الأجرُ والثوابُ ربحٌ خالدٌ، لا يُقارَن بأي ربحٍ دنيوي عابر، وهو رصيدٌ يحتاجه الإنسان يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنون.
يوجِّه الله المؤمنين لعباداتٍ وأعمالٍ تتراكم لمصلحتهم في الآخرة أجراً وثواباً، فيدعوهم إلى الذكر الكثير الذي يُشكِّل حماية لهم بوجود الرقابة الدائمة لله تعالى، وإلى التسبيح بُكرَةً في الفترة الصباحية، وأصيلاً في فترة ما بعد الظهر إلى المساء، أي في زحمة العمل المعيشي والحركة النهارية للإنسان، وهو شكلٌ من أشكال الذِّكر ويحقِّق أهدافه.
إنّ رعاية الله للمؤمنين حاضرة دائماً، فهو يُصلِّي عليهم أي يرحمهم، والملائكة تُصلي عليهم أن تُزكِّيهم، ففي تفسير قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب/ 56)، يقول أمير المؤمنين علي (ع): "صلاةُ الله رحمةٌ من الله، وصلاةُ ملائكته تزكيةٌ منهم له، وصلاة المؤمنين دعاءٌ منهم له".
يُبيِّن لنا الإمام الصادق (ع) مدى سعة الذِّكر، فيقول: "ما من شيءٍ إلّا وله حدٌّ يَنتهي إليه، إلّا الذكر فليس له حَدٌّ ينتهي إليه، فَرَضَ الله عزّ وجلّ الفرائضَ فمن أدّاهنّ فهو حدُّهُنّ، وشهر رمضان فمن صامه فهو حدُّه، والحجَّ فمن حجّ فهو حدُّه، إلّا الذكر فإنّ الله عزّ وجلّ لَمْ يَرْضَ منه بالقليل، ولم يجعل له حدّاً ينتهي إليه، ثمّ تلا هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا)".
تُترجَمُ الرحمةُ الإلهية هدايةً، قال تعالى: (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)، أي ليهديكم إلى الصراط المستقيم، فالكُفر والانحراف ظلمات، والطاعة لله تعالى نور، فبرحمة الله تعالى يخرُجُ المؤمنون من الظلمات إلى النور في الدنيا بالهداية، ثم ينالون الأجر الكبير يوم القيامة.
(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا)، التحية بينهم وبين الله تعالى يوم القيامة هي السلام، السلامُ في يوم القيامة يختلف عن السلام في الدنيا، فعندما نُلقي السلام بيننا في الدنيا، يعني تجنب المشاكل وعدم الاعتداء، أمّا سلام الآخرة فهو أُنسٌ، وجنة، وخلود، وواطمئنان، وراحةٌ نفسية وجسدية تامة للمؤمنين، وهو عطاءٌ مفتوحٌ ومريح لا تمنعه أي عقبة.
1- فلسفة الأجر:
تقوم فلسفة الأجر على عدم البدلية المباشرة للأعمال في الدنيا، بل على الثواب المؤجل إلى يوم القيامة، يمنحه الله تعالى مقابل الأعمال الحسنة فيها. وهي رؤية مختلفة تماماً عن نظرية المنفعة والمصلحة المباشرة كبدلٍ لأي عمل، والتي تنطلق من الرؤية المادية والظرفية لمعاملات الناس مع بعضهم، ولو أدّى ذلك إلى ظلم الآخرين أو فساد وحرمة هذه المعاملات، من دون أن تلحظ تلك الرؤية المعنويات والتضحية والإحسان وتأجيل المكافأة.
فلسفةُ الأجر مبنيةٌ على أنّ قيمة الإنسان بإيمانه وعمله، وليس بإمكاناته ومكانته الاجتماعية، ومَن يبتغي الأجر يعمل لدرجةٍ من درجات التقوى، التي ترتقي إلى الأتقى، فيتدرج الإكرام والأجر بمستوياته المختلفة إلى الأكرم، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). إنّ التركيز على القربة من الله تعالى، هي الترجمة العملية لفلسفة الأجر، تقول: أُصلي قربةً إلى الله تعالى، وأصوم قربةً إلى الله تعالى، وأحج قربةً إلى الله تعالى، وأُسلِّم قربةً إلى الله تعالى، وأُسامح قربةً إلى الله تعالى، وأصبر قربةً إلى الله تعالى...، وكلّ الأعمال قربةً إلى الله تعالى، ما يُرتِّبُ أجراً من عند الله تعالى، وهو ما وعدنا الله تعالى به: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 277)، وقال: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (المائدة/ 9).
