ما أن ولجت الحافلة، حتى أبصرت ذلك الرجل، بمعطفه الخشن، وشفتيه المطبقتين القاسيتين.
حينما اقتربتُ منه، ألقيت التحية على مسمعيه في محاولة للفت إنتباهه إلى ضرورة لملمة ساقيه المنفرجتين، وباعهِ المفتوح حول الجريدة التي يقرؤها.
أكثر من هذا، أنني عمدت إلى إستعراض بقية مقاعد الحافلة بعيني؛ لكي أشعره باضطراري إلى الجلوس لصقه بسبب إمتلاءه المقاعد الأخرى بالركاب، غير أنّ الرجل لم يلتفت إليَّ، ما دعاني إلى البحث عن مبرر؛ لتعرفّعه عن الرد على تحيتي. قلت في نفسي، لابدّ أنّ الرجل منهمك بقراءة خبر مهم في الجريدة، ثمّ قلّصتُ جسمي ودسست نفسي إلى جانبه، علّه يتزحزح ويتيح لي فرصة الجلوس في المقعد باعتدال وراحة.
غير أنّ هذا لم يكن وارداً عنده، بدليل أنّ الحافلة تحركت، وانطلقت بنا دون أن يتحرك هو! وبدليل أنّه لم يحفل بتلملمي وبتنهداتي التي أردت من خلالها إشعاره مرة أخرى، بوجودي المنكمش إلى جانبه.
حينما ضايقتني طريقته المكشوفة في تجاهله لي، قلت بأدب:
- لو سمحت، ابتعد قليلا: لكي أرتاح في جلستي. وراعني أنّه رد على احتجاجي ببرود غريب، وبلغة فصحى لا لحن فيها:
- لست مستعداً للتضحية براحتي من أجلك.
ثمّ أطبق شفتيه بقسوة، كأنّما ليتخلص من كل آثار تنازله المتمثل في الرد على إحتجاجي.
الحقيقة أن صوته الصلب، أثار في نفسي شيئاً من الجزع الذي ترسّخ حينما لمحت جلد يده المشدود بقوة إلى الوراء حيثّ الرسغ البارز، غير أنّ هذا لم يمنعني من معاودة المطالبة بحقي في اقتسام المقعد معه مناصفة؛ لذا جمّعت نفسي:
- طيب يا أخي، وراحتي أنا؟
- لست مسؤولا عن راحتك.
- لكنك حققت راحتك على حساب راحتي أنا؟
قلتها بغيظ وإنفعال، فرد بذات الصوت الصلب:
- ليكن، المهم أنني مرتاح.
ومما زاد من دهشتي أنّه لم يكلف نفسه عناء النظر إليَّ أثناء إطلاقه عباراته المحددة، بل ظل ينظر إلى الجريدة بعينين زجاجيتين جامدتين!
قلت باحتجاج:
- لكن راحتي أيضاً مهمة، ألا ترى أنك لا تفكر إلاّ بنفسك؟
فرد بذات البرود، ودون أن يلتفت إليَّ:
وما الخطأ في هذا؟
الخطأ؟ تساءلت، ثمّ قررت في نفسي أنّه لم يحصل بيني وبين الرجل اشتباك بالأيدي؛ طالما هو يفكر بهذه الطريقة؛ لذا تجرأت وقلت ممعنا في إستفزازه:
- الخطأ أنّ الذي لا يفكر بغيره هو أناني.
وتوقعت أن يرد عليَّ هذا الإستفزاز بشيء من الحدة، غير أنّه صعقني ببروده الغريب حينما قال:
- ما الخطأ في أن يكون المرء أنانيّاً؟
- الأنانية صفة سيِّئة.
- سأريحك، أنا سيئ، ولكن ما الخطأ في هذا؟
- ألا يهمك أن تكون سيِّئاً؟
فهز رأسه إلى الوراء كأنما ليقول لا، فسألته بفزع:
- لماذا؟ لماذا لا يهمك؟
- لأنّ راحتي هي الأهم، أما أن أكون سيِّئاً، فهذه تظل مسألة نظرية لا علاقة لها براحتي.
- عظيم، وكيف تفصل بين النظري والعملي في حالتك هذه؟
- العملي أنني مرتاح في جلستي، أما النظري فهو أنني سيِّئ!
في تلك الحافلة، دار بيني وبين الرجل حديث ساخن حول مفهوم الأنانية والنظري والعملي والخطأ والصواب، وكان من الممكن أن يستمر ذلك الحديث، حتى قيام الساعة لولا أنني التفتّ فجأة إلى الوراء، فرأيت بيتي عبر زجاج الحافلة وهو يبتعد، بينما تسير الحافلة بسرعة، فنهضت كالملدوغ، وأحسست بأن جسمي يتمدد ويعود إلى طبيعته بعد إنكماش استمر طوال الطريق، وقبل أن أغادر المقعد، قذفتُ في وجه ذلك الرجل عبارة أخيرة حانقة:
- أتدري؟ أنت أسوأ مخلوق رأيته في حياتي.
- فنظر إلى وجهي لأوّل مرة وهو يبتسم، ربّما لأوّل مرة في حياته أيضاً، ثمّ قال بنبرة إنتصار:
- تذكّر أنني عبر هذا الحديث أنسيتُك حقك في اقتسام المقعد معي.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق