• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مصادر الخير في نفوسنا

الشيخ الراحل محمد مهدي الآصفي

مصادر الخير في نفوسنا
◄ما هو مصدر هذا الخير الذي ينبع من نفس الإنسان ويطلبه الإنسان لله تعالى ولرسوله (ص) ولكتابه ودينه ولأئمة المسلمين وللمسلمين؟ وإنّ النفس لشحيحة بالخير ضنينة به، وهذه طبيعة من طبائع النفوس: (وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ) (النساء/ 128). (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) (الأحزاب/ 19).

    فكيف تتحول هذه النفوس الشحيحة والضنينة بالخير إلى مصدر يعطي الخير ويقدمه ويفيض به؟

    وللجواب عن هذا السؤال نقول:

    الحب مصدر الخير:

    الحب مصدر كلّ خير في نفس الإنسان. وأكثر ما يكون في النفس من خير وعطاء فإن مصدره الحب، وأكثر ما يكون في النفس من شحّ وبخل وضنك فإن مصدره البغضاء والكراهية.

    إنّ الحب يمنح النفس القابلية على العطاء والقدرة على فعل الخير، فإذا دخل الحبّ النفس فاضت بالخير والرفق والإحسان والبذل والعطاء، وتحوّلت النفس البشرية إلى واحة خضراء مباركة كثيرة العطاء، وإذا أقفرت النفس من الحبّ تحوّلت إلى أرض قاحلة غير ذات زرع، فلم تجد فيها غير الحقد والبغضاء والعدوان والمكر والكيد.

    

   التبادل بين الحب والنصيحة:

    للامام أمير المؤمنين (ع) كلمات في هذا المجال ينقلها الآمدي عنه (ع) في (غرر الحكم):

    يقول (ع)، كما في رواية الآمدي: "النصح ثمرة المحبة" فالنصح لله ولرسوله وللمؤمنين ينبع في النفوس من الحب لله ورسوله.

    ويقول (ع) في كلمة أخرى يرويها الآمدي أيضاً: "النصيحة تثمر الود" أي إنّ النصيحة تصنع الحب والود في القلوب، وهذه الكلمة معاكسة للكلمة السابقة، وهما معاً ترسمان صورة للعلاقة المتبادلة بين "النصيحة" و"الحب"، فالنصيحة تصنع الحب، والحب يصنع النصيحة.

    ولا يكاد ينبع الخير والنصيحة من النفس إلّا من منبع الحب والود، وهذه حقيقة في النفوس فطر الله تعالى الناس عليها.

    

   الحب من مقولة التوحيد والاخلاص:

    الحب من مقولة التوحيد والاخلاص... ولا يكون في نفس الإنسان المؤمن غير حب واحد، هو حب الله عزّ وجلّ، وكل حب آخر في نفوس المخلصين من المؤمنين لابدّ أن يكون امتداداً لهذا الحب بنحو من الانحاء.

    وتتسع نفس الإنسان المؤمن لحب الله تعالى، وكل من يحب الله تعالى من رسله وملائكته وأوليائه وعباده الصالحين. ولا تضيق النفوس المؤمنة بهذا الحب مهما امتد وتسلسل، ولكنها تضيق بالحب إذا أرادت أن تجمع بين حب الله تعالى وحب أعداء الله، فلا تتسع لهما النفس، يقول تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب/ 4).

    إذاً مبدأ كلّ حب في نفس الإنسان المؤمن الذي اخلص نفسه وحبه وعواطفه وهواه لله تعالى هو حب الله تعالى، وهو الحب الحاكم في النفس، وكل حب آخر ينفي هذا الحب ويعارضه فإن على الإنسان المسلم أن يغلق منافذ قلبه دونه، فلا يجتمع في نفس الإنسان المؤمن حبان: حب لله تعالى وحب للدنيا (مثلاً).

    فقد روي عن رسول الله (ص): "حب الدنيا وحب الله لا يجتمعان في قلب أبداً".

    وعن الامام الصادق (ع): "والله ما أحب الله من أحب الدنيا ووالى غيرنا".

