• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أهم الدروس التربوية للنهضة الحسينية

عمار كاظم

أهم الدروس التربوية للنهضة الحسينية

انّ البعض ممكن يعيش في ظل بني أُميّة وممّن يعيش اليوم وهو يعتبر الدين مجرد الصلاة والصيام من دون تطبيق حدود الله ونشر الفضيلة والالتزام بالأخلاق وتهذيب النفس ومساعدة المظلومين والعطف على الفقراء.. بينما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلخص الدين في كلمة واحدة ويقول: «الدين المعاملة». والمعاملة مع من؟ أليست مع العائلة في البيت والأصدقاء والاخوان والمعارف خارج البيت؟ والجيران والزملاء في العمل والمدرسة والسوق؟... ثمّ أليس الدين هو الالتفات الى من الذي يحكمنا ويسير شؤوننا ويقرر مصيرنا؟ وأليس الدين هو ان نعرف ماذا يحدث للمسلمين من حولنا... كم منهم يقتل وكم منهم يسجن ويذبح ويموت جوعاً وكم منهم ينام في العراء؟.

أليس الدِّين هو ان نمد يد العون الى البؤساء من حولنا؟ ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَن أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم»!؟ هذا النوع من الدِّين لم يكن له أثر في دولة بني أُميّة وفي ظل الحراب والسيوف وأعواد المشانق.. بل كان الاسلام يعرف بالاسم فقط وبالحركات المجردة من المعان. انّ القرآن الكريم عندما يتحدَّث عن الصّلاة يصفها بأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر. واذا لم تحقّق أهدافها المرسومة لها فلا قيمة لها، لأنّها تعتبر عندئذٍ مجرَّد حركات رياضية، والحديث يؤكِّد: كم من صائم ليس له من صيامه الّا الجوع والعطش وكم من قائم ليس له من قيامه الّا السّهر والتّعب. وهكذا قل عن من يقرأ القرآن ولا يتدبَّر فيه ولا يدرك معناه ولا يطبِّقه فالحديث يقول عنه: رب تال للقرآن والقرآن يلعنه... ويقول القرآن الكريم عن الركون الى الظالم: (وَلا تَرْكَنُوا اِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود/ 113)، بينما نرى انّ كثيراً من يصلّون ويصومون هم أعوان للظلمة ينفذون أوامرهم. والقرآن يدعو الى نبذ المنكر والأمر بالمعروف، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ اِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 104)، بينما نرى انّ انماطاً من النّاس يملأ المنكر بيوتهم.. والقرآن يدعو للوحدة تحت ظل الاسلام الصحيح... اسلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي يقول عنه: «انِّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي» بينما نرى انّ الذي كان يمثل رسول الله ويجلس مجلسه في دولة بنيّ أُميّة، كان يمزِّق القرآن الكريم بالسهام والآخر يدمِّر الكعبة المشرفة بالمنجنيق ويحرقها ويبيح المدينة المنوَّرة لجيشه ثلاثة أيّام ويقتل ويذبح ذرِّيّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقرآن ينادي أناء الليل واطراف النهار: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 124)، و(مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة/ 32)، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكِّد: «الخلافة محرمة على آل أبي سفيان» ومع كلّ هذا كان طغاة بنيّ أُميّة يعتبرون خلفاء لنبيّ الاسلام والسائرون على نهجه والمطبّقون لتعاليم القرآن ولازال العالم الاسلامي حتى هذه الساعة يعيش الآلام والمصائب التي عاشها في ظلّ حراب بنيّ أُميّة ويبحث عن الحسين يحييه من رقدته ويعيد اليه رشده وصوابه.

فالامام الحسين (عليه السلام) أراد ان يبيّن للأُمّة أنّ المبادئ الاسلامية فوق الرجال والشخصيات، وأنّ القائد والامام ليس له من الأمر شيء. فلابدّ للأُمّة ان ترتبط بالمبادئ أوّلاً، ثمّ ترتبط بمن يكون سلوكه مصداقاً لتلك المبادئ؛ فالمبادئ ثابتة والرجال يقتربون ويبتعدون منها، فقدّم الحسين المبادئ على نفسه وان كان اماماً وابن بنت رسول الله (عليه السلام) وجعل الحقّ فوق نفسه فقال: «فمن قَبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحق». شخّص الحسين (عليه السلام) مصداق الامامة ومن يكون له حقّ التصدّي لامامة الأُمّة؛ فهو الشخص المحكوم بالاسلام ومبادئه، وليس كلّ من يصل الى دفّة الحكم وان لم يكن أهلاً لها. فيقول (عليه السلام): «.. فلعمري ما الامام الّا العامل بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق». فيزيد، وكلّ من سار على نهجه ممّن لم يكن سلوكه وسيرته مطابقاً للمبادئ الاسلامية، ليس له حقّ الطاعة، ولا يجوز الانقياد له الّا في الحدود التي فيها مصلحة اسلامية كبرى. من أجل ان لا تتوزّع الولاءات على شخصيات عديدة.

حين تشتدّ المصائب وتتخاذل قوى الاسناد، وينظر الانسان حواليه، فيجد نفسه مجرّداً من وسائل النصرة وأسباب الخلاص، فلا جهة تحميه ولا قوّة تنجده، معه قوّة قليلة وفي مقابلها كثرة عديدة، جاء من أجل انقاذها، واذا بها تقاومه وتطارده، فلا يبقى له من ركن وحصن واسناد الّا الله تعالى الذي يملك الغوث والنجدة، فيلتجئ اليه في مثل هذه الأوضاع ليمنحه الأمن والقوّة والثبات، هذا هو أهمّ الدروس التربوية التي سطّرتها النهضة الحسينية، فالحسين (عليه السلام) ومَن معه لم ينقطع اتصالهم بالله تعالى في جميع الأحوال والظروف، واستسلموا له تمام الاستسلام. ففي وصيّته (عليه السلام) يشرح أهداف ثورته ثمّ يقول: «ومن يردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم.. وما توفيقي الّا بالله عليه توكّلت واليه أنيب». وحينما اقترح عليه ابن عباس بالتوجّه الى غير العراق قال له: «فانّي أستخير الله وأنظر ما يكون». وحينما أراد الجيش الأموي الهجوم عليه قبل يوم عاشوراء قال لأخيه العبّاس: «ارجع اليهم فان استطعت ان تؤخّرهم الى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره». وفي وسط الميدان وقد أثخنته الجراح كان يردّد: «بسم الله وعلى ملّة رسول الله... هوَّنَ عليَّ ما نزل بي أنّه بعين الله». وفي أشدّ ظروف المعركة كان يدعو: «اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت به العدوّ أنزلته بك وشكوته اليك رغبة مني اليك عمّن سواك ففرّجته وكشفته وكفيتنيه فأنت وليّ كلّ نعمة...».

أيضاً: رفض الذلّ وعدم الخضوع للطغاة هو درس تربوي آخر من النهضة الحسينية وهو يشمل الدعوة الى تحقيق الحياة الكريمة وان كانت باهضة الثمن، بتقديم النفس الى القتل والابادة، وأنّ الخضوع للطغاة يعني استمرارهم في طمس معالم المنهاج الاسلامي في الحياة وانهاء القيم الاسلامية، وطغيان الطغاة لا يتمّ الا حينما يجد الطاغية خضوعاً واستسلاماً؛ والحسين أعطانا أبلغ الدروس في ايقاف حركة الطغاة وتحجيمها برفض الخضوع لهم والاستسلام لمخططاتهم. ففي جواب الحسين (عليه السلام) لابن الأشعث حينما أراد منه بيعة يزيد قال: «لا والله لا أعطيكم بيدي اعطاء الذليل ولا أقرّ اقرار العبيد». وقال: «ألا وانّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة». وقال: «... فانّي لا أرى الموت الا سعادة والحياة مع الظالمين الّا برَرَما». وفي ساحة المعركة يقول عليّ الأكبر: «والله لا يحكم فينا ابن الدّعي». والعبّاس واخوته رفضوا الأمان الذي تقدّم به «الشمر» وآثروا الموت بعزّة على الحياة بذل. ويخاطب الامام عليّ بن الحسين ابن زياد حينما هدّده بالقتل: «أبا لقتل تهدّدني يا ابن زياد!! أما علمت أنّ القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة».

حينما حفّت المخاطر بالاسلام، اندفع الحسين (عليه السلام) للتضحية، فقدّم كلّ عزيز وغال من أجل الاسلام، وضمّ في نهضته جميع الأصناف، الرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحرّ، والتركي والرومي والحبشي، فلا عذر لأحد لو داهم الاسلام خطر كخطر يزيد بن معاوية الذي كان هدفه طمس معالم الاسلام كما تخاطبه زينب (عليها السلام) قائلة: «فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا». واماتة الوحي تبدأ بتغيير المفاهيم الاسلامية وحرف الأُمّة عن المنهاج الاسلامي وان بقيت المظاهر اسلامية. الامام الحسين (عليه السلام) وان كان متيقّناً بالقتل ولكنّه لم يترك الأسباب الطبيعية للمقاومة والتهيؤ للقتال ومنها التخطيط، فقسم جيشه الصغير الى ميمنة وميسرة وقلب، وحفر خندقاً حول الخيام لئلا يباغته العدو بعد ان أضرم فيها النيران، فالنهضة الحسينية تعطينا درساً تربوياً ضرورياً في التخطيط لمجابهة أعداء الاسلام.

القيادة الاسلامية واجبة الطاعة في كلّ شيء مادامت مرتبطة بالاسلام وسائرة على هديه، فالقائد الربّاني دائماً يكون أكثر وعياً وادراكاً من غيره؛ والواجب العودة اليه في كلّ عمل وموقف يراد انجازه.

ارسال التعليق

Top