تختلفُ حركةُ الإنسان الذي يتوقع الأجر من عند الله تعالى، عن المستعجل لاستثمارها مباشرة بالحرام، فالفرقُ كبيرٌ بين عملٍ يبتغي الأجر، وعملٍ يبحث عن اللذة والهوى، قال أمير المؤمنين علي (ع): "شَتّان ما بَيْنَ عملَيْنِ، عملٍ تَذهَبُ لذّتُه وتبقى تَبِعَتُه، وعَمَلٍ تَذهَبُ مؤونَتُه ويبقى أجرُه"، فالتعب والعناء موجودان على كلّ حال، ولكن الفرق هو استقرار العقاب يوم القيامة بسبب اللذة العابرة المحرمة، مقابل اللذة المعنوية بالانتصار على الحرام في الدنيا، وانتظار الثواب في يوم القيامة.
تتكرّر الحالة بصورة أخرى، عندما يحلُّ القضاء بمصيبة على الإنسان، فإذا ما تقبّلها كان مأجوراً، وإذا ما عاندها فلن يغيِّر شيئاً، ثم يتحمّل تبعات هذا الرفض. عن أمير المؤمنين علي (ع): "إن صَبَرْتَ جرى عليك القدرُ وأنتَ مأجورٌ، وإن جَزِعت جرى عليك القدر وأنت مأزُورٌ"، فلنصبر على ما أصابنا قربةً إلى الله تعالى، فنأخذ الثواب والأجر في الآخرة على ما صبرنا عليه.
انطلقت دعوة النبي محمد (ص) لهداية البشر، وابتغاء مرضاة الله تعالى والأجر منه، (يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) (هود/ 51).. وهكذا فعل جميع الأنبياء الذين عانوا الكثير مع أقوامهم، ودعوهم ليلاً ونهاراً، وسرّاً وجهاراً، ابتغاء مرضاة الله تعالى.
نذر أمير المؤمنين (ع) وفاطمة (عليها السلام) أن يصوما لله تعالى ثلاثة أيام إذا شفى الله تعالى الحسن والحسين (عليهما السلام)، وكذلك نذرت فضة، فشفاهما الله تعالى، فصاموا وفاءً للنذر، وما أن أشرف اليوم الأوّل على نهايته قريب الإفطار، حتى طرق باب منزلهم مسكين طالباً المساعدة، فأعطوه الأرغفة الخمسة من الشعير والتي أُعدت للإفطار، ولم يذوقوا إلّا الماء. وتكرّر الأمر في اليوم التالي مع يتيم، ثم في اليوم الثالث مع أسير، فنزلت آيات من سورة الدهر تحيي موقف بيت الإمام الذي يُعبِّر عن قمة الإيمان والأخلاق والإنسانية، بقوله جلّ وعلا عنهم: (إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 5-9).
الأجر من الله تعالى، لا يُعادله أي بدل، قال تعالى: (وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يوسف/ 57).
وصّى أمير المؤمنين علي (ع) الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) ومما قاله لهما: "قُولا بالحقِّ واعْمَلا للأجْرِ".
ووصف المتقين، في خطبة المتقين، بقوله (ع): "ولولا الأجلُ الذي كَتَبَ الله عليهِمْ، لَمْ تستقرَّ أرواحُهُم في أجسادِهِمْ طَرفَةَ عَيْنٍ، شَوْقاً إلى الثَّوَابِ، وخَوْفاً مِنَ العِقابِ"، فالمتقون يبتغون الأجر من عند الله تعالى، ويتشوقون إلى الموت، ليحصلوا على ثواب الله تعالى في الآخرة.
يروى أنّ المنصور – الخليفة العباسي في زمن الإمام الصادق (ع) – عاد من السفر، فالتفَّتْ حوله الحاشية والرعية وهنأته بالعودة، إلّا الإمام الصادق (ع) لم يأتِ إليه فكتب المنصور إليه: "لِمَ تغشانا كما يغشانا سائر الناس؟
فأجابه: ليس لنا ما نخافك من أجله، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك، ولا تراها نقمة فنعزيك بها، فما نصنع عندك؟
فكتب إليه: تصحبنا لتنصحنا.
فأجابه (ع): مَن أراد الدنيا لا ينصحك، ومن أراد الآخرة لا يصحبك". فالهدف هو القربة إلى الله تعالى، لتحصيل الأجر، وهو غير موجود عند المنصور في تلك الظروف.
2- جزيل الثواب:
يتوقع المؤمن أجراً كبيراً في بعض الحالات بناءً على الروايات التي تتحدّث عن آلاف وعشرات آلاف الحسنات على عملٍ ما، وقد ناقش الفقهاء هذه الروايات، وخلصوا في الغالب الأعم إلى ما ورد عن الإمام الصادق (ع): "مَن بلَغَهُ عن النبي (ص) شيءٌ فيه الثواب ففعل ذلك، طلب قول النبي (ص)، كان له ذلك الثواب وإن كان النبي (ص) لم يقله"، إكراماً لمن توقع الأجر الكبير، وتشجيعاً على القيام بالمستحبات.
مواردُ الأجر متنوعة، ويزداد ثوابه بقدر المشقة، عن أمير المؤمنين (ع): "ثواب العمل على قدر المشقة فيه". وأعظم الثواب للجهاد في سبيل الله تعالى، لما فيه من تضحيةٍ عظيمةٍ، فعن علي (ع): "ثواب الجهاد أعظم الثواب".
ومن موارده الصبر على المصائب، فعن الإمام الحسن (ع): "المصائب مفاتيح الأجر".
وعن الإمام الباقر (ع): "لو يعلم المؤمن ما له في المصائب من الأجر، لتمنّى أن يُقْرَض بالمقاريض".
يُعطي الله تعالى الأجر بمراتب مختلفة، وزيادات متفاوتة، وفي كلِّ الأحوال يكون أضعافاً مضاعفة، فمن الأجر ما يكون عشرة أضعاف الحسنة مقابل احتساب السيئة بواحدة، قال تعالى: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (الأنعام/ 160).
ومنه ما يكون سبعمائة ضعف وزيادة، قال تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 261).
ويكون الأجر بأحسن عمل من مجموع الأعمال المتشابهة، فيُحتسَب أجر الصلوات في حياة المؤمن على أساس أفضل صلاة صلّاها، وأجر الأعمال على أساس أفضل عمل قام به: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل/ 97).
ويكون الأجر بلا حدود، فهو مفتوحٌ إلى درجة الإغراق في العطاء الإلهي، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (فصّلت/ 8)، فالأجرُ مستمرٌ، لا يتوقف ولا ينقطع، ويتضمّن ما يشتهيه المؤمن ويريده، مما يعرفه ومما لا يعرفه.
يدعم الله تعالى المؤمنين المتقين بتخليصهم من أسوأ سيئاتهم، ويُجزيهم بحسناتهم بلحاظ أحسنها، قال تعالى: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الزّمر/ 35).
انظر إلى موارد الأجر التي تتسع لكلِّ شيء، وإلى مستوى العطاء الذي يفوق التصور، ففي خطبة الرسول الأكرم (ص) في استقبال شهر رمضان المبارك: "أنفاسُكم فيه تسبيح، ونومُكم فيه عبادة، وعملُكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، ... ومَن تطوَّع فيه بصلاةٍ كتَبَ الله له براءةً من النار، ومَن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب مَن أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومَن أكثر فيه من الصلاة عليّ ثقل الله ميزانه يوم تخفُّ الموازين، ومَن تلا فيه آيةً من القرآن كان له مثل أجر مَن ختَمَ القرآن في غيره من الشهور"، الشهيق والزفيرُ خلال التنفس بطريقة لا إرادية تسبيحٌ لله تعالى، والنومُ الذي لا حركة فيه ولا عمل عبادة، وهكذا... يتراكم الأجر بسرعة كبيرة، فماذا يريد الإنسان أكثر من هذا اللطف والفيض؟.
كلُّ هذا العطاء يستدعي الشكر لله تعالى، ولكن الإنسان عاجز عن المستوى اللائق والمناسب للشكر، وفي بعض الأدعية: "وارْزُقني الحَقَّ عند تقصيري في الشكر لك بما أنعَمْتَ عليَّ في اليُسْرِ والعُسْرِ والصِّحّة والسَّقَمِ"، لأني لا أعرف يا رب كيف أشكرك، فمهما شكرتك فقليلٌ جدّاً، لذا أتّكِلُ عليك لتعزِّز حالة الشكر لدي.
المصدر: كتاب مفاتيح السعادة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق