• ٢٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الأديب الإسلامي والانفتاح

الأديب الإسلامي والانفتاح

الحديث عن الأدب الإسلامي ليس حديثاً عن مدرسة أدبية بحتة، أو مدرسة أدبية وضعية مؤدلجة، في مقابل المدارس الأدبية المعروفة عالمياً، كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية والوجودية والاشتراكية وغيرها، فالأدب الإسلامي ليس مجرد مدرسة أدبية، بل هو تعبير عن التصور الإسلامي الكوني للأدب. من هنا خضع الأديب الإسلامي لجملة من الضوابط العقيدية والشرعية التي أفرزها ذلك التصور، ولاسيما إذا أراد الأديب التحرك في مساحات أوسع وتوظيف أدوات وآليات أدبية جديدة، أو بتعبير آخر الانفتاح عليها.

إنّ ما نعنيه بـ(الانفتاح)، هو عملية انفتاح الأديب الإسلامي على المدارