◄يواجه الإنسان في هذه الحياة كثيراً من التحدّيات والضغوط، من خارجه ومن داخله، فهو يواجه قسوةً من الطبيعة التي يعيش في أحضانها، وخصوصاً في مثل أوقات الزلازل والفيضانات وسائر الكوارث الطبيعية، كما تمرّ عليه صعوبات في توفير متطلّبات الحياة، وقد تواجهه ضغوط في علاقاته الاجتماعية، وهي تؤثّر كثيراً في نفس الإنسان، وخصوصاً إذا كانت من الدوائر القريبة، فكلّما كانت دائرة العلاقة قريبة، كانت ضغوطها أشدّ، إذا كانت للإنسان مشكلة مع شخص ما في بلد آخر، أو بعيداً عن بيته، فهذا أسهل ممّا لو كانت المشكلة داخل بيته، مع زوجته أو أولاده.
وكما قال الشاعر العربي طرفة بن العبد:
وظُلمُ ذَوي القُربى أشدُّ مَضاضـةً على المَرءِ من وَقعِ الحُسامِ المُهَنّـدِ
الأزمات النفسية هي الأخطر
وهناك مشاكل قد يعانيها الإنسان من داخله، كاعتلال صحّته الجسمية، والأخطر إذا كانت المشكلة في صحّته النفسية، ما يشكّل مأزقاً وضغطاً كبيراً على الإنسان، فقد يُصاب بالاكتئاب أو الإحباط، وقد تدفعه بعض الحالات النفسية للتفكير في إنهاء حياته، وقد تكون هذه الحالة النفسية نتيجة الإحساس بلا جدوى الحياة، أو الشعور بالفشل العميق، وهذا لا يرتبط دائماً بالمشاكل المادّية، ففي بعض الأحيان، تكون المشكلة النفسية انعكاساً لمشكلة اجتماعية أو فكرية، وأحياناً يحصل الاضطراب النفسي دون وجود مشكلة خارجية، فهناك أشخاص يمتلكون مواهب، ولديهم إمكانات وقدرات مالية ومكانة اجتماعية، ومع ذلك، قد تسيطر عليهم مشاعر التأزّم النفسي، فتضطرب حياتهم ويلجأون إلى الانتحار. وحسب الإحصائيات الحديثة، هناك %14 من سكان العالم يعانون الاكتئاب الشديد، أمّا حالات الانتحار، فحدّث عنها ولا حرج، هناك شخصيات لها مواقع ومناصب سياسية، وبعضهم لهم مكانة اقتصادية كبيرة، لكن الحالة النفسية قد تدفعهم للتفكير في إنهاء حياتهم!.
الإيمان منبع الاطمئنان
إذاً، يواجه الإنسان مثل هذه الأزمات، تارةً من خارجه وتارةً من داخله، فحاجة الإنسان ماسّة إلى جهة دعم ومساندة، يثق بقدرتها على عونه ومساعدته، وباستجابتها لطلبه ورجائه، وهنا يأتي دور الإيمان بالله سبحانه وتعالى، حيث لا يتحقّق الاطمئنان النفسي إلّا بالإيمان بإله خالق هو على كلّ شيءٍ قدير، يلجأ إليه الإنسان من أجل المساندة والدعم.
حينما يؤمن الإنسان بالله القادر على كلّ شيء، الرحيم الرؤوف بعباده، فإنّه يكون مرتبطاً بجهة دعم تبعث الطمأنينة في النفس، لهذا نجد أنّ حالات الاكتئاب والانتحار في المجتمعات المتديّنة أقلّ وأخفّ منها في المجتمعات الأُخرى، مع أنّ الضغوط الخارجية الحياتية كبيرة في المجتمعات المتديّنة، كما هو الحال في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية.
