• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحسين (ع).. جهاد رسالي وسياسي فريد

عمار كاظم

الحسين (ع).. جهاد رسالي وسياسي فريد

كان الإمام الحسين (ع) شعار ومدرسة وتيّار كفاح وجهاد رسالي وسياسي فريد في تاريخ الإسلام.. لذلك كان دوره كبيراً، وأثره عظيماً.. فقد كان قوّة دافعة محرِّكة في أحداث التاريخ الإسلامي وخصوصاً الجهادي منه على مدى أجيال وقرون عديدة ولم تزل نهضته وحركته ومبادئه تتفاعل وتؤثر في ضمير الأُمّة ووعيها. حيث كانت لثورته الحسينية جَنبتان فكرية وعاطفية، ولعلّ من عظمتها أنّها فجّرت هاتين الجنبتين بأروع ما يكون التفجير، وتعاملتْ مع قلب الإنسان وعقله بأعمق وأصدق ما يكون التعامل، وهذا هو سرّ عظمتها وسرّ خلودها.. لقد فجّرت هذه الثورة من العواطف النبيلة ما لم تستطع تفجيره أيّة ثورة أو نهضة في كلّ تأريخ الثورات في العالم وبلا استثناء، واحتوت من العمق العقائدي والعمق الفكري ما لم تحتوه أيّة ثورة في دنيا الناس منذ قيامها قبل ألف ونيف من السنين وإلى يومنا هذا. ولعُمق التداخل بين هاتين الجنبتين صار أي تشابك بينهما أو طغيان إحداهما على الأخرى يؤدي إلى خلخلة الهدف السامي الذي من أجله جاءت الثورة، ويؤدي إلى ارتجاج الهدف العظيم الذي لأجله نهض سيد الشهداء. فمن خلال العاطفة الحسينية الصادقة وصرخات سبايا الحسين، يتفجر الإنسان المسلم غضباً مقدساً على الظالمين وأعداء الدِّين، ومن خلال إباء الحسين ومبدئيته العظيمة يتفجر المسلم الرسالي فكراً وعقيدة تَسخَر من كلِّ المداهنين والمساومين وتستخف بكلِّ أشباه الرجال وأدعياء الدِّين.. ويبقى في نهاية المطاف المزيج المقدس من الفكر والعاطفة هو الحاكم في خط سير المسلم الحسيني وهو يسمع كلمات الحسين الخالدة "إنِّي لا أرى الموت إلّا سعادة والحياة مع الظالمين إلّا برماً" و"لقد ركّز الدعيّ ابن الدعيّ بين السلّة والذلّة وهيهات منا الذلة". ولكنْ، إذا اقتصر إحياء ذكرى الثورة على إطعام الطعام دون زرع الأخلاق والمبادئ في النفوس، واقتصرت العواطف على الطبول دون استحضار القيم الخالدة التي بسبب ضياعها أو تضييعها فجّر الحسين ثورته، نكون قد ساهمنا في وأد الثورة وذبح مبادئها وتقليم أغصانها وفروعها، وبالتالي استئصال جذعها وجذورها.. وفي نفس الوقت، إذ جرّدنا الثورة من عواطفها الثائرة وسجنّاها أو حبسناها في معتقل العقل وقوالب الفكر الباردة، ودون سيوفٍ تلمع أو طبول تُقرع أو دموع تُسكب، نكون قد شاركنا في تكسير أحد جناحيها، وساهمنا في قتل روحها الوثّابة، وغضبها المقدس وعنفوانها الطاهر.. الحل إذن، في صدق عشاق الحسين وإخلاصهم ووفائهم لسيدهم سيد الشهداء وأبي الأحرار، فبقدر ما نحرص على صيانة العواطف الحسينية ينبغي أن نصون مبادئ الحسين، وبقدر ما يبذل خدام الحسين من أموال وجهود – مقبولة عند الله تعالى- لإحياء ذكرى الثورة ينبغي أنْ لا ننسى صرخات سيد الشهداء في عرصات كربلاء: "هل من ناصر ينصرنا؟! هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله"!! وليس بيننا وبين هذا النداء إلّا أن نفهم أنّ كلَّ ظالم في الأرض (يزيد) أو من أنصار يزيد، وأنّ كلّ مظلوم في الأرض حسينٌ أو من أنصار الحسين، خاصة إذا كان على طريق الحسين ومنهج الحسين ومبادئ الحسين (ع). وإنّ أي فصل