• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الموقف الحسيني.. ميزان ومعيار

عمار كاظم

الموقف الحسيني.. ميزان ومعيار

كان الموقف الحسيني ميزان ومعيار بين الحقّ والباطل، كان الإمام الحسين (عليه السلام) يدعو إلى الإسلام والسلام والهداية والوئام، ولم يكن داعية حرب وقتال كما هو شأن مَن يطلب الإمارة والسلطان، وإنّما كان داعية هداية وحقّ، ليمتلك النفوس والوجدان، قبل أن يمتلك الأجساد والأبدان، يقول (عليه السلام): «إنّي لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت أطلب الإصلاح في أُمّة جدي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر».

لم يكن الحسين (عليه السلام) يريد القتال، ولكنّه فُرض عليه فرضاً، وهذا القتال إن كان في ظاهره الحرب والقتل، فإنّه في باطه يعني تخليص المؤمنين من أشرار الأُمّة وتحريرهم من الطغيان. وكان قربان ذلك التحرير هو الإمام الحسين (عليه السلام)، فبنور الحسين (عليه السلام) أضاءت المشاعل في الطريق، ومن دم الحسين نبتت الهداية في النفوس. سار الإمام الحسين (عليه السلام) على نهج جده (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبيه (عليه السلام)، يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125).

ما الفرق بين الحكمة والموعظة؟ قال بعضهم: إنّ الحكمة تُعلّم الناس شيئاً لا يعرفونه فتهديهم به. أما الموعظة فهي أن تذكّرهم بما يعرفونه فترشدهم به. أمّا الجدال الحسن فهو الذي يكون هدفه الوصول إلى الحقّ، وليس فرض الرأي على الشخص الآخر، وذلك بأسلوب من اللطف والاحترام المتبادل، والله تعالى يقول: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159).

ركّز الحسين (عليه السلام) في دعوته على مبدأين رئيسين: الأوّل: أن لا يواجه أحداً حتى يبيّن له الحقّ ويدعوه إليه، ويبيّن له خطأه طلباً لهدايته، ولإقامة الحجة عليه ومن ذلك نصائحه ونصائح أصحابه لأهل الكوفة قبل بدء القتال. الثاني: أن لا يبدأ بالقتال حتى يكون عدوُّه هو البادئ به لأنّ البادئ هو المسؤول عن كلّ الدماء الحاصلة.

الحسين أصبح ناراً يحرق الطغاة ويهزّ عروش الظالمين وأصبح نوراً يهدي، ويسكب في النفوس عطراً، تربة الحسين تشمُّ منها رائحة الجنان، وعبير الفردوس. دم الحسين حوّل الأرض اليابس إلى واحة خضراء ومنتجع للقلوب تهفو لها النفوس وتتجذب إليها وتشتاق أن تلثمها.

إنّنا نريد أن نعيش عاشوراء القضية والتحدي أن نعيش حركة الإمام الحسين (عليه السلام) في الوجدان ونعيشها في السلوك ونعيشها في الأفكار ونعيشها رسالة ومسؤولية حتى تمرّ بنا الأيام وقد تطوّرنا وبنينا وعمرنا لأنّ المنطلق الأوّل في عملية التغيير والتحدي هو الإنسان من خلال ذاته. إنّنا نريد أن يعيش الإنسان في كلّ مكان حرّاً كريماً يكون الحسين في ذاته ومسؤولياته ووعيه في تحمّل هموم المحنة وكثرة الابتلاءات برضا وصبر وشكر، حتى نكون بذلك قد هيأنا أسباب الرحمة الإلهية والفوز بنصر الله تعالى.

نحن بحاجة أن نعيش الحسين كحالة إنسانية وإسلامية أرادت تحرير الإنسان كلّ الإنسان من قيود الجهل والتخلّف والذل. وهذا الموقف يحتاج منا أن نعيش الحسين من خلال العقل لا من خلال العاطفة المجردة. لأنّ العاطفة وحدها لا تكفي، بل نريد للعقل والعاطفة أن تمتزجا لنعيش حالة من الارتباط الإنساني والإسلامي من خلال العقل والعاطفة حتى يمكن أن يتأثر كلّ الناس بهذه الحركة المباركة كما تعلم منها الكثير ممن لا يعرفون الإسلام ولا ينتمون إليه.. كما قال غاندي: «تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فانتصر».