إنّ المفاهيم الدينية تعمّق في نفس الإنسان الثقة بربّه، والركون إلى رحمته، والأمل والرجاء في عونه وإغاثته، لذلك تركّز آيات القرآن الكريم على إبراز حنوّ الله ورأفته بعباده، يقول تعالى: (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)، وفي آيةٍ أُخرى: (وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ). والرأفة هي المساعدة في رفع الضرر وإزالة المكروه عن الإنسان، والرحمة أعمّ، وهي إيصال الخير والمسرّة للإنسان، الله تعالى يؤكّد هذه الصفة دائماً وأبداً لذاته تجاه خلقه، كما يوجّه الله تعالى الدعوة لعبده الإنسان أن ينفتح عليه، يقول تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60)، ويقول تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي) (البقرة/ 186).
وعيد مع وقف التنفيذ
وحتى حينما يقع الإنسان في معصية ربّه ومخالفته، فإنّ الله لا يغلق الباب أمام عبده، ولا ينتقم منه إن بادر للتوجّه إلى ربّه، فمهما كانت ذنوب الإنسان ومعاصيه، فإنّ رحمة الله تعالى أوسع، ورأفته أعظم، صحيح أنّ الله تعالى قد حذّر عباده من المعصية، وتوعّدهم بالعقاب والعذاب إذا اقترفوا المعاصي، لكنّ ذلك التوعّد بالعذاب من أجل دفع الناس للاستقامة في حياتهم، وكلّ ما توعّد الله به من عذاب وعقاب، فهي أحكام مع وقف التنفيذ، إن صحّ التعبير، إذا تمادى الإنسان المخالف المذنب في معصيته يستحقّ الحكم عليه بالعذاب، لكن هل ينفذّ هذا الحكم؟
فتح الله تعالى أمام الإنسان أبواب التوبة، لكي يتجاوز تنفيذ هذه الأحكام التي يستحقّها، وذلك من رأفة الله ورحمته بالناس، يقول الله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزّمر/ 53). هل هناك أكثر من هذا الأمل الواسع الذي يفتحه الله سبحانه وتعالى أمام الإنسان؟
لقد ناقش علماء الكلام من المسلمين مسألة الوعد والوعيد، وهم يفرقون بين (إذا وعد) و(إذا توعَّد)، إذا وعد بالخير وفى، (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، أمّا إذا توعَّد بالعقاب، فهل يجب الوفاء بالوعيد؟!
علماء المسلمين يقولون لا يجب الوفاء بالوعيد، عدا فئةٍ من معتزلة بغداد، يقولون: يجب على الله أن يعاقب العاصي!!
لكنّ الرأي السائد عند علماء المسلمين، أنّ الله يفي بالوعد، لكنّه قد يتنازل عن الوعيد بمشيئته ورحمته لعباده، يقول تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) (الرعد/ 6) يظلمون أنفُسهم بالمعصية، لكنّ الله ذو مغفرة للناس (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ) (الرعد/ 6)، لكن هناك عدّة مخارج وعدّة طُرُق للتخلّص من هذا العذاب والعقاب الإلهيّ.
كيف نتحدّث عن الله لعباده؟
الثقافة الدينية والخطاب الديني ينبغي أن يركّز على هذا الأمر، كيف ينبغي أن نعرّف الله للناس، كيف نتحدّث عن الله لخلقه وعباده؟
بعض الخطاب الديني يطيل الحديث عن جانب الوعيد والعقوبات، لكنّه لا يركّز على الوعد بالمغفرة وبالثواب، وهذا فقدان للتوازن، بعض الدُّعاة يصوّرون الله تعالى أمام الناس وكأنّه جلّاد منتقم، لذلك تحصل حالات سلبية في بعض أوساط المتدينين، بسب عدم التوازن في الخطاب الديني، مثل بعض حالات الوسواس والاضطراب في القضايا العبادية، بدايتها من الشعور بالخوف الشديد من عقاب الله، يخشى من حدوث خلل في الغُسل أو الوضوء يؤدِّي به إلى النار والعذاب!!
