أ) العوامل الذاتية أو الاستعدادات الطبيعية والعقلية والميول والاهتمامات، إلى جانب التماهيات الأساسية والدوافع الواعية واللاواعية.
إنّ اختيار المهنة يرتبط بعلاقة المراهق بالراشدين، إذ تارة يعجب بأستاذه، وتارة بأحد أبطال السينما أو الرياضة أو السياسة أو الفن أو الحرب، مما يدفعه إلى التأرجح والتغير السريع في اختياراته.
والدوافع الواعية تتحدّد من خلال التأثير بالمحيط، ومن خلال البحث عن الشهرة والمال والنفوذ، أو الخدمة العامة والإنسانية. أما الدوافع اللاواعية فإنّها تظهر في الرغبة بالهروب والاحتجاج والتسلط والمواقف عن الوالدين والأخوة والأسرة.
وإلى جانب هذين النوعين من الدوافع نجد الدوافع التعويضية، إذ يجد المراهق في مهنة الطيار أو الجندية أو البحار متنفساً لإحباطاته ومعاناته الداخلية والخارجية.
ب) العوامل الخارجية أو التأثير الأهل والطبقة الاجتماعية/ الاقتصادية.
إنّ تأثير الأهل في اختيار المهنة من قبل المراهقين يظهر من خلال:
- رفض الإبن اختيار مهنة الأب
- اتخاذ موقف تحدي للأهل في اختيار المهنة
- رفض المهنة المقترحة من الأهل، وتبني وجهة نظر معاكسة كموقف معارض للأهل الذين يرغبون، من خلال اختيارهم مهنة ولدهم، في السيطرة على حياته. وتحدِّد أيضاً الطبقة الاجتماعية/ الاقتصادية مجال اختيار المهنة في نطاق مختلف بحسب البيئة الريفية أو المدينية والطبقة العمالية والفقيرة، والطبقات البورجوازية الصغيرة والعليا والمتوسطة.
وأخيراً، فإنّ النظام الاجتماعي وما يقدِّمه من أهداف ووسائل متناقضة أو غير متناقضة، يؤثر في توجهات المراهقين واختياراتهم المهنية، إذ إنّ الوعي بتناقض النظام الاجتماعي، كثيراً ما يؤدي إلى الرفض والتمرد والانسحاب، كما يمكن ملاحظته في جماعات المراهقين. في اختيار المهنة إذن، كما يتبيَّن لنا، يمكن أن نميز ميلين مختلفين لدى كل فرد:
- ميل إلى اختيار موحى به من الخارج.
إنّ التأثيرات النفسية والاجتماعية والاقتصادية تلعب دوراً أساسياً في تثبت التفضيل الخاص والحميم، وتأثير الأسرة والمعلمين يمارس على الصعيد العملي في الاختيار الخارجي. إنّ الاستقصاءات التي أجريت حول اختيار المهنة من قبل المراهقين، أظهرت أن عدداً صغيراً من الأبناء يرغبون في مزاولة مهنة آبائهم، كما قلنا سابقاً، ليس نتيجة عدم تأثير من قبل الأسرة، بل على العكس نتيجة تأثير سلبي، إذ إنّ المراهق الذي يشارك هموم مهنة والده يتمكن من تمييز عيوب هذه المهنة. وإذا كانت الأم تتذمر من حياتها العائلية بسبب المهنة الأبوية، فإن ذلك يكون له وقع على الصعيد العاطفي لدى المراهق يدفعه إلى موقف عدواني. كذلك إذا حاولت الأسرة أن تمارس ضغطاً لإجباره على اختيار مهنة والده، نذكر هنا استقصاء قام به "أوريليا" (Origlia) على عدد من الطلاب في مدارس ثانوية في مدينة "ميلانو" حول تأثير الأهل أعطى النتائج التالية:
1- التوافق في الاختيار بين الأهل والأبناء 39,8%
2- التعارض في الاختيار بين الأهل والأبناء 24.2%
3- الأهل يتركون للأبناء حرية الاختيار 26.5%
4- الأهل مترددون في فرض الاختيار 7.8%
إنّ وجود تعارض بين الأهل والمراهقين في ما يقارب ربع الحالات، يدفع إلى التساؤل عن موقف المراهق في مثل هذه الحالة.