فالحسين.. البضعة الرسوليّة، قام بمهمّةٍ لا تقلّ خطراً عن مهمّة جدّه، فأبقى الإسلامَ كما بشّر به جدّه الكريم، وأودع في صدور المسلمين وديعةً ثمينةً تنبّههم بوجوب الحفاظ عليها، كأندرِ وأغلى ما يملكون. ولقد جاء في أخبار الحسين (علیه السلام) أنّه كان صورةً تشكّلت من صورة جدّه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، له شَبَهُه في الخُلُق والخِلقة.. تطلّع إليه الجدّ فرأى في مَخايِله سيماءَ مستقبل الأمّة وسؤددها، وحاملَ لوائها مِن بعده. السبط النبويّ ـ تطلّع إلى جَدّه.. فرأى فيه معنى الدِّين ومعنى العقيدة، واستشفّ من الأذان الذي كبّره (جَدُّه) في سريرته ـ ولمّا يَزَل (الحسين) رضيعاً ـ رؤى المستقبل الآتي. سيّد الشهداء ـ سما في شهادته فوق سمّو كلّ الشهادات التي أُوتيها أرباب الديانات وشهداؤها.. منذ زكريّا ويحيى حتى المسيح، فكان (الحسين) إمامَ حقّ، وسيِّد شهداء الحقّ. سيِّد شباب أهل الجنّة ـ أتمَّ حجّةَ الله في خَلْقه وفي دِينهِ الحنيف، وأبرزَ مظلوميّةَ آل محمّد، وأعاد دين النبيّ ـ الذي بشّر به إلى صراطه المستقيم ـ فأفنى ذاته وأهله في هذا السبيل، رَخّص نفسه الغالية فأغلى له اللهُ تعالى نفسَه على أنفُسِ ساكني جنّة خُلده، فصار سيِّدهم بما عَمِل وضحّى، وصار أحبَّ أهل الأرض إلى أهل السماء.

إنّها الثورة على السلطان الجائر، المستحل لحرمات الله ، والذي لا يرى لأحد حرمةً أمام استبداده، الناكث لعهده فلا يعاهد أحداً إلّا لينقض عهده معه على أساس انتهاز الفرص التي يستفيد منها لمصالحه، لينتقل بعد ذلك إلى فرص أخرى لمصالح أخرى، بعيداً عن أخلاقية الإنسان الذي يحترم كلمته ويلتزم بعهده. لأنّ الالتزام بالعهد لا ينسجم مع خططه الذاتية وأطماعه المادّية وشهواته الغريزية... الأمر الذي يجعل إسلامه شكلاً كلامياً لا يقترب من الصدق في الالتزام ولا في الاستقامة في خطّ السير. العامل في عباد الله بالإثم والعدوان، هو الرجل الآثم في تعامله مع الناس، العدواني في تصرّفاته معهم. لأنّه لا يعيش مسؤولية الحكم على أساس العدل، ولا يحترم الناس في علاقته بهم على أساس المسؤولية، فهو الوحش في صورة الإنسان. هذا هو الإنسان الذي يجب أن تقوم الأُمّة بالثورة عليه، لتغييره واستبداله بإنسان آخر من خلال الكلمة الثائرة والموقف القويّ الحاسم. فلا عذر للقادرين على عملية التغيير، أن يبتعدوا عن ساحة الصراع ضده، والثورة عليه، ولا مجال للحياد بينه وبين الحاكم العادل. وهكذا كان الحسين يتحدَّث عن الخطّ العريض للجانب الفكري من خطّ الثورة. أمّا الجانب التطبيقي في ساحة الواقع، فهو فريق الحكم الذي عاش في عصره.

فهؤلاء الناس، في صورة الحاكم وأتباعه، هم الذين تركوا طاعة الرحمن، فابتعدوا عن الله سبحانه في حياتهم واقتربوا من الشيطان في ذهنياتهم وخطواتهم، وبدّلوا الشريعة في نهجهم وطريقتهم، فإذا بالحلال يتحوّل إلى حرام عندهم، وإذا بالحرام ينقلب حلالاً في سلوكهم. ثمّ كان من أمرهم أن استأثروا بثروة الأُمّة فحوّلوها إلى ثروة شخصية، وعطّلوا الحدود التي أراد الله للعباد أن يقفوا عندها ولا يتجاوزوها، فأضاعوا الناس والحياة والدِّين كلّه. ولابدّ للحسين أن يغيّر بقوله وبفعله.

كانت الثورة الاستشهادية هي بداية التغيير من أجل أن تطلق الصرخة المدويّة، المضرّجة بالدماء، المنفتحة على كلِّ الحقّ والعدل والعزّة والكرامة والإنسان والحياة في حركة الحاضر نحو المستقبل.

تلك هي صورة التحدّي الحسيني في مواجهة الواقع المنحرف في داخل الواقع الإسلامي، لأنّ الحركة كانت حركة داخلية في ما يعانيه الوضع الإسلامي العام للأُمّة على مستوى الحكم والحاكم. ومن الواقع الذي عاشه الإمام الحسين في مرحلته، فقد كان الحكم في عصره يجعل الإسلام شعاراً له، ولكنّه كان ينحرف عنه في خطّ السير ونهج الحركة.

فهل نستطيع أن نبتعد عن خطّ الثورة في ذهنية المسلم الثائر؟ وهل نملك أن نتنكّر لحركة التغيير في وعي الواقع العملي لروحية التغيير؟ لابدّ أن يكون كلّ واحد منا مشروع ثائر في الخطّ والحركة والمعاناة.

تعليقات

  • 2021-08-25

    هدى عبد الله القصاب

    مقالات رائعة وثرية وتتسم بالوعي والعقلانية لكم كل الشكر

ارسال التعليق

Top