العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله
◄- الوجود المسخّر للإنسان:
يوجّه الله تعالى الإنسان لينظر ببصره وقلبه إلى كلّ مَنْ حوله وما حوله، فيقول سبحانه: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) (لقمان/ 20)، والله تعالى عندما يوجّه الإنسان إلى ذلك، فليرى وهو يتحرّك في الحياة منذ بداية خلقه كيف أنّ الله سخّر له كلَّ الأشياء التي يحتاجها في وجوده.. فسخّر له أمه وأباه يحضنانه ويتعهدانه ويشقيان ليُسعداه، ويتعبان ليريحاه، ويواجها الأخطار حتى يؤمّناه، ثمّ عندما تأتي ظروفٌ يفقد فيها والديه، فإنّ الله سبحانه يهيّىء له مَن يرعاه ويفتح له أبواب الحياة.. وهكذا عندما يبدأ الإنسان حركته في الحياة تأميناً لرزقه، فالله تعالى يسخّر له الأرض لتنبت كلَّ ما يحقّق له الكفاية في طعامه ومشربه وملبسه ومسكنه، وفجّر له الينابيع ليستفيد من الماء في ارتوائه ونظافته.. وهكذا في الشمس حيث تعطيه الدفء والحرارة والإشراق، وما يحقّق له شروط الاستمرار في حياته، وكذلك في الحيوان والقمر والكواكب، وفي كل ما خلقه الله حيث كلُّ ذلك مسخّر له ولخدمته.
ونحن قد لا نتحسّس عظمة هذه المخلوقات التي أوجدها الله تعالى لراحة الناس، لأننا اعتدنا على رؤيتها وملامستها وألفنا وجودها، والإنسان لا يعرف عظمة ما اعتاده وما ألفه، وحتى لا نستغرق في الغربة بيننا وبين هذه العظمة، يريدنا سبحانه أن ننظر بعيون قلوبنا ونطيل النظر حتى نتعرّف على ما أفاضه الله علينا من نِعَمِه الظاهرة والباطنة وفي كلّ ما أودعه في الحياة، وعندما نعيش ذلك، فإنّنا نُحِسُّ بفضل الله علينا وبحاجتنا إليه.. فلو أنّ الله جعل الليل سرمداً فمن الذي يأتينا بالضياء؟ ولو أنّ الله جعل النهار سرمداً فمن الذي يأتينا بالليل لنسكن فيه؟ وإذا أطفأ نور الشمس، فكيف ننعم بالدفء والحرارة وحركة الحياة؟ ولو جعل سبحانه الأرض جدباء، فكيف لنا أن نحقّق ظروف وشروط العيش؟ وهكذا في كلّ الأمور في الحياة. ومن هنا، فإنّ الإنسان يشعر بالإرتباط بربّه من خلال ارتباط حاجته به تعالى، وبما لا يشعر فيه بأيّ حاجة لأحد. فنحن نستغني عن آبائنا وأمهاتنا، فتستمر حياتنا حتى عندما نفقدهم، ونستغني عن هذا الذي يُعيننا في بعض. مواقع الحياة وعن ذاك. ولكن مَن الذي يستغني عن الله؟ الله الذي خلقنا وحرّك لنا كلَّ الأجهزة في أجسامنا، ولو رفع عنايته عن حركة هذه الأجهزة التي تنظّم حياتنا، فكيف يمكن أن نبقى على قيد الحياة؟
إنّ الله تعالى يريدنا أن نعيش التفكيرَ بنعمه علينا كي لا نغفل عنه ونبقى على ارتباط به، فنحن غالباً ما نرتبط بالناس من خلال حاجاتنا، هنا يوظّفنا، وذاك يعطينا مالاً، وآخر يحلُّ لنا مشكلة أو يعطينا لذّة، ولكن الله أعطانا وجودَنا كلّه وحقّق لنا شروط هذا الوجود وحرّكه لمصلحتنا، وتدخّل في كلِّ تفاصيل وجودنا، لذلك كيف للإنسان أن ينسى ربّه ويغفل عنه، فهو سبحانه الحاضر في وجوده من خلال كلِّ شيء، فإذا نظر بعينه ليعرف أنّه ينظر بعين الله، وإذا سمع فليعتبر أنّ السمع نعمة الله عليه، وإذا شمّ أو تذوّق أو فكّر فليتيقن أنّ ذلك من الله.
