• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وحده من يستحق الذكر

العلامة الراحل السيد محمّد حسين فضل الله

وحده من يستحق الذكر

ذكر الله:

لابدّ للإنسان المؤمن عندما يذكر اسمَ ربِّه، ألا يذكره وقلبه غافلٌ، أو يذكره سبحانه كما يذكُر أيَّ اسم من الأسماء، وذلك ليعرف مقامَ ربِّه ولينزهه عن كُلِّ صفةٍ من صفات المخلوق، فلا يحاول أن يساويَ بينه سبحانه وبين أيِّ مخلوق آخر ممن يعيش معه في أيِّ صفةٍ من الصفات، فإذا ذُكِرَ العلم، عليه أن يعرف أنّ ربّه الأعلم، وإذا ذُكِرت القدرة، فإنّ الله تعالى هو الأقدر، وإذا ذُكِر أيُّ شيء، فالله سبحانه يمثِّل أعلى الدرجات في كُلِّ شيء، بحيث لا يساويه شيءٌ مهما كانت عظمته، لأنّ كُلَّ شيءٍ يستمدُّ وجوده من الله، وإذا كانت الأشياء تستمدُّ وجودها من الله، وتستمد عظمتها وقوتها وغناها منه سبحانه، فكيف يمكن للإنسان أن يساوي بين الله وبينها؟

فإذا ذكرتَ الله، عليك ألا تذكر أحداً معه، ولذا جاء في القرآن الكريم (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) (الجن/ 18)، عندما تريد أن تذكر الله، فإنّ عليك أن تذكره وحده، وإذا ذكرتَ غيرهَ، يجب أن يُذْكرَ على أساس أنّه عبدٌ ومخلوقٌ له ومحتاجٌ إليه. ومع كُلَّ التعظيم والتقديس لرسول الله (ص) وبأنّه أفضلُ خَلْق الله، فعندما نذكر ونشهد لله بوحدانية (أشْهدُ ألا إلهَ إلّا الله) ونشهد للرسول (ص) بالرسالة و(أشهدُ أنَّ محمّداً عبدُه ورسوله)، فإنّه (ص) مع عظمته وعلوّ درجته وشأنه يبقى عبداً لله، وعظمةُ عبوديته لله، بمقدار إخلاصه في هذه العبودية.

 

إرتباط الذكر بمعرفة عظمة الله:

نعود إلى ذكر الله تعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) (الأعلى/ 1-5)، نزِّه اسمَ ربِّكَ عن كُلِّ صفةٍ من صفات المخلوقين، وكُلِّ شأنٍ من شؤونهم.. وكأنّ الخطابَ القرآنيَّ يتوجَّه للإنسان متسائلاً: أتعرف مقامَ ربِّك ومنزلته تعالى؟ والنص القرآني ليس بحاجةٍ للجواب.. فربُّك هو الأعلى، بحيث أنَّ كُلَّ شيءٍ تتصوّره، فإنّه في مقارنته بالله سبحانه، يكون هو الأسفل في كُلِّ شيءٍ، والله هو الأعلى في كُلِّ شيءٍ. فيجب أن نربِّي أنفسنا عليها، فلا يكفي أنّ نُدخلها في عقولنا، فنشعر أنّ الله هو الأعلى، بل لابدّ أن ندخلها في قلوبنا، فلا تخفق إلا له سبحانه وتعالى، وإذا خفقت لغيره فمن خلاله وحده.

 

النظام الموزون:

وما هي صفة ربِّك فيما له من صفات قدسية؟ (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) فالله سبحانه فوق كُلِّ شيءٍ، لأنّه لا يساويه ولا يعادله ولا يماثله شيء، فخلق كُلَّ شيءٍ فسوّاه وأوجده وجعله مستقيماً سويّاً في خِلقته، فلا تجد مخلوقاً في الكون إلا وهو خَلْقُ الله (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) قدّر لكلِّ شيءٍ حجمه ودوره وعلاقته التي تتكامل مع نظام الكون، فيصبح الوجود متوازناً، لا اختلال فيه (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر/ 49)، فادرس – أيها الإنسان – المخلوقات الجامدة والحيّة، أدرسها في شكلها وطبيعتها وحركاتها وخصائصها وعلاقاتها مع بعضها، فإنّك تجد حدوداً لكلِّ شيءٍ فيها، بحيث لا تنقص ولا تزيد عن طبيعة الحدّ الذي حدّده الله تعالى، وعلى هذا، فإنّه (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50)، بمعنى أنّه سخّره لدورٍ محدّد ووظيفة معيّنة، ووجّهه للدور الذي أعطاه إيّاه.. ولذلك لو أردت أن تدرس علومَ الطبيعة والنبات والحيوان والإنسان، وكلّ خصائص الكون، لرأيت أنّ كلَّ موجودٍ فيه ينطلق في نظام موزون يتحرّك على قاعدة إكمال دوره في الحياة. ومعنى الهداية في الآية المباركة، أنّ الله سبحانه أوكل لكلِّ موجود دوراً بحسب طبيعته، فهدى الشمس والقمر مثلاً لأن ينتجا النور والضياء والدفء والحرارة (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس/ 40)، وهكذا في الإنسان الذي هداه لمسؤولياته، وفي الحيوان والجماد والنبات (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى) (الأعلى/ 4)، ومَن العشب والخُضرة، التي ترعاها المواشي فتتغذّى بها، وتستفيد أنت من لحمها وصوفها وما يُستَخْرَجُ منها (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) (النحل/ 80)، وهكذا يبدأ المرعى أخضر طيِّباً يُبْهِرُ الأنظار، ثمّ يُصبح يابساً (فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى) يتحوّل إلى هشيمٍ يابس (تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) (الكهف/ 45)، فالغثاء هو ما صار من العشب يابساً (أحْوَى) أي أسود، أو مائلاً إلى السُّمرة.

وكأنّ الله تعالى يُوحي للإنسان بأنّه يخلق الأشياء فيُحييها ثمّ يميتها إظهاراً لعظمته وقدرته، فيتحسّس علّوه في كُلِّ ما حوله من الموجودات التي تحيط به، وربما ذكَرَ القرآن "المرعى" وحده كونه يرتبط بالأرض، باعتبار أنّه يمثّل التجربة الحيّة التي توحي له بمسألة الحياة والموت (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) (النحل/ 65)، فكما أنّ الله سبحانه قادرٌ على إحياء الأرض بعد موتها، قادرٌ على إحياء الموتى (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (فصّلت/ 39).

ثمّ تنطلق الآيات القرآنية مُوجَّهة لرسول الله (ص) (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى) (الأعلى/ 6)، نُقرئك القرآن وآيات الله ووحيه قراءةً تستقرُّ في عقلك وقلبك وكيانك لتستوعب القرآن في كلّ عناصر هذا الكيان، فلا تنسى ذلك أبداً (إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ) (الأعلى/ 7)، إلا إذا شاء الله لك أن تنسى، ونحن نعرف أنّ الله تعالى لم يُرِد للنبي (ص) أن ينسى أبداً، ولكنْ ذكر ذلك حتى يُوحيَ إليه (ص) أنّ أمره بيد الله، وهو القادر على أن يُقرِأه فلا ينسى (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى) (الأعلى/ 7)، فعندما يُقرئك الله ذلك، ويريد منك أن تبلّغه وتعلّمه وتعمل به وتطبّقه في حياتك وحياة الآخرين، تذكّر هذه الحقيقة، وهي أنّه سبحانه لا يخفى عليه شيء، فإذا جهرتَ بالشيء أو أعلنته فإنّه يعلمه، وإذا أسررته وأخفيته، فكذلك يعلمه، فالجهر والسِّرُ عنده سواء. أما البشر فيختلف عندهم حال الإعلان عن حال الخفاء، أما هو سبحانه، فالأمر عنده حالٌ واحد، لأنّه يعرف عُمْقَ الأمور وخفاياها، كما يعلم سطحها وظواهرها. وهذه نقطةٌ إيمانية، من الضروري أن تعيش في وعي المؤمن، فكما أنّ عليه أن يتقي الله في الجهر، عليه أن يتقيه في الإخفات.

وبعد أن يُقْرِئَ اللهُ نبيَّه قرآنه، فإنّه يسدّده (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) (الأعلى/ 8)، نُيسِّر خطواتك – يا محمّد – ودربك وحياتك ونهجك وكلَّ أمرٍ تتحرّك فيه. واليُسرى مفسّرةٌ بالجنة، أي نيسِّرُك للجنة بتيسير خطواتك نحو مواقع رضى الله وطاعته التي تؤدِّي بك إلى الجنّة.

 

مسؤولية التذكير بالله:

