• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الوقت في حياتنا.. وعي وثقافة

الوقت في حياتنا.. وعي وثقافة

◄قال الله سبحانه في كتابه العزيز: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (الشرح/ 7-8).

من الأُمور التي حرص عليها الإسلام في تربيته، دعوته الإنسان للاهتمام بوقت الفراغ. والمقصود بوقت الفراغ هنا، الوقت الذي يمرّ على الإنسان من دون أيّ مسؤوليات تشغله، كالعامل الذي أنهى عمله ولم يعد لديه عمل، أو الموظّف الذي هو في إجازة، أو الطالب الذي أنهى عامه الدراسي ودخل في العطلة الصيفية...

ومن الطبيعي أن يكون للإنسان وقت فراغ، فهو ضروري للتخفّف من أعباء العمل ومتطلّبات وقت الدراسة، وليجدّد الإنسان نشاطه وحيويته، حيث لا يمكن للإنسان أن يكون في عمل دائم، أو في تعلّم لا توقّف فيه. وقد يستوجب هذا المللَ والضّجرَ وقلّة الفاعلية. وهذا ما دعا إليه الحديث: "للمؤمن ثلاثُ ساعات: ساعة يُناجِي فيها ربّه، وساعةٌ يَرُمُّ معاشَه، وساعةٌ يُخلِّي بينَ نفسِه وبينَ لذَّتِها فيما يَحِلُّ ويَجمُلُ". وفي الحديث: "ما أحقّ الإنسان أن تكون له ساعة لا يشغله شاغل!".

فراغ أم عمل؟!

ولكن يبقى التساؤل حول كيفية التعامل مع أوقات الفراغ هذه، التي إن لم يحسن الإنسان استغلالها، فقد تذهب هدراً وتضيع ولا يستفاد منها، فتُقضَى في النوم الطويل، أو على شاشات التلفاز، أو على مواقع التواصل، أو في النُّزهات والرحلات... وقد تكون باباً ينفذ منه الانحراف، فهي تدفع الإنسان إلى اكتساب عادات سيِّئة، أو القيام بأعمال غير مشروعة، أو الركون إلى رفاق السوء، أو تؤدِّي به إلى اضطرابات نفسية وتوترات عصبية تنعكس عليه أو على الذين يعيشون معه أو على المجتمع. وقد أظهرت دراسات أُجريت عن علاقة الشباب بالمخدِّرات، أنّ سبب تعاطي الكثير منهم لها كان أوقات الفراغ الكثيرة لديهم. ولذلك، اعتبر الفراغ من أوثق فرص الشيطان.

ومن هنا، جاءت الدعوة في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة إلى حُسن الاستفادة من أوقات الفراغ هذه، بأن تُملَأ بكلّ مفيد، وتُشغَل بجوانب غير محسوبة عادةً في تخطيط الإنسان اليومي أو في جدوله الزمني. فالإنسان بحاجة إلى أن يقوم بأعمال لم يعتد القيام بها في الأوقات العادية، وذلك من أجل استكمال ما نقص في بنائه لنفسه أو لتطويرها. فهو كما يحتاج إلى علم وعمل، يحتاج إلى تنمية جسده وبناء روحانيّته، وإلى توسعة معارفه الدينية ومتابعاته الثقافية ومهاراته وقدراته، وإلى تواصل اجتماعي مع أرحامه وجيرانه، وإلى المساهمة في عمل تطوّعي خيري أو اجتماعي، وإلى إجراء مراجعة لنفسه وسدّ نقائصه، وإلى أسفار هادئة يقوم بها...

فالمبدأ أن لا يكون هناك أوقات فراغ ليس فيها أيّ عمل. نعم، قد ينتقل الإنسان من أجواء التعلّم أو الوظيفة، إلى أجواء أُخرى ليس فيها تبعات العمل أو التعلّم والوظيفة، ولكنّها ليست خالية من الهدف. فالفراغ ينشأ مع غياب هدف عند الإنسان في تمضية هذا الوقت، وهذا ما لا يريده الله لأيّ مسلم، ولا يريده للحياة.