- نكران النعم والجدال بغير علم والتقليد الأعمى:
ولذلك، قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) الشمس تشرق، المطر ينزل، القمر ينير، الكواكب تحقّق الكثير مما له علاقةٌ بحركة الكون التي تعود بالنفع على الوجود كلِّه (وَمَا فِي الأرْضِ) من حيوان ونباتٍ وجماد، ومن كافة الثروات الطبيعية التي تختزنها الأرض، وهي لكم جميعاً (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ) أفاض عليكم (نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)، ومع كُلّ ذلك، هناك من الناس مَن يتنكّر لذلك، وأيضاً (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ) يجادل في وجود الله وتوحيده وعدله (بِغَيْرِ عِلْمٍ) وجدالُه ليس خاضعاً للمنطق، وليس لديه وضوح في الرؤية أو يملك حظّاً من علم (وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ) فهو فاقد للمعرفة والدراسة والتفكير. والله تعالى لم يمنعنا أن ندخل في جدال، ولكن على الإنسان عندما يناقش في شيء أن يملك ثقافة هذا الشيء، أما إذا كان لا يملك الثقافة في هذا المجال، فكيف يجادل فيه؟ ولذلك يقول الله تعالى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) (آل عمران/ 66)، وعلى هذا، فالقرآن يطلب من الإنسان أن يمتلك القاعدة الثقافية والفكرية ليرفض ما يريد رفضه، وليقتنع بما يريد الاقتناع به، وعندما يمتلك الإنسان هذه القاعدة، فإنّه يمكن له أن يتحاور مع الناس من موقع الأساس.
ودائماً يتوجّه الخطاب القرآني لمن يعيشون روح التقليد الأعمى من الكافرين والمشركين والذين لم ينفتحوا على الحق (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) (لقمان/ 21)، يوحي القرآن للإنسان سواءً كان فرداً أو جماعة: أيّها الإنسان، إنّ الله خلق لك عينين تنظر بهما، وأذنين تسمع بهما، ولساناً تنطق به، وعقلاً تفكّر به، وخلق لك إرادة تستطيع أن تؤكّدها، فاسمع كلّ ما ينطلق في حياتك من كلام، وانظر إلى كلِّ مَن حولك وما حولك، ولكن فكّر في كلِّ ذلك، ولا تكن صدىً للآخرين. وارفض لحياتك وشخصيتك أن تكون كمثل الظلّ إلى الضوء، أو كمثل الصدى بالنسبة للصوت.. لذلك، فالقرآن ينادي في الناس: إنّكم الحقيقة في وجودكم، فكونوا الحقيقة في انتمائكم، لا تكونوا ظِلاً أو هامشاً للآخرين. الآخرون فكّروا وقرّروا، فلماذا لا تفكّرون أنتم ويكون قراركم من خلال تفكيركم؟ ولنفرض أنّ آباءنا وأجدادنا فكّروا لأنفسهم وركّزوا حياتهم في هذا الخطِّ الفكري أو ذاك، هم عاشوا مرحلتهم سواء أصابوا أم أخطأوا، ولكن نحن غيرهم، صحيحٌ أننا نتاجهم، لكنّنا نحن نتاجهم المادي، أما المعنوي، فنحن نتاج أنفسنا، نتاج إرادتنا وعقولنا. ولذا، فإنّ دعوة الله لنا أن نفكر فيما عند آبائنا وأجدادنا والناس من حولنا، لأنّ لنا فكراً فلماذا نجمّده؟ وإن لنا إرادة فلماذا نسحقها؟ وإنّ لنا آذاناً فلماذا نسدُّها؟ وإنَ لنا ألسنةً، فلماذا لا ننطق بها؟
ومن هنا، فإنّ مسألة التقليد بالفكر والإتجاه والتيار مرفوضةٌ إسلامياً، أما تقليد المجتهدين في الفقه فهذا من قبيل الرجوع إلى أهل الخبرة، تماماً كما نرجع إلى المهندس في شؤون البناء، وإلى الطبيب في أمور الصحّة، ولذلك قال الله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل/ 43)، فهذا يعني أخذ العلم من ذي علم، وليس معناه تقليداً. أمّا أن يسوق الإنسان شخصيته وعقله وأوضاعه مع التيار، سواءً كان تياراً اجتماعياً أو سياسياً أو أخلاقياً أو ثقافياً، فهذا تعطيل لإرادة وعقل الإنسان، لأنّ عليه قبل أن يندفع مع التيار وينجذب معه، أن يدرس اندفاعات هذا التيار والمدى الذي يمكن أن يصل إليه. ولذا، قال الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) فكروا بما أنزله واقتنعوا به، لأنّه الحق (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ) ونحن في حياتنا الآن نتّبع الآباء والأجداد أكثر ما نتَّبع الله، وعلاقتنا بالمستكبرين والظالمين أكثر من علاقتنا بالله، فالله ينهانا عن فعل أمر فلا نلتزم، أما "الحضارة" الغربية والأوضاع الإجتماعية والزعماء الفاسدون، فإنّهم يأمروننا بشيء، فإننا نتّبع هؤلاء ونتمرّد على الله (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) يردّ عليهم بأنّ هذا المنطق هو منطق الشيطان، لأنّ قضية ما وجدتم عليه آباءكم يتصل بالجانب الغريزي والعاطفي، ولا يتصل بالجانب الفكري.. فآباؤكم ليسوا حجّة من الله عليكم، وأنتم بهذا التقليد تسيرون إلى النار (أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) أنتم تتّبعون خطوات الشيطان الذي سيُرْديكم في العذاب لأنّكم جمّدتم عقولكم، وانطلقتم في خطِّ تقليد آبائكم وأجدادكم الذين فسقوا وكفروا وضلّوا سواء السبيل.
- الإستمساك بحبل الله:
ثمّ يعطينا القرآن الكريم الفكرة التي تُطمئن القلب وتريح النفس، ويعيش فيها الإنسان الجوَّ الذي ينفتح به على الله، فيقول سبحانه: (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) (لقمان/ 22)، فكّر أيّها الإنسان بالذي خلقك وسخّر لك ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليك نِعَمه ظاهرة وباطنة، فكّر بمن يملك حياتك وموتك، ويملك ضرَّك ونفعَك، فهل هناك غير الله؟ فالله تعالى بيده حركة وجودنا كلُّها، وهذا ما نقرأه في دعاء الإمام زين العابدين (ع)، حيث أوصي نفسي وإخواني وأخواتي بقراءته في كلِّ صباح ومساء: "أصبحنا وأصبحت الأشياء كلُّها بجملتها لك، سماؤها وأرضها وما بثثت في كلِّ واحد منهما، ساكنه متحرّكه، مقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء، وما كَنَّ تحت الثّرى، أصبحنا في قبضتك، يحوينا ملكُك وسلطانُك، وتضمّنا مشيّتك، ونتصرّف عن أمرك، ونتقلّب في تدبيرك، ليس من الأمر إلا ما قضيت، ولا من الخير إلا ما أعطيت" فهو سبحانه يرعانا في كل شيء، والحكيم في كل ما يفعل ويقضي ويدبّر (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ) والوجه هنا يعني الذات والكيان، والمؤمن هو الذي يقدّم خضوعه الله، مُسلّماً وجوده له، معترفاً بأنّه في إرادته وقبضته، وهو بذلك يعيش الإسلام بقلبه وعقله وحياته على اعتبار أنّه عبدٌ لله، لا يملك شيئاً أمامه ولا يقدر على شيء خارج إرادته، يعيش هذا الإيمان والتسليم له (وَهُوَ مُحْسِنٌ) ويُحسن في عبادته وعمله وعلاقاته مواقفه ومواقعه (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) لا تأتيه حالات الاهتزاز على الإطلاق، بل يشعر على الدوام بالثبات والقوة، لأنّه حقّق لنفسه التسليم في كُلّ شيء لله مقروناً بالعمل والطاعة (وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ) وسيعود إلى ربِّه ويقف بين يديه ليعطيه جزاء تسليمه له وإحسانه في حياته، جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ورضواناً من الله أكبر.
المصدر: كتاب من عرفان القرآن
ارسال التعليق