وبعد هذا العرض القرآني لقدرة الله وعلمه، ما هي مهمةُ رسول الله (ص) ومسؤوليته أمام ذلك؟ (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) (الأعلى/ 9)، وكما أنّ هذا الخطاب يطلب من رسول الله (ص) أن يذكّر الناس بالله تعالى، فكذلك يحمِّل المسلم مسؤولية الدعوة إلى الله، ومسؤولية التذكير بثواب الله وعذابه.. لأنّ عليه كمسلم يحمل الإسلام في عقله وحياته – أن يقول كلمة الحق في أن يوقظ وعي الناس نحو الحقّ، ويوظّف في ذلك كلَّ إمكانياته وقدراته، ولا يُثبط عزيمته تمرُّدهم وابتعادُهُم، كما يفعل الكثيرون الذين يتخلّون عن دورهم في الدعوة، فيبرّرون إنسحابهم من الساحة بسبب أنّ الله ختم على قلوب البعض وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فما فائدة أن ندعو؟ فالجوُّ من حولنا يهزأ بنا ويسخر منا، فلماذا نُتعب أنفسنا، خصوصاً وأنّ النتائج معروفة هذا منطق اليائسين الذي يهربون من مواجهة مسؤولياتهم، لأنّ الله يأمرنا أن نذكِّر حتى ولو وضعوا أيديهم في آذانهم، فلعلّ الكلمة تدخل إلى الأذن وتأخذ طريقها إلى العقل والقلب، ثمّ قد تأتي الكلمة الثانية والثالثة والرابعة، وربما تُوجِد في شخصية من نذكِّره بالله خزّاناً من المواعظ، فيعود إلى الله، كما المطر ينزل خفيفاً خفيفاً، أو نقطة نقطة، فيأخذها الهواء ويجفّفها، ولكنها تُبقي في الأرض شيئاً من الرطوبة، فتأتي النقطة الثانية والثالثة تنزل إلى الأرض فتتحوّل إلى خزّان. لذلك، إنّ علينا أن نذكِّر مَن يقبل منا ومَن لا يقبل حتى نعذر إلى الله (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى) (الأعلى/ 10)، مَن عاش في قلبه الخوف من الله وحَسِبَ حساب المصير، وفكّر بيوم القيامة. وإذا سمع كلمة الله أوّلاً وثانياً، وكانت الغفلة تحيط بعقله وقلبه، فسوف تفتح كلمات الله ثغرةً هنا في عقله، وثغرةً هناك في قلبه، وثغرةً هنالك في شعوره، وستنفتح نفسه كلُّها على الله تعالى. وأمّا مَن عطّل سَمْعَ الأذن والقلب (وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى) (الأعلى/ 11)، ولم يبدِ أيِّ استعداد ليفتح قلبه على الحقّ، وأعلن التمرّد، وأظهر الكِبْرَ والاستعلاء والاستكبار، وأظهر عدم استعداده لأن يسمع أو يفهم أو يفكّر، فما النتائج التي يتحمّلها؟ (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا) (الأعلى/ 12-13)، جزاء ضلالهم وفجورهم وفسقهم أنّهم يدخلون إلى النار ويأكلون الزّقوم ولا يطيقون العذاب، فيتمنون الموت ظنّاً منهم أنهم يتخلّصون من هذا العذاب (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) (الزخرف/ 77)، خلّصنا فليقضِ ربُّك علينا بالموت. ويأتيهم الجواب سريعاً (قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ) (الزخرف/ 77)، لا، (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا) (الأعلى/ 13)، لا يُحِسُّ براحة الموت، ولا يُحِسُّ بطعم الحياة.

هذا الشقيّ، وأما السعيد (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى/ 14)، الناجح المفلح الذي تظهرُ علاماتُ النجاح في دروبه ونهايات أمره، والمطمئن للنتائج الإيجابية في حياته، هو الذي يزكِّي نفسه ويطهِّرُها، وينمّي الطاقات الحيّة الإيجابية فيها على خطِّ الورع والتقوى، وهذا السعيد، مَن بقي ذكر ربِّه حاضراً في وعيه (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى/ 15)، لم يذكره باللسان وحسب، بل ذَكَره حضوراً في وعيه في كُلَّ منطلقات حياته، ولذلك، فإنّه يصلّي، لا من خلال العادة، ولكن من خلال وعيه لمقام ربِّه وإحساسه بعبوديته له، وإيمانه بأنّ عليه أن يقوم لربِّه في ليله ونهاره.. وهذا هو سرُّ الفلاح وسرُّ النجاح.

ولكن، ما مشكلة هؤلاء الذين لم يخشوا مقام ربِّهم فطغوا واستكبروا وانحرفوا وضلّوا؟ (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (الأعلى/ 16)، تفضّلون الحياة الدنيا على الآخرة، كما لو أنّ الدنيا خالدةٌ لا تفنى، وكما لو أنّها مطلوبة لنفسها، بينما هذه الحياة الدنيا مطلوبةٌ لغيرها (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/ 77)، لك حظٌّ في الدنيا، لكنّ الدنيا ليست كلَّ حظِّك "الدنيا مزرعةُ الآخرة" (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى/ 17)، خيرٌ من الدنيا وأبقى، لأنّ نعيمها يختلف عن نعيم الدنيا، ومدى الآخرة غير مدى الدنيا، مدى الدنيا هو مدى عمرك، ومدى الآخرة هو مدى الخلود، ونِعَمُ الدنيا ممزوجةٌ بالشقاء والراحة والفرح والحزن، أما نِعَمُ الآخرة، ففرحٌ لا حزنَ معه، وراحةٌ لا تعب معها، ولذا هي خيرٌ وأبقى (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) (الكهف/ 46).

وهذا الحديث الذي يتلوه رسول الله (ص) عن الله تبارك وتعالى، ليس حديثه وحده، إنّما هو حديث الأنبياء – عليهم السلام – الذين أرسلهم الله ليذكِّروا الناس بالله، ليتخذوا طريق الفلاح، بأن يزكّوا أنفسهم ويذكروا اسمَ ربِّهم ويصلُّوا له (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (الأعلى/ 18-19)، كي يسيروا على ما سار عليه الأنبياء، وينطلقوا في الخط الذي انطلق فيه الأنبياء ليصلوا إلى الله من أقرب طريق.

 

المصدر: كتاب من عرفان القرآن

ارسال التعليق

Top