الشهيد السيد محمد باقر الصدر
◄العبادات لها دور كبير في الإسلام، وأحكامها تمثل جزءاً مهماً من الأحكام الشرعية، والسلوك العبادي يشكل ظاهرة ملحوظة في الحياة اليومية للإنسان المتدين.
ونظام العبادات في الشريعة الإسلامية يمثل أحد أوجهها الثابتة التي لا تتأثر بطريقة الحياة العامة وظروف التطور المدني في حياة الإنسان إلا بقدر يسير، خلافاً لجوانب تشريعية أخرى مرنة ومتحركة يتأثر أسلوب تحقيقها وتطبيقها بظروف التطور المدني في حياة الإنسان كنظام المعاملات والعقود.
ففي المجال العبادي يصلي إنسان عصر الكهرباء والفضاء، ويصوم ويحج، كما كان يصلي ويصوم ويحج سلفه في عصر الطاحونة اليدوية.
صحيح أنّه في الجانب المدني من التحضير للعبادة يختلف هذا عن ذاك، فهذا يسافر إلى الحج بالطائرة وذاك كان يسافر ضمن قافلة من الإبل، وهذا يستر جسده في الصلاة بملابس مصنعة أنتجتها الآلة وذاك يستر جسمه بملابس نسجها بيده، ولكن صيغة العبادة العامة وطريقة تشريعها واحدة، وضرورة ممارستها ثابتة لم تتأثر ولم تتزعزع قيمتها التشريعية بالنمو المستمر لسيطرة الإنسان على الطبيعة ووسائل عيشه فيها.
وهذا يعني انّ الشريعة لم تعط الصلاة والصيام والحج والزكاة وغير ذلك من عبادات الإسلام كوصفة موقوتة، وصيغة تشريعية محدودة بالظروف التي عاشتها في مستهل تاريخها، بل فرضت تلك العبادات على الإنسان وهو يزاول عملية تحريك الآلة بقوى الذرة؛ كما فرضتها على الإنسان الذي كان يحرث الأرض بمحراثه اليدوي.
ونستنتج من ذلك ان نظام العبادات يعالج حاجة ثابتة في حياة الإنسان خلقت معه وظلت ثابتة في كيانه على الرغم من التطور المستمر في حياته. لأنّ العلاج بصيغة ثابتة يفترض انّ الحاجة ثابتة، ومن هنا يبرز السؤال التالي:
هل هناح حقاً حاجة ثابتة في حياة الإنسان منذ بدأت الشريعة دورها التربوي للإنسان، وظلت حاجة إنسانية حية باستمرار إلى يومنا هذا، لكي نفسر على أساس ثباتها ثبات الصيغ التي عالجت الشريعة بموجبها تلك الحاجة وأشبعتها، وبالتالي نفسر استمرار العبادة في دورها الإيجابي في حياة الإنسان؟
وقد يبدو بالنظرة الأولى أن افتراض حاجة ثابتة من هذا القبيل ليس مقبولاً، ولا ينطبق على واقع حياة الإنسان حين نقارن إنسان اليوم وإنسان الأمس البعيد، لأننا نجد انّ الإنسان يبتعد – باستمرار – بطريقة حياته ومشاكلها وعوامل تطورها عن ظروف مجتمع القبيلة الذي ظهرت فيه الشريعة الخاتمة، ومشاكله الوثنية؛ وهمومه وتطلعاته المحدودة. وهذا الابتعاد المستمر يفرض تحولاً أساسياً في كل حاجاته وهمومه ومتطلباته، وبالتالي في طريقة علاج الحاجات وتنظيمها، فكيف بإمكان العبادات بنظامها التشريعي الخاص أن تؤدي دوراً حقيقياً على هذه الساحة الممتدة زمنياً من حياة الإنسانية، على الرغم من التطور الكبير في الوسائل وأساليب الحياة ولئن كانت عبادات كالصلاة والوضوء والغسل والصيام مفيدة في مرحلةٍ ما من حياة الإنسان البدوي، لأنها تساهم في تهذيب خُلُقه والتزامه العملي بتنظيف بدنه وصيانته من الإفراط في الطعام والشراب، فإنّ هذه الأهداف تحققها للإنسان الحديث اليوم طبيعة حياته المدنية، وأسلوب معيشته اجتماعياً. فلم تعد تلك العبادات حاجة ضرورية كما كانت في يوم من الأيام، ولم يبق لها دور في بناء حضارة الإنسان أو حل مشاكله الحضارية.
ولكن هذه النظرة على خطأ، فإنّ التطور الاجتماعي في الوسائل والأدوات، وتحول المحراث في يد الإنسان إلى آلة يحركها البخار أو يديرها الكهرباء، انما يفرض التغيير في علاقة الإنسان بالطبيعة وما تتخذه من أشكال مادية، فكل ما يمثل علاقة بين الإنسان والطبيعة، كالزراعة التي تمثل علاقة بين الأرض والمزارع، تتطور شكلاً ومضموناً من الناحية المادية تبعاً لذلك.
وأمّا العبادات فهي ليست علاقة بين الإنسان والطبيعة، لتتأثر بعوامل هذا التطور، وانما هي علاقة بين الإنسان وربه، ولهذه العلاقة دور روحي في توجيه علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وفي كلا هذين الجانبين نجد انّ الإنسانية على مسار التاريخ تعيش عدداً من الحاجات الثابتة التي يواجهها إنسان عصر الزيت وإنسان عصر الكهرباء على السواء. ونظام العبادات في الإسلام علاج ثابتة من هذا النوع، ولمشاكل ليست ذات طبيعة مرحلية، بل تواجه الإنسان في بنائه الفردي والاجتماعي والحضاري باستمرار، ولا يزال هذا العلاج الذي تعبر عنه العبادات حيّاً في أهدافه حتى اليوم، وشرطاً أساسياً في تغلب الإنسان على مشاكله ونجاحه في ممارساته الحضارية.►
المصدر: كتاب (نظرة عامة في العبادات)
ارسال التعليق