ولذلك، نجد الله سبحانه يخاطب رسوله (ص) في الآية التي تلوناها: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ). وهي دعوة منه سبحانه أن لا نفرغ من عمل حتى نبدأ مباشرةً بعمل آخر. فلا نفرغ من عبادة واجبة، حتى نبدأ بمستحبة، ولا نفرغ من مشاغل الآخرة، إلّا ونتبعها بعمل خير من أعمال الدنيا.

تبعات الفراغ!

فيما كان التحذير من التبعات التي قد تحدث عندما يقع الإنسان في الفراغ، وتضيع منه فرص العمر الذي هو أثمن رأسمال أودعه الله عنده.

وقد أشار الحديث الشريف إلى الحسرة على أيّام فاتت وذهبت، فيوم القيامة، يفتح للعبد خزائن عددها أربع وعشرون خزانة، هي بعدد ساعات اليوم الواحد، وكلّ خزانة من هذه الخزائن تظهر نتائج ما حصل فيها من أعمال في الحياة الدنيا، خزائن من هذه الخزائن يجدها مملوءة نوراً، وهي الساعات التي أطاع فيها ربّه، وخزائن أُخرى مظلمة وموحشة وكئيبة، وهي التي عصى الله فيها سبحانه. ويتوقّف طويلاً ويتحسّر عندما تفتح له خزائن فارغة ليس فيها شيء، ولا نور ولا ظلمة، ويسأل ماذا فيها، فإذا هي الأوقات التي لم يعمل فيها شيئاً، وهي ساعات الفراغ التي ذهبت هدراً، وكان بإمكانه أن يملأها نوراً وهدى وعلماً وعملاً، وهو لم يفعل ذلك..

وفي الحديث: "أشدّ الناس حساباً يوم القيامة، المكفي الفارغ".

وفي الحديث: "واعلَمْ أنّ الدنيا دَارُ بَلِيَّةٍ، لم يفرُغْ صاحبُها فيها قطُّ ساعةً، إلّا كانت فَرغَتُهُ عليه حَسرَةً يومَ القيامةِ". وفي الحديث: "إنّ الله يبغض العبد النوَّام الفارغ".

هذا في الآخرة. أمّا في الدنيا، ففي الحديث: "من الفراغ تكون الصَّبوة". والمقصود بالصبوة الجهل والتخلّف. وفيه أيضاً: "خلّتان مفتون بها كثير من الناس؛ الصحّة والفراغ"، "احفظ عمرك من التضييع له في غير العبادة والطاعات".

فالكثير من الناس هم خاسرون ومغبونون، عندما يفوّتون على أنفُسهم فرصة الاستفادة من الزمن المودَع لديهم بما يرفع من مستواهم.

ولذلك، نجد أنّ الإمام زين العابدين (ع)، كان يقف بين يدي الله عزّوجلّ من أجل أن يعينه على أوقات الفراغ، وكان يقول: "اللّهُمّ.. اشغَلْ قُلوبَنا بذِكرِك عن كلِّ ذِكر، وألسِنتَنا بشُكرِك عن كلِّ شُكر وجَوارِحَنا بطاعَتِك عن كلِّ طاعَة، فإنْ قَدَّرتَ لنا فراغاً من شُغُل، فاجعَلهُ فراغَ سلامَة، لا تُدرِكُنا فيه تَبِعَةٌ، ولا تَلحَقُنا فيه سَآمَةٌ، حتى يَنصَرِفَ عنَّا كُتَّابُ السيِّئاتِ بصَحِيفَة خالية من ذِكرِ سيِّئاتِنا، ويَتوَلّى كُتَّابُ الحَسَناتِ عنَّا مَسرُورِينَ بما كَتَبُوا من حَسَناتِنا". وهذا الدُّعاء أفضل تعبير عن الخشية من تبعات الفراغ وتداعياته.

مسؤولية الزمن

إذاً، في منطق الإسلام، ليس هناك وقت فراغ بمعنى اللاعمل، أو العمل الذي ليس فيه الفائدة المرجوّة، بحيث يضيع الوقت ويهدر. فالزمن له قيمة، هو مسؤولية، "فلا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأَل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه".

وقد ورد في الحديث: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"، "إنّ الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما".

"كن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك". "رَحِم الله امرءاً عَلِم أنّ نفسه خُطاه إلى أجله، فبادر عمله، وقصَّر أمله".

وهنا، قد يعتقد البعض أنّه مادام أنهى عمله أو تعلّمه أو القيام بمسؤولياته العائلية، فإنّه بذلك يكون قد أدّى دوره، ولهذا، يحقّ له أن يقضي وقته فيما شاء، المهمّ أن لا يقع في الحرام. ولكنّ مهمّات الحياة لا تقتصر عند هذا الحدّ، وقد حدّد الإمام زين العابدين (ع) في دعاء الصباح والمساء البرنامج الذي ينبغي لكلّ إنسان القيام به، حيث قال:

"اللّهُمّ.. ووَفِّقنا في يومِنا هذا، ولَيلَتِنا هذه، وفي جميعِ أيّامِنا، لاستعمالِ الخيرِ، وهِجرانِ الشرِّ، وشُكرِ النِّعَمِ، واتّباعِ السُّننِ، ومُجانبةِ البِدعِ، والأمرِ بالمعرُوفِ، والنَّهيِ عن المُنكرِ، وحِياطةِ الإسلامِ، وانتقاصِ الباطلِ وإذلالِهِ، ونُصرَةِ الحقِّ وإعزَازِهِ، وإرشادِ الضَّالِّ، ومُعاونةِ الضَّعِيفِ، وإدراكِ اللَّهِيفِ".

إنّنا بحاجة إلى استحضار هذه الأهميّة للوقت، وخصوصاً الطلاب وهم في العطلة الصيفية، بأن نخطّط لها، وأن نستفيد منها، حتى لا تضيع فيما نحن أحوج ما نكون إليها.

وهذا لا يتمّ إلّا عندما ندرس احتياجاتنا، فكلٌّ له احتياجاته، وعندما نسعى إلى القيام بما يمكن القيام به، ونستفيد في ذلك من مبادرات تقوم بها مؤسّسات وجهات تقوم بدور في هذا المجال.

وهنا، لابدّ من أن ننوّه بكلّ الجهد الذي يُبذَل من أجل إقامة دورات عامّة أو دورات خاصّة في القرآن الكريم أو الحديث أو الفقه أو العقيدة، أو دورات مهنية، أو دورات رياضية وكشفية، أو أعمال تطوّعية، فهي فرصة وطاعة لله سبحانه.

خسارة لا تعوَّض

إنّ أكبر خسارة يخسرها الإنسان هي خسارة الوقت، فهو بذلك يخسر نفسه. فالإنسان كما ورد في الحديث: "إنّما أنتَ عددُ أيّام، فكلُّ يومٍ يَمضِي عليك يَمضِي ببَعضِك". هي خسارة لا تعوَّض، ما يفوت منها لن يعود. ولذلك، كان نداء رسول الله (ص): "الآن الآن من قبل النَّدم، ومن قبل أن تقول نفس: يا حسرتي على ما فرَّطت في جنب الله"... "الآن الآن مادام الوثاق مطلقاً، والسراج منيراً، وباب التوبة مفتوحاً، من قبل أن يجفّ القلم، وتطوى الصُّحف".

وحتى لا نصل إلى ما أشار إليه الله سبحانه: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) (فاطر/ 37).

فليكن دعاؤنا لله سبحانه: "واجعَلنِي ممَّن أطَلتَ عُمُرَهُ وحَسَّنتَ عَمَلَهُ، وأتمَمتَ عليه نِعمَتَكَ، وَرَضِيتَ عنه، وأحيَيتَهُ حياةً طيِّبةً في أدوَمِ السُّرورِ وأسبَغِ الكرامةِ وأتَمِّ العَيشِ".

وقد قال عليّ (ع): "فيا لها حسرة على كلِّ ذي غفلة، أن يكون عمره عليه حجّة، وأن تؤدِّيه أيّامه إلى شقوة!".

إنّ تعزيز هذا السلوك، لن يحصل إلّا بتعزيز ثقافة الوقت في الحياة، وبالقدوة الحسنة، وبإرادة لا تخضع لاعتبارات الواقع الذي أدمن ثقافة تضييع الوقت ولم ير له أهميّة.

وحتى لا نقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا) (المؤمنون/ 99-100).►

ارسال التعليق

Top