• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإعلام العربي والمسؤولية الاجتماعية

قدري الراعي

الإعلام العربي والمسؤولية الاجتماعية

◄في ظل هذه الطفرة الهائلة في المجتمعات الإعلامية، وما تشهده من تطوّر تقني كبير، وانفتاح رهيب على الآخر، وقدرة غير مسبوقة على تشكيل توجهات الأفراد والمجتمعات والتأثير الفاعل في تكوين رأي جمعي حيال المواقف والقضايا والأفكار المحلية والعالمية، يتجلى الدور المهم والخطير الذي تضطلع به السلطة الرابعة أو القنوات الإعلامية، بما تشمله من صحافة، وإذاعة، وتلفاز، وسينما، ومسرح، وكتب، ومواقع متباينة وشتى للتواصل الاجتماعي، وغيرها من أدوات الإعلام التي تعرض لمختلف القضايا والآراء والأطروحات التي تهم الشأن العام على الصعيدين المحلي والعالمي.

وما من شك في أنّ التاريخ الإنساني المعاصر ليشهد بالفضل الكبير لوسائط الإعلام والإتصال المختلفة في توفير ذلك الكمّ الهائل من المعارف والمعلومات، وتيسير عمليتي الانفتاح والتواصل مع العالم الخارجي، وصوغ قيم حياتية جديدة، والمشاركة في تنميط الأذواق والمشارب والقناعات، واختصار الدروب الوعرة للوصول إلى معدلات مرتفعة من الثقافة العامة، على نحو من الرحابة والسهولة لم يكن متاحاً كمّاً أو كيفاً في أي زمن مضى من الحياة الإنسانية فوق هذه الأرض.

ولعل أخطر وسائل الإعلام تاثيراً في تشكيل الوعي الجمعي لدى المجتمعات والدول، وصوغ رأي عام موحد للأفراد، وتشكيل وجدان المواطن سلوكاً ومعتقداً، هو جهاز التلفاز، وذلك بما يملكه من قدرات غير عادية في هذا المضمار، لاسيما أنه دون غيره من أدوات الإعلام المختلفة ينفرد بتقديم الكلمة المسموعة والمرئية في آنٍ واحد، وهو الآن بلا شك أكثر قدرة على مخاطبة الرأي العام والتأثير فيه، فالصورة هنا من بين كل وسائط الإعلام والاتصال تبدو الأدوات الأكثر فاعلية في تبليغ الرسالة، والعصا السحرية القادرة على تحقيق المقاصد والغايات، والجِنيّة العجيبة التي تستولي على النفس وتجذب الإنتباه، وتُعطل المثيرات المحيطة، فإذا العقل مشدودٌ إليها، مقبلٌ عليها، مفتونٌ بسحرها وأفاعيلها!

ومما يُحسب لمزايا هذه الآلة الجهنمية الخطيرة (التلفاز)، هو خروجها عن المألوف في طريقة الأداء، وكسرها للنمط الكلاسيكي القاصر في طريقة العرض على مجرد نقل الأخبار وبثّ المشاهد الحيّة لجمهور المتلقين، وتبنّيها لوسائل عرض أخرى ومعايير مهنية ووظيفية جديدة تتسم بالجدّية والعُمق والشمولية من خلال برامج متنوعة تهدف إلى معالجة نوعية لجميع القضايا التي تهم الفرد والأسرة والمجتمع والدولة، الأمر الذي صرف عيون الدولة والمؤسسات الاجتماعية إليها لاستغلالها على نحو بنّاء ومثمر في القضايا ذات الأبعاد الاجتماعية والقومية.

والمتأمل في أدبيات العملية الإعلامية في الفكر العربي بوجه خاص والفكر الغربي بوجه عام، يرى كثيراً من الدعوات التي تنادي بضرورة منح الأداة الإعلامية قدراً كافياً من الحرّية، بحيث يتسنى للإعلاميين الانطلاق والتحليق في أجواء من السعة والرحابة ومخاطبة الرأي العام دونما قيود من رقابة أو سلطة.

ذلك جميلٌ، وهذا حقّهم، بيد أنّ نظرية الحرّية نفسها لا شك تأتي بعواقب وخيمة إذا لم يكن لها ضابط من وازع أو ضمير أو إحساس بالمسؤولية تجاه النفس والآخر والوطن عموماً.

إنه من نافلة القول: إنّ التلفاز سلاح ذو حدّين، وإنه كما أفاد أضر، وكما أحيا أمات، وكما أفصح أعجز، وكما أبان أغلق، وكما سلّط شموس الحق واليقين على قضايا شائكة ومجهولة للعوام، فأبانها وأوضحها وأجلاها، كذلك شحذ سكاكينه وحواته ومهرجيه فأفسدوا على العوام حياتهم ومعتقداتهم وأمنياتهم.

وفي البيئة العربية، عمد الإعلام العربي قاصداً أو غير قاصد إلى زعزعة منظومة القيم في عقول النشء.

 

ومن هذا المنطلق برزت في الميدان الإعلامي نظرية أخرى جديدة وموازية لنظرية الحرّية، اسمها "نظرية المسؤولية الاجتماعية الإعلامية"، وقد شهدت الولايات المتحدة الأمريكية البداية الأولى لهذه النظرية في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما احتدم الصراع بين أنصار الحرّية الإعلامية وفريق المحافظين الذي ارتأى ضرورة أن يكون للرأي العام رقابة على آداب المهنة الإعلامية.

لقد كان ضرورياً أن ينصرف المهتمون بتطوير الإعلام إلى خلق أدوات وقواعد ومعايير أخرى في مواجهة نظرية الحرّية الإعلامية، يكون من شأنها جعل الإعلام أداة فاعلة وبنّاءة في تطوير المجتمعات والدول، والارتقاء بالفرد: وجدانه وفكره.

لهذا كانت الحاجةُ ملحةً إلى ظهور تلك النظرية الجديدة في ساحة الإعلام، التي تقوم في جوهرها على ممارسة العملية الإعلامية في أجواء من الحرّية قائمة على المسؤولية الاجتماعية تجاه حياة الأفراد وهوية الوطن.►

 

* المصدر: مجلة العربي العدد 700 لسنة 2017م

ارسال التعليق

Top