• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القيادة وخداع النفس

د. ياسر العيتي

القيادة وخداع النفس

◄"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" (حديث شريف).

كما تعرفون إن القيادة الناجحة تحتاج إلى مستوى عالٍ من الذكاء العاطفي، وإنّ الذكاء العاطفي هو فن التعامل مع العواطف، سواء أكانت عواطف الذات، أم عواطف الآخرين. ومن مكونات الذكاء العاطفي التي تصنع القائد الناجح هي إدراك الذات وهو التعبير عن ذلك بالرؤية، إذ لا يمكن أن يضع القائد رؤية لمؤسسته قبل أن يضع رؤية لذاته، أي قبل أن يعرف من هو وماذا يريد وكيف يحقق نفسه في هذه الحياة. وكما إن القائد المشارك والقائد المدرب يحتاج إلى التعاطف والمرونة والانفتاح على الآخرين اللذين يحتاج إليهما القائد المشاور. يحتاج أيضاً إلى المبادرة وتحمل المسؤولية. وسأتحدث عن هذه المهارة من خلال مفهوم الصندوق.

 

ما الصندوق؟

حينما نتعامل مع الآخرين إما أن ننظر إليهم على أنهم بشر مثلنا، لهم مشاعرهم واحتياجاتهم، وإما كأشياء تسبب لنا المشاكل والتهديد؛ فعندما يأتي الابن متأخراً إلى المنزل مثلاً، قد ينظر والده إلى هذا التصرف على أنّه تهديد لسلطته في المنزل، ولسمعته أباً ناجحاً، ولراحة باله وهكذا... وفي هذه الحال لن يملك الأب إلا أن يغضب من ابنه ويعامله بعنف وقسوة، وعندها لن يكون من الابن إلا أن يردّ على العنف بعنف مماثل، وعلى هذه النظرة بنظرة مماثلة، فيمثل والده تهديداً لحريته وانطلاقه وحاجاته، ويصبح احتمال التفاهم بين الاثنين معدوماً. أما إذا نظر الأب إلى ابنه على أنّه شاب له نشاطاته وأصدقاؤه وحاجاته مع وجوب أن يلتزم بقواعد يرى الأب فيها مصلحته وسلامته، كعدم البقاء إلى فترة متأخرة خارج المنزل، عندها سيشرح الأب لابنه تفهمه لحاجاته ومشاعره ويبين له أنّه يريد منه من باب الحرص عليه ألا يتأخر في المجيء إلى المنزل، هذا التفهم لمشاعر الابن وحاجاته سيقابله الابن بتفهم مماثل لحاجة والده في أن تكون كلمته مسموعة؛ وهنا سيكون احتمال التفاهم بين الاثنين أكبر بكثير من احتمال التفاهم بينهما في الحالة الأولى.

يمكن القول إذن: إنّ الإنسان حينما يعامل الآخرين من خلال مشاعرهم واحتياجاتهم يكون خارج الصندوق، وحينما يعامل الآخرين كأشياء تسبب له المشاكل والتهديد يكون داخل الصندوق.

والآن لماذا سميناه صندوقاً، وما علاقته بخداع النفس؟ وما علاقة كلّ ذلك بالقيادة؟

لقد لاحظنا في الحالة الأولى أنّ الأب يعتقد أنّه عندما يعامل ابنه بعنف وقسوة ودون مراعاة لمشاعره فإن ذلك سيدفع الابن إلى طاعة أوامره، لكن الحقيقة هي أنّ هذا الأسلوب لن يزيده إلا تمرداً. والنقطة الخطيرة هنا هي أنّ الأب لا يعرف هذه الحقيقة ومن هنا جاء اصطلاح الصندوق فالإنسان عندما يكون داخل صندوق لا يرى الحقائق الموجودة في الخارج، ونحن عندما نعامل الآخرين كأشياء ومصادر للتهديد لا ندرك أننا نفقد سيطرتنا عليهم، بل نعتقد (مخدوعين) أننا ندفعهم بذلك إلى الاستجابة لطلباتنا؛ ومن هنا جاء اصطلاح خداع النفس؛ أي إننا عندما نكون داخل الصندوق لا نرى الحقائق ولا نعرف أننا لا نرى الحقائق، لأننا نكون في حالة من خداع النفس. وواضح تماماً أن احتمال الإمساك بزمام الأمور عندما يكون الإنسان خارج الصندوق أكبر بكثير من احتمال الإمساك بزمامها عندما يكون داخل الصندوق، لأننا عندما نكون داخل الصندوق لا نعرف إلا إلقاء اللوم على الآخرين، أما عندما نكون خارج الصندوق فسنعدّ أنفسنا جزءاً من المشكلة، وسنتحرك لإيجاد طريقة لها.

ونلاحظ من خلال الحالتين السابقتين أننا عندما ندخل إلى الصندوق ندفع الآخرين إلى الدخول فيه أيضاً (تجاهل الأب لمشاعر ابنه وحاجاته دفع الابن إلى تجاهل مشاعر أبيه وحاجاته) وعندما نخرج من الصندوق نساعد الآخرين على الخروج منه أيضاً (مراعاة الأب لمشاعر ابنه وحاجاته دفع الابن إلى مراعاة مشاعر أبيه وحاجاته).

ولكي نزداد إدراكاً لهذه الفكرة سأورد في الجدول التالي أربع مشاكل نتعرض لها جميعاً في المنزل أو في العمل، ونرى كيف يخاطب الإنسان نفسه عندما يتعامل معها من خارج الصندوق أو من داخل الصندوق.

 

المشكلة

داخل الصندوق

خارج الصندوق

زوجتي لا تهتم بي

الزوج: إنها أنانية

أستطيع أن أبذل جهداً أكبر لكي أجعل زوجتي تهتم بي.

ابني لا يطيعني

الأب: إنّه عاق

أستطيع أن أبذل جهداً أكبر لكي أجعل ابني مطيعاً.

الموظف لا يقوم بما هو مطلوب منه

المدير: إنّه مهمل

أستطيع أن أبذل جهداً أكبر لكي أجعل الموظف مجداً.

المدير لا يستجيب لمطالبي

الموظف: الإدارة غير متعاونة

أستطيع أن أبذل جهداً أكبر لكي أجعل الإدارة متعاونة.

 

نلاحظ من خلال هذه الحالات الأربعة أنّ النظر إلى الآخرين من داخل الصندوق يؤدي إلى إلقاء اللوم عليهم، أما النظر إليهم من خارج الصندوق فيعني تحمل المسؤولية واتخاذ خطوات معينة لحل المشكلة. وزيادة في الإيضاح دعونا نرى كيف ستنتهي كلّ مشكلة من المشكلات السابقة عندما نتعامل معها من داخل الصندوق، وكيف يمكن أن تنتهي عندما نتعامل معها من خارج الصندوق.

 

المشكلة: زوجتي لا تهتم بي

الفعل

النتيجة

داخل الصندوق: إنها أنانية

اللوم

بقاء المشكلة

خارج الصندوق: أستطيع أن أبذل جهداً أكبر لكي أجعلها تهتم بي

يجب أن أفهم زوجتي أكثر وأن أغير من طريقة تعاملي معها لكي أجعلها تهتم بي

فرصة لحل مشكلة

 

المشكلة: ابني لا يطيعني

الفعل

النتيجة

داخل الصندوق: إنّه عاق

اللوم

بقاء المشكلة

خارج الصندوق: أستطيع أن أبذل جهداً أكبر لكي أجعله مطيعاً

يجب أن أفهم ابني أكثر وأن أغير من طريقة تعاملي معه لكي أجعله مطيعاً

فرصة لحل مشكلة

 

المشكلة: الموظف لا يقوم بما هو مطلوب منه

الفعل

النتيجة

داخل الصندوق: إنّه مهمل

اللوم

بقاء المشكلة

خارج الصندوق: أستطيع أن أبذل جهداً أكبر لكي أجعله مجداً

يجب أن أفهم موظفي أكثر وأن أغير من طريقة تعاملي معه لكي أجعله مجداً

فرصة لحل مشكلة

 

المشكلة: المدير لا يستجيب لمطالبي

الفعل

النتيجة

داخل الصندوق: الإدارة غير متعاونة

اللوم

بقاء المشكلة

خارج الصندوق: أستطيع أن أبذل جهداً أكبر لكي أجعلها متعاونة

يجب أن أفهم الإدارة أكثر وأن أغير من طريقة تعاملي معها لكي أجعلها متعاونة

فرصة لحل مشكلة

 

عندما نكون داخل الصندوق نعتقد دائماً أنّ الآخرين هم سبب المشكلة، وأنّ الحل في أيديهم. وعندما نكون خارج الصندوق نضع احتمالاً أن نكون نحن جزءاً من المشكلة، وأن يكون الحل في أيدينا..

عندما نكون داخل الصندوق لا نستطيع تغيير أنفسنا، ولا نستطيع تغيير الآخرين، وعندما نكون خارج الصندوق نستطيع تغيير أنفسنا، ونستطيع تغيير الآخرين... عندما نكون داخل الصندوق ندفع الآخرين إلى الدخول إليه، وعندما نخرج من الصندوق نساعد الآخرين على الخروج منه..

عندما تقع مشكلة بين شخصين تكون فرصة الحل معدومة أي مساوية للصفر تماماً إذا كان كلاهما داخل الصندوق. أما إذا خرج أحدهما من الصندوق فستصبح هناك فرصة للحل. وشتان بين أن تكون هناك فرصة، أو أن ألّا تكون أي فرصة على الإطلاق..

 

إنّ المدير القيادي لا يفكر إلا من خارج الصندوق، فإذا لمس إهمالاً من الموظفين لا يكتفي بإلقاء اللوم عليهم، ويجلس متحسراً نادباً حظّة معهم، وإنما يعدُّ نفسه مسؤولاً عن تقصيرهم، وأنّه لم ينجح في إعطائهم الدافع والحافز إلى العمل، ويبدأ بالتفكير في الطرق والأساليب التي يجب عليه اتخاذها لتحفيزهم، ويظل يبدِّل ويطور في أساليبه حتى يصل إلى غايته. ولعل حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن عيته" يعبر بدقة عن هذا المعنى؛ فالقيادة هي تحمل المسؤولية، وإذا أردت أن تقود الآخرين فعليك أن تتوقف عن اللوم، وتتحمل المسؤولية.

إننا إذا نظرنا إلى الناس من حولنا نجد أولئك الذين يملكون شخصيات قيادية ويتمتعون بتأثير قوي بمن حولهم يقلِّلون من لوم الآخرين، ويتحملون المسؤولية دائماً في إحداث التغيير، ويعلمون الآخرين تحمل المسؤولية.. أما الأشخاص ضعيفو التأثير فهم لا يجيدون إلا اللوم والتذمر وإلقاء المسؤولية على الآخرين؛ فالأب فاقد السيطرة على منزله يلوم زوجته وأولاده.. والمدير فاقد السيطرة على مؤسسته يلوم موظفيه.. والأستاذ فاقد السيطرة على صفه يلوم طلابه وهكذا...

الإنسان الذي يكثر اللوم ويلقي المسؤولية على غيره إنسان منفعل ومتأثر بالأشخاص وبالظروف من حوله. أما الإنسان الذي لا يلوم ويتحمل المسؤولية فهو إنسان فاعل ومؤثر في الأشخاص والظروف من حوله. عندما نكون خارج الصندوق لا نقول يجب أن يتغير الناس، أو يجب أن تتغير الظروف، وإنما نقول: ماذا يجب علينا أن نفعل لكي نغير الناس ولكي نغير الظروف.. الذين يفكرون بهذه الطريقة هم القادة وهم الذين يغيرون الحياة وينعون التاريخ.

صحيح أنّ البقاء خارج الصندوق (أي تحمل المسؤولية في إحداث التغيير) أمر متعب على المدى القصير، لكنه يعطي راحة كبيرة على المدى الطويل؛ لأنّه يمكّن الإنسان من الإمساك بزمام الأمور. أما الاختباء في الصندوق (أي الاكتفاء بإلقاء اللوم على الآخرين) فمريح على المدى القصير، لكن كلفته النفسية باهظة على المدى الطويل؛ إذ يفقد الإنسان فيه سيطرته على الأمور، ويشعر بأنّه مظلوم، وبأنّه ضحية للأشخاص وللظروف من حوله وما أتعسه من شعور...

 

إنّ الإسلام يدفع الإنسان إلى العيش خارج الصندوق، لأنّه يحمِّله مسؤولية ما يصيبه من مصائب، ويحضه على أن يصلح نفسه أوّلاً تصلح الظروف المحيطة به.

يقول الله تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (آل عمران/ 165)، ويقول أيضاً: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء/ 79)، ويقول أيضاً: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).

 

إنّ النظر إلى الأمور من خارج الصندوق لا يغير الأفراد وحسب، وإنما يغير مجتمعات بأكملها؛ فعندما تسود طريقة التفكير من داخل الصندوق مجتمعاً ما فسيعتقد أفراده أن مشاكلهم تحدث بسبب ظروف خارجية، وسيكتفون بلوم هذه الظروف. أما عندما يعدُّون أنفسهم مسؤولين عن مشاكلهم فسيبدؤون بالتفكير والتحرك لحل هذه المشاكل، وسيبدِّلون ويطورون من أساليبهم حتى يصلوا إلى غاياتهم. إنّ العيش داخل الصندوق لا يعطي الإنسان إلا خياراً واحداً في التعامل مع المشكلات، وهو اللوم. أما العيش خارج الصندوق فيعطيه الكثير من الخيارات، والمزيد من الخيارات، يعني المزيد من الحرية. وهكذا يصبح مفهوم الحرية هو الوجه الآخر لمفهوم المسؤولية. فكلما تحمل الناس المسؤولية عن القيود التي يرسفون فيها أصبحوا أكثر قدرة على التحرر من هذه القيود!. ►

 

المصدر: كتاب الذكاء العاطفي في الإدارة والقيادة

ارسال التعليق

Top