 

  تمحيص العلاقة وتخليصها:

    وهذا هو البعد الثاني للنصيحة. فلابدّ في النصيحة من أن تكون العلاقة خالصة و(ناصحة)، لا يشوبها مكر أو سوء، ولا تستبطن سوءاً أو شراً. وليس معنى ذلك أن لا يطلب الإنسان لنفسه نفعاً أو خيراً في العلاقة، فلا بأس أن يطلب الإنسان لنفسه في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية خيراً ونفعاً، ولكن على أن تستبطن هذه العلاقة من الغش ما لا يظهر وما يبدو عليها.

 

    فليس من النصيحة أن يتظاهر الإنسان بالخير والصلاح ويستبطن نيّة السوء أو المكر، أو يبرز جانب الصلاح والخير، ويخفي الجانب الآخر. وهذا هو الغش الذي يشبه النفاق أحياناً، والمكر والكيد أحياناً أخرى.

    وقد روي أن رسول الله (ص) مر على صُبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ من غشّنا فليس منا".

    فالنصيحة هي إرادة الخير التي لا يشوبها الشر ولا تستبطن السوء. و(النصيحة) بهذا المعنى هي الوجه الثاني للعلاقة، ومرحلة متقدمة وعليا لتحكيم العلاقة وتمتينها بعد مرحلة السلام.

    ويصحّ أن نقول: إنّ (السلام) يعتبر مرحلة تزكية العلاقة، وتطهيرها، وتجريدها من السوء، بينما تعتبر النصيحة مرحلة فوق هذه المرحلة، تتضمن إغناء العلاقة بالخير والمودّة والتعاون والنصرة والاسناد. وبذلك فإن نسيج العلاقة في هذه الشبكة الواسعة (شبكة الولاء) يتكون من عنصرين أساسين هما (السلام) و(النصيحة) وتوجزهما هذه الكلمة المأثورة عن الامام أمير المؤمنين (ع) في صفة المتقين في (نهج البلاغة): "الخير منه مأمول، والشر منه مأمون".

    فإنّ "السلام" هو أن لا يريد الإنسان الشر والسوء للآخرين و"النصيحة" أن يطلب الإنسان الخير لغيره.

    

   دور السلام والنصيحة في تمتين العلاقة ووقايتها:

    وهذان العنصران يضعان العلاقة التي تربط الإنسان المسلم بالله ورسوله، وأوليائه، وبالآخرين من أبناء نوعه على أساس متين، فإنّ العلاقة عندما تعتمد هذين الأساسين تتنزّه عن إرادة السوء بالآخرين، وتتشبّع بإرادة الخير، وتصبح قوية ومتينة وأمينة، وتسلم من الضعف.

    وفي نفس الوقت فإنّ هذين العنصرين يقيان العلاقة من السوء والاختلال في المجتمع وفي نفس الإنسان، فإنّ العلاقة عندما تقوم على أساس ضعيف تتعرّض لعوامل الإخلال والإساءة والإفساد القائمة في المجتمع، وفي النفس، وتتأثر بسرعة بهذه العوامل، أما عندما تقوم العلاقة على أساس صحيح من (السلام) و(النصيحة)، وتتكون خيوط العلاقة منهما جميعاً، فإنّ العلاقة تقاوم إلى حد بعيد عناصر الإخلال والإفساد القائمة في النفس والمجتمع. ومردود سلامة العلاقة على الإنسان نفسه بصورة مباشرة وقوية، فإنّ العلاقة إذا سلمت سعد الإنسان وسلم واستقامت له حياته، وإذا فسدت العلاقة شقي الإنسان واختلّت حياته، وأكثر شقاء الناس وعنائهم وعذابهم من فساد العلاقة. ولذلك يعطي الإسلام مثل هذا الاهتمام العجيب بأمر العلاقة، ويضع شبكة العلاقات الإنسانية ضمن هذا القانون المتكامل، قانون (الولاء)، بهذه الصورة.

    

  وجوب النصيحة في الإسلام:

    و"النصيحة" "كالسلام" ليست أمراً كماليّاً في بناء المجتمع الإنساني، وفي بناء شبكة العلاقات الإنسانية، وإنما هي في نظر الإسلام حاجة ضرورية لا يمكن أن يستغني عنها الإنسان، ومن دونها لا تستقيم حياته.

    ولذلك تضافرت النصوص في الإسلام على وجوب النصيحة وتحريم الغشّ، كما تضافرت على وجوب السلام وتحريم العدوان.►

 

    المصدر: مجلة رسالة الثقلين/ العدد 10 لسنة 1994م

ارسال التعليق

Top