• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

غدر من نوع آخر

بدرية عبدالله

غدر من نوع آخر

 

ها أنا أمام مرآتي، أنظُر إلى وجهي وملامحه التي بدت عليها آثار التعب تزحف. عادت بي الذكريات إلى ماضٍ لم أستطع طيه مع مرور صفحات الأيام، إنه يمرُّ في بالي كما لو أنني أراه الآن أمامي. تلك الأيام التي جمعتنا معاً، لم تكن إلّا لحظات سريعة كاذبة. كنّا نعمل في المكان نفسه، كان المكان يعج بالموظفين والعملاء. لقد نجح في لفت انتباهي بنظراته الهادئة المليئة بالحب. كان يُحاصرني بها. لم أستطع سؤاله عن سر تلك النظرات. ولكن ما شعرت به في عينيه، هو حب دفين كوّنته أيام خاوية في جوفه. استمر على هذه الحال. لم أستطع تجاهل اهتمامه، فبادلته النظرات نفسها بعد ما شعرت بشيء يشدّني إليه. كنت أستمتع بذلك الشعور الغريب الذي يعصف بجوارحي ويجعلني أتلهّف إلى عمل الغد، كنت ومازلت أكنّ له المشاعر الطاهرة داخلي على الرغم من غدره لي. لقد استمر حبنا بنظرات متبادلة، ومع الأيام صرنا يحادث بعضنا بعضاً. لقد أصبح شغلي الشاغل وهاجسي المجنون. ولكنّي لم أخبر أحداً بذلك الشعور. كنا نعيش حبنا بصمت جميل، ثم تطورت العلاقة وجاء ليُخبرني أنه سوف يتقدَّم لخطبتي فعلياً، أمسك بيدي قائلاً لي: "لا أستطيع العيش من دونك". حلّقت فرحاً ورحت أخبر هذه وتلك. كنت أشبه بعصفور تم الإفراج عنه من قفص كان فيه. بعدها زارتنا عائلته.. أبوه، أمه، ومجموعة من أهله. وتم كل شيء كما كنّا نرغب. وها أنا أجهّز نفسي ليوم لطالما كان حلما دغدغ مشاعري وانتظرته. اتّفقنا على أن أقدم استقالتي وأتفرغ لحياة جديدة. وأن أعمل على إسعاد هذا البيت وأطفالي مستقبلاً. أحببته من كل قلبي، وكنت سعيدة بأنني سأكون بقرب من أحب. تم زواجنا بعد فترة وانتقلنا إلى منزل يجمعنا نحن الاثنين، مرّت على زواجي به 3 أيام فقط، حين استيقظت على طُرقات الباب والجري، هرولت بعد أن ارتديت معطفي وحذائي القطني. فتحت الباب، وفوجئت بأمراة تصرخ في وجهي: "أيتها الساقطة سألقنك درساً لن تنسيه طوال حياتك، سأجعل الجميع يضحكون على سذاجتك. بالله عليك كيف استطعت أن تغويه؟ ذلك المعتوه". وبدأت تصيح باسمه. قلت لها: "كفالك ما قلته، وتحدّثي، من أنتِ؟ فلا تنسي أنك في منزلي وإلا نصرفي فأنا لا أحتاج إلى وجودك المزعج هذا". قالت: "منزلك.. ماذا؟ أعيدي ما قلته لتوّك. يا للسخرية، من أين لذلك الطفل مالاً حتى يأتي بمنزل؟". بدأت تصرخ في وجهي: "اتّصلي به اتصلي". فقلت: "من أنت بالله عليك؟ لقد شغلت بالي، وماذا تريدين من زوجي؟ وليكن في علمك أنني لن أسمح لك بالخروج إلا وأنتِ مُبيّنة لي سبب هذا كله.. ولن أسمح لك بالتمادي أكثر"؟ ولقد بانت على ملامحي علامات الغضب. نظرت إليّ وقالت: أنا أمه ولا أقولها خوفاً منك، فأنا لن أجعل حياتك هانئة يوماً ولن تبقي زوجته طويلاً. أعدك، فأنا لا أتشرّف بواحدة لا أهل لها لكي يربّوها". انصرفَت، وأغلقت الباب بقسوة. ذهبت، ولم أستطع أن أستوقفها لكي أفهم. لقد صُدمت وبتُّ لا أستطيع الحراك ولا حتى الكلام. حتي دموعي لم تنزل وكأنها تجمدت في محجري. أسئلة كثيرة راودتني، لكن لا أجوبة تشفي غليلي. بعدها، أخذت الهاتف واتصلت به، لكنه لم يرد على اتصالاتي المتكررة. ما زاد فيَّ الشك؟ أيُعقَل أن يكون كلام تلك السيدة صحيحاً؟ إذا كانت هذه السيدة والدته، فمن تكون تلك التي أمسكت بيدي وأوصلتني إليه في فرحة عارمة يوم زفافناً؟ ومَن هو الذي وقف إلى جانبه يلقي التحية على المدعوّين ويتلقّى التهاني منهم؟ أيُعقل أنّ كل ذلك كان مسرحية وأنا الأميرة النائمة؟ أيُعقَل أنهم تلاعبوا بي وبأهلي بهذه القذارة القاسية؟ لم أستطع الانتظار، فأسرعت إلى أهلي لأستغيث بهم. وما إن رأوني، حتى فوجئوا بحالتي التي يُرثي لها، ارتميت في حضن أمي وبكيت بشدّة وأخبرتهم بما حدث، غضب أبي الذي كان على وشك الذهاب إلى مقرّ عمله. عطّلتهُ طرقات باب منزلنا. وإذا بشاب ظهرت ملامح الجدّية على وجهه، يحمل ورقة طاحت كل الأسئلة التي تدور في خلدنا، أعطاها إلى والدي وانصرف بهدوء. فتح أبي الورقة التي كانت مطويّة في ظرف بإحكام.. قرأها. كنّا في لهفة بما تحمله تلك الرسالة، التي كانت تقول إننا مطلوبون إلى المحكمة بالتاريخ واليوم الفلاني وفي الوقت الفلاني. لقد رفعوا ضدنا دعوة وما لنا ذنب بشيء.. مرّت الأيام إلى أن جاء اليوم المعهود، ذهبتُ برفقة أمي وأبي. وما إن دخلنا أعتاب المحكمة حتى لمحَت عيناي ذلك القذر. كنت وقتها أودُّ الركض في اتجاهه لأمزقه أشلاء. لماذا فعل هذا بي؟ ما الذي اقترفته ضده؟ جلسنا وجلس ووصل الكاتب والقاضي، وبعض من الرجال الذين لا أعلم مهنتهم قطّ. ثم بدأ واحد يقرأ أسماءنا. ومن ثم تلا نصّ الدعوة وموضوعها. بعدها أشاروا إلى زوجي، وسمحوا له بالحديث لاستيضاح ما فعله، تقدَّم قائلاً: "لقد أحببتها وأردتُ أن أكمل حياتي قربها، جئت بهذه الحيلة لكي أتزوجها، لأنني على يقين برفض أهلي لها، بعدها أخبرتهم مُسبقاً، وقُوبلت بالرفض بشدة. لأنهم كما يقولون، إنها من غير مذهبنا وأنا لا أعترف بهذا العذر السطحي مطلقاً. فكلنا أمام الله سواسية، ولكن زواجي بها ليس كما ادَّعي والداي، بأنه باطل، فأنا تزوجتها زواجاً مُصَدَّقاً وشرعياً، بالخطأ الذي ارتكبته، ولكن كل شيء كان حقيقاً، إلا والداي..". لم يستطع إكمال كلامه بسبب ثورة أمه التي صرخت في وجهه "الآن سوف ينتهي هذا الزواج.. الآن سوف تُطلّقها، وإلا فلتنسَ أن لك أماً". وبدأت تنعتنا بألفاظ رخيصة مُخجلة. تدخَّل والده قائلاً له: "لا تخسر والدتك.. هيَّا طلّقها". تعالت الأصوات التي لم أستطع تمييزها. كنت أسترق النَّظر إلى ذلك الجبان الذي سمح لهم بهدم حياتنا بصمت.. لم يستطع القاضي تهدئه الأمر بمطرقته الصغيرة، إلّا بتدخّل رجال الأمن. طلبوا منهم الانصراف فوراً، ورُفعت الجلسة حتى إشعار آخر. إلا أنّ زوجي قال: "سوف أحلّ الأمر، فلا داعي لانصرافهم حتى يسمعوا جميعاً ما قررتُ". كان التوتر والقلق سَيّدي الموقف. لقد كان قلبي يطرق وكأنه يريد الرحيل من بين ضلوعي. في لحظات الصمت التي عَمَّت المكان، طلّقني أمامهم ولم يأبَه لمشاعري ووجودي. لم يشعر بألم السكّين التي زرعها في جوفي. لقد كسرني نصفين. زرع في قلبي جرحاً لا يزال ينزف حتى اليوم. خَرَج ولم أستطع نسيانه، على الرغم من مرور فترة طويلة على ذلك. لقد عُدت إلى عملي، استرجعتُ قواي شيئاً فشيئاً. فهكذا نحنُ شئنا أن أبينا، في كل ظرف تمضي بنا الأيام. *ولاية الخابورة – سلطنة عُمان

ارسال التعليق

Top