حينما يبالغ الإنسان في مثل هذه الأُمور، يقع في مشكلات نفسية، بينما إذا تعرّف الإنسان إلى ربّه الغفور الرحيم الرؤوف بعباده، وأنّ رحمته سبقت غضبه، وأنّ رحمته وَسعت كلّ شيء، هذه الصورة إذا سكنت قلب الإنسان ترفع معنوياته، وتجعله أقرب إلى ربّه، محبّاً له سبحانه، وهناك فرق بين المحبّة والهيبة، فهناك شخص تحبّه وتنجذب إليه، وشخص تهابه وتخاف منه، لا شكّ أنّ الشعور بالمحبّة هو الشعور الأفضل في نفس الإنسان.
الله سبحانه وتعالى يريد أن يكون شعور العبد تجاهه شعور المحبّة، والإحساس بالرحمة والرأفة، صحيح أنّه يعرف أنّ الله شديد العقاب، لكن هذه الحالة استثنائية قليلة نادرة.
حينما بلغ الإمام زين العابدين (ع) أنّ الحسن البصري يقول: ليس العَجَبُ ممّن هلكَ كيف هلكَ؟ وإنّما العَجَبُ ممّن نَجا كيف نَجا. قال: «أنا أقولُ: ليس العَجَبُ ممّن نَجا كيف نَجا، وإنمّا العَجَبُ ممّن هلكَ كيف هلكَ، مع سِعةِ رحمةِ اللهِ».
فالأصل هو الرحمة والرأفة، ورد عن رسول الله (ص) أنّه قال: «ما خَلقَ اللهُ من شيءٍ إلّا وقد خَلقَ له ما يَغلِبُهُ، وخَلقَ رحمتهُ تَغلِبُ غَضبَهُ». وعن الإمام عليّ (ع): «اللهُ أرحَمُ بك من نفسِكَ».
وكما جاء في الدُّعاء: «يا مَن وَسِعتْ كلَّ شيءٍ رَحمَتُهُ، يا مَن سَبَقتْ رَحمَتُهُ غَضبَهُ».
فالنصوص تركّز على هذا المعنى، وخصوصاً في هذا العصر، حيث يواجه الإنسان مختلف الضغوط في الحياة، ويحتاج إلى مساندة ودعم، وإلى رفع معنوياته. لذلك، لابدّ وأن تُطرح المفاهيم الدينية التي تقرّب الإنسان إلى ربّه، وتفتح أمامه آفاق الأمل.
وللأسف، هناك بعض المتديّنين نفوسهم ضيِّقة، حينما يَرَون أشخاصاً لديهم بعض المعاصي، ينبذونهم، ولا يأملون فيهم خيراً، بينما النصوص الدينية تحذِّر من مثل هذا التفكير. جاء في وصيّة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) لولده الإمام الحسين (ع): «أي بُنيَ، لا تُؤيِس مُذنِباً، فكم من عاكِفٍ على ذنبِهِ خُتِمَ له بخيرٍ، وكم من مُقبِلٍ على عَملِهِ مُفسِدٌ في آخرِ عُمُرِهِ صائرٌ إلى النارِ».
لذلك، ينبغي التوازن في خطابنا الديني، وأن نتحدّث عن رأفة الله، ورحمته بعباده، لكي نرفع معنويات الإنسان، ونحبّبه إلى الله، وكم من الأحاديث القدسية التي تدعو إلى حُسن الدعوة إلى الله تعالى، كما ورد في الحديث القدسي، أنّ الله خاطب نبيّه داوود: «حَبّبَني إلى عبادي».
إنّ نظرة المتديّنين لمن يرونه مخالفاً للتديّن والالتزام، ينبغي ألّا تكون نظرة سوداء قاتمة، بل عليهم أن يعرفوا أنّ رحمة الله أوسع وأعظم وقد تشمل هذا الإنسان. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق
تعليقات
زينب
مقال أكثر من رائع.. وثقتنا بالله الكريم لن تموت أو تنتهي.. نشكركم على هذا المقال المريح في شهر نحن بأمس الحاجة لهكذا مقال يعطينا دعم معنوي لإكمال مسيرتنا في هذه الحياة. وجزاكم الله خير الجزاء