لذلك قام "أوريليا" بطرح السؤال التالي: إذا كان اختيارك واختيار أهلك لا يتوافقان فهل ستقاوم أم لا؟ وإذا كنت ستقاوم فلماذا؟ جاءت الإجابات على الشكل التالي:
1- أجاب 23.3% أنّهم لن يقاوموا بل يقبلون المهنة التي يختارها الأهل لهم، لأنّهم يعتقدون أنّهم أقدر على الحكم واختيار الطريق الأفضل.
2- بعض الإجابات جاءت معبرة عن مخاوف من مشاكل مع الأهل أو خيبة أمل لهم.
3- ولكن 48.1% أي الأغلبية، أجابوا بأنّهم يعارضون بشكل قاطع رأي الأهل إذا جاء غير متوافق مع اختيارهم، ويبررون ذلك بالحجج التالية:
أ) إن طموحات الأبناء لا ينبغي أن تصدَّ من قبل الأهل، لأن هؤلاء الأبناء سيفشلون في عملهم إذا لم يتوافق عملهم مع ميولهم.
ب) كلّ فرد يجب أن يكون له حرية اختيار طريق المستقبل. إنّ الأمر يتعلق بمستقبله وليس بمستقبل الأهل.
ت) إن كلّ فرد يعرف، بشكل أفضل، إمكانياته واستعداداته.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أن صعوبة التقرير بحرية، غالباً ما تؤدي إلى أنّ الاختيار يتم نتيجة لأسباب خارجية وطباعية.
وبالنسبة لبعض المراهقين فإن ضرورة اختيار مهنتهم، إضافة إلى الرغبة في إظهار استقلاليتهم في هذا الاختيار يوقعاهم في أزمة قلق مهني حقيقية. فيسألون كثيراً ويظلون في حالة تأرجح وتردد نتيجة شدة تعقيد المهن الحالية، ونتيجة للتقلبات في استعداداتهم. وعدم التأكد من إمكانية الاختيار يدفعهم إلى الاستسلام في قبول المهنة دون تفكير جدي بالمستقبل، مشددين على اعتبارات مؤقتة ومعتمدين على آراء الأهل والأصدقاء أو ضغوطهم.
ويمكن هنا ذكر حالات عديدة لمهن كان اختيارها في اللحظة الأخيرة، ولأسباب خارجية محضة، إما لأنّها لاقت قبولاً من الأهل، وإما لأن أحد الأصدقاء قد قرر سلوك هذا الطريق، وإما لأنّه قرأ مجلة أو ملصقاً يظهر محاسنها.
ومن المعروف أنّه في حالات أخرى، يُدفع المراهق إلى اختيار المهنة نتيجة بعض اضطرابات الطبع. ومثال على ذلك حالة السادية المصدودة، يمكن أن تدفع الفرد إلى الرغبة في مهنة تتطلب عدم الإحساس بألم الآخرين (جراح، جزار، طبيب بيطري...)؛ أو حالة التعويض عن الشعور بالدونية حيث الاختيار يقع على المهن التي تمكِّن من السيطرة على الأشخاص الآخرين (المهن العسكرية...) أو حالة الأفراد الذين يعانون من عدم الاستقرار، فيختارون المهن التي تتطلب التنقل الدائم...
إنّ البحوث وقياس الاستعدادات التي أصبحت ضرورية، نتيجة لتعدُّد المهن المتخصِّصة، تحمل كثيراً من المخاطر والأخطاء، خصوصاً بالنسبة للمراهقين. ولكن التجربة تبيِّن أهمية التوجه المدرسي والمهني. إذ إنّ التخصص الدقيق أدّى إلى تعدُّد المهن وتزايد الاختلافات بينها، إلى درجة أصبح فيها التوجيه المهني ضرورة حتمية. وقد وضعت تقنيات فعّالة لكشف الاستعدادات ولقياسها. ولكن مطابقة الاستعدادات التي تتطلبها المهن مع استعدادات الفرد ليست بالأمر السهل.►
المصدر: كتاب المراهقة (أزمة هوية أم أزمة حضارة)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق