداتها وسيلة للتسلق إلى الوظائف والمناصب، وليس عملاً من أجل التقدم والتطوير.
إنّ هذه المعاناة تكبر، ويزداد خطرها في ميدان التربية ومؤسساتها أكثر من غيرها، لأنّه في يد التربية مقود المجتمعات، وفي يد التربية مقود الخطوات، وتوليد الخبرات، وفي يد التربية حسن الاستفادة من الطاقات.
لقد وقعت التربية في العالم العربي أسيرة "العرنبة" في كل ما لها وما عليها، وبلا شك ساهمت الارساليات بدور أساسي في ذلك، فخرّجت مجموعات كثيرة لهم أجساد عربية تحمل تفكيراً وسلوكاً أبعد ما يكون عن واقع الالتزام بأسس الحضارة العربية- الإسلامية. والأكثر خطراً أنّه في واقع التعليم في بلادنا ينمو الكمّ على حساب الكيف، مما يحدث ورماً تعليمياً، وليس تقدماً وتطوراً.
وللتحقق من ذلك فليراقب الواحد منّا ذلك الاهتمام بالأبنية المدرسية أكثر من الاهتمام بإعداد المعلم وفق أصول فكرية ثقافية مستمدة من الواقع الأصيل لبلادنا، والاهتمام بتوفير مقعد لكل طالب دون التخطيط لتوفير عمل مقبول، وحياة حرة كريمة لكل إنسان بعد مرحلة التلمذة. وإذا بالتعليم عندنا في بعض أجزائه مضيعة للوقت والجهد، وهدراً للثروة، وتعطيلاً للقدرات الشابة التي يجب أن تستثمر لبناء مستقبل كريم، فيه الحرية والعزة للإنسان المستخلف في الأرض.
إنّ من أسباب ذلك ما يتم من استيراد عشوائي للنظريات التربوية دون الإدراك للتباين بين مجتمع وآخر، وبين بيئة وأخرى، ودون ايلاء الاهتمام للحضارة واللغة والتاريخ والجغرافيا... إلخ.
فالمدرسة عندنا وكذلك الجامعة ليس فيها شيء أو منهج أساسه عربي أو إسلامي، وانما كل ما فيها من كتب ومناهج، ونظام بناء، وأسلوب معلمين، وممارسات اجتماعية وسواها أوروبي، مما يلغي دورها الريادي في صنع الأجيال المرتجاة.
وهنا نصل إلى السؤال أي تربية نريد؟ إنّ التربية المطلوبة هي التربية التي تحكمها الروح القرآنية، ويوجهها نظام فكري مؤمن، يعيد للإنسان اعتباره. فهذه التربية هي الانعكاس لفلسفة المجتمع القرآنية، لأنّ الإسلام ليس نظام عبادات فقط، وإنما القضية الأساسية فيه هي الإنسان ومجتمعه، وكما هو معلوم في غير آية قرآنية، وحديث نبوي، فإنّ محمداً (ص) كان هدى ورحمة. ومن مقتضيات ذلك أن يحوّل المؤمن حدود الشرع الملتزم بها إلى حيّز التطبيق في سلوكه وحياته اليومية، خاصة وأنّ هذه الحدود تشمل كافة جوانب الحياة، ولا تهمل واحدة منها. فإنّنا نلاحظ بأنّ هذه الحدود تهتم بالجسد فتمنع إرهاقه أو التفريط به، وتنظم له تلبية شهواته من مأكل ومشرب وجنس لكي تكون كلها حلالاً طيّباً، ولذلك جاء التأكيد على ضرورة الاستفادة مما أحل الله تعالى لعباده من طيبات الرزق الحلال.
وكذلك نظمت عملية الزواج بشكل يلبي حاجة الجسد، وفي الوقت نفسه، يحفظ قواعد الأخلاق، ويؤمن العلاقات الاجتماعية السليمة، ويمدّ المجتمع بالعدد البشري في جانب التكاثر.
وفي حدود التشريع للنظام التربوي في الإسلام نلاحظ الاهتمام بمسألة حرية العقيدة، وكيفية توفيرها للإنسان، وذلك لأنّ الإنسان مسؤول عن أعماله، فكل امرئ بما كسب رهين، ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فالكل مرجعهم إلى الله تعالى وهو المحاسب والمعاقب أو معطي الثواب.
ولكن في التربية المطلوبة الدعوة مباشرة ومحددة للإيمان بالله الواحد، فهو مصدر الخيرات، وخالق الأكوان وما فيها، والتسليم له فيه طمأنينة للمتربي والمتعلم لئلا يرهق نفسه بالتفكير في النظام الكوني بشكل عشوائي يجلب فيه الظلم لنفسه، ويلقي بنفسه وبمجتمعه إلى مهاوي الضياع، لأنّ أية تربية، أو محاولة للعمل العلمي تحاول التحليق بعيداً عن الإيمان، هي ضرب من التخريف، وخبط عشواء مضيع للجهود.
يضاف إلى ذلك انّه في حدود التشريع للنظام التربوي حضّ على أعمال العقل حيث لا تخلو سورة إلا وفيها دعوة للتفقه والتفكر والتعلم، وكثيرة هي الآيات والأحاديث التي تشجع على أعمال العقل، والبحث في الكون والكائنات.
وتتوسع اهتمامات التربية لتشمل أسس السلوك الاجتماعية، وتنظيم علاقات الإنسان بأخيه الإنسان، وتضع له قواعد لكيفية معاملة الحيوان، ولكيفية استخدام الثروة والتربة.
ويأتي بعد ذلك نظام السلوك الاخلاقي وأسسه بحيث يكون الإنسان في نظام الأخلاق الإسلامي متوازنا في سلوكه، منضبطاً في حركاته، فلا إسراف ولا تقتير، ولا تقييد ولا إطلاق، وللاهتمام بهذا الجانب كان حديث الرسول (ص): "إنما بعثت لاتمّم مكارم الاخلاق".
كذلك في اهتمامات التربية تلك التغذية للروح بنظام وجداني ليس في غرق في المثالية، أو انحدار في المادية، بل نظام فيه توازن دنيوي- أخروي، يعطي الفرد طمأنينة على المستقبل بكل أبعاده، ويحبّب إليه الآخرين، كما يحبّبه إليهم، فتنسج في ظلال هذه التربية وحدة الذات وموضوعيتها، ويكون ذلك طريقاً لوحدة المجتمع وموضوعيته.
نخلص من اهتمامات التربية هذه إلى القول: بأنّ الإسلام يوجّه إلى إيجاد التوازن في ذات الفرد بين الروحيات والماديات، وبين قيم الكيف وقيم الكم، وإلى إعلاء شأن الإنسان بالعلم، وتمييزه بالعقل، لأنّ للإنسان رسالة في الكون، والظاهرة الاجتماعية لا تتكون إلا بواسطته، ومن لقائه مع أبناء جنسه في المجتمع.
يضاف إلى اهتمامات التربية هذه كيفية قيامها، إذ أنّها تنطلق مراعية لظروف المجتمع وأحواله ومكوناته، وتبدأ بعد تفهم للبيئة وللمحيط، وللامكانات المتوفرة حتى تستطيع انجاز ما تهدف إليه. فهذه التربية ليس فيها ما هو فوق الممكن، ولا يعتريها خلل يهدّد الناشئة بالإرهاق، أو الإنحراف، أو التخلف عن الركب.
وإذا كانت التربية الإسلامية تعالج جميع مناحي حياة الإنسان، فإنها في الوقت عينه تساير روح العصر، وظروف المكان والزمان، وهنا مجال عمل الاجتهاد. كما انّها تتدرج وفق مراحل نمو الإنسان وقدراته، وكذلك المجتمع، وهذا ما أكد عليه الحديث النبوي الشريف الذي جاء فيه: "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونكلمهم على قدر عقولهم".
والتربية الإسلامية تستلزم الإشراف على كل حركة للإنسان وتوجيهه دائماً وبتواصل بحيث تواكب عملية التنشئة جميع مراحل العمر، ومختلف مجالات العمل، فالتربية الإسلامية تدعو الإنسان لكي يطلب المعرفة من المهد إلى اللحد. وتحمّل المسؤولية لاولي الأمر بأن يوجدوا المناخات الملائمة في سن المدرسة وما بعده، وحتى ما قبل سن المدرسة والولادة، حيث يكون من حق المولود على أبيه اختيار الأم والاسم. فكيف بايجاد المحيط الملائم تربوياً في الجانب الجسدي والجانب العقلي؟.
كل هذه الاهتمامات التي تصلح سبلاً ومنطلقات لعملية الاصلاح التربوية في واقعنا تحتاج بالأساس إلى قاعدة هامة، هي أن تتم تنشئة الإنسان وفق قواعد عقيدية ثابتة هي الإيمان بالله الواحد، والتوجه المتوازن في تناول ميادين العمل من أجل الحياة الدنيا، ومن أجل الآخرة، بحيث لا يحصل الاهتمام بواحدة على حساب الأخرى.
إنّ التربية هي عماد تقدم البلدان وتحرّرها، أو سبب تخلّفها واستضعافها، لذلك وفي ما نعيشه اليوم من واقع صعب علينا أن نعيد النظر في مؤسساتنا التعليمية مدرسين ومناهج ونظاماً. وأن نعيد صياغتها من جديد انطلاقاً من أرضية فكرية تنسجم مع واقعنا الحضاري العربي- الإسلامي، وأن ننتقل بها من الحفظ والتلقين، وتوزيع الشهادات، إلى حيز التخطيط والأهداف المحددة، والرؤيا الواضحة.
لهذا السبب من المفيد أن يأخد مثقفو الأمة دورهم الانقاذي، وأن يتخلصوا من عقد الاغتراب الفكرى، ومن عمليات الاستيراد العشوائي عن الأوروبيين وملحقاتهم، لأنّ ايلاء الاهتمام لموضوع تغيير ذات الإنسان وفق قواعد سليمة هو المدخل إلى أخذ الدور من جديد، دور حمل الرسالة الحضارية العاملة من أجل الإنسان، فإذا كان الإسلام بكل ما جاء فيه من حدود وأوامر ونواهي يهدف إلى إعداد الإنسان وتوجيهه من أجل بناء مجتمع سليم يحقق فيه سعادته، فالأحرى بنا اليوم أن نلغي حالة الانفصام بين النظر والتطبيق، فنصيغ الذات صياغة متكاملة قولاً وعملاً، وعندها نضمن تغيير الواقع الصعب الذى نعيش، وفي هذا كان خطاب الله تعالى في سورة الرعد: (.. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ...) (الرعد/ 11).

المصدر: مجلة الموقف/ العدد 9 لسنة 1984م

ارسال التعليق

Top