بين العواطف والمبادئ إنما هو احتواء للثورة وخرمٌ لمبادئها، وتكسير لأحد جناحيها اللذين بهما طارت في الخافقين وتطير. إنّ تناول الثورة الحسينية رغم وجود الفاصلة الزمنية الكبيرة بينها وبين الحاضر المعاش يأتي لأنها كانت عامل استقطاب تاريخي طبع التاريخ من بعدها بطابعه إذا أنها أسست لتيار المعارضة الذي ظل في وضع مواجهة دائمة مع السلطات الجائرة. ذلك أنها كانت حدثاً ذا قابلية على إنتاج ذاته بصورة متكررة في مقابل تواصل محاولات الثورة المضادة للاستئثار بالواقع والتحكم بمسارب الحركة بحيث تخلق انسجاماً اجتماعياً في إطار القيم المنحرفة والتي حذّر الإمام عليّ (ع) منها، وهذا يعني فرض حالة تبريرية لجميع أنواع الانحراف، لكن الثورة الحسينية عطلت هذه العملية لأنها وضعت قبالها قيماً أصيلة ومضادة. صحيح أنّ هذا التضاد أسفر عن ازدواجية الواقع ثمّ عن حاله من التنوع إلا أنّه ترك فسحة للوعي يستطيع من خلالها ولو قلة من الواعين الوصول إلى صورة الإسلام بعد التنقيب في ركام التيارات والمذاهب وهو ما حصل فعلاً واستمر الدين ولو من خلال ملامح كلية – على صعيد الواقع الخارجي – بدلاً عن محوه كاملاً. فثورة الحسين ثورة نظرت إلى المستقبل لأنها وجهت المخزون الثقافي من خلال توجيه مكونات (اللاشعور المعرفي). وبناءً على هذا المعنى فإنّ الشعوب ترث ملامح ثقافية محددة ومعها معايير وقيم يتسلط تأثيرها – في النهاية – في توجيه السلوك وعلى أساس كلّ ذلك تترتب العلاقات وأوضاع الحضارة. ولهذا فإنّه ليس من المبالغة أو الخطل في التفكير، عملية البحث عن جذور التردي الحضاري والثقافي المعاصر للأُمّة في تلك الحقب المغرقة في القدم، وهذا الأمر بالنسبة للأُمة الإسلامية مورد إجماع ذلك أننا نلاحظ أنّ أغلب المفكرين يجمعون على أنّ المسلمين قد وضعوا أقدامهم على خط التراجع عندما استحوذ الأمويون على السلطة. فرأي ذهب إلى أنّ الأُمّة ابتليت بعرض مرضي سماه بـ(تداخل الأزمنة) فيقول: (نعبر هنا بـ"تداخل الأزمنة الثقافية" وذلك على الصعيدين المعرفي والأيديولوجي؛ فعلى الصعيد المعرفي ما زال المثقف العربي كما كان منذ العصر الأموي، يستهلك معارف قديمة على أنها جديدة سواء كان مصدرها عربياً خالصاً أو كانت من الدخيل الوافد تلك كانت حالته بالأمس وتلك هي حالته اليوم. وأما على الصعيد الأيديولوجي فإنّ المثقف كان منذ العصر الأموي، كذلك وما يزال إلى اليوم يعيش في وعيه الماضي متداخلاً مع أنواع الصراعات الأخرى التي يشهدها حاضره). فإذن نحن أمام ظاهرة توقف معرفية وظاهرة توقف أيديولوجية بدأت في العصر الأموي واستمرت إلى اللحظة الحاضرة ذلك أنّ الأُمة لم تستطع أن تعبر لا الصراعات ولا السلوكيات إلى آفاق جديدة. فهذه الظاهرة واضحة في الحاضر، إذ أننا نستطيع أن نرى بوضوح أنّ الصراع الفئوي القديم لا يزال حياً يلقي إفرازاته في الواقع المعاصر وكأنّه ينتمي إلى اللحظة الحاضرة، بل أنّ الأُمّة تنسى الكثير من الصراعات التي مرت لكنها لا تستطيع نسيان هذا الصراع، لأنّه أحد ثوابت الوعي وأنّه يشكل الشعور واللاشعور معاً للأمة، والنتيجة التي لابد من الإقرار بها أنّ لحظة التوقف الأموية أعاقت الحركة التي بدأها الإسلام في مساره العالمي واصطنعت له آليات الجمود عند تلك اللحظة.

ارسال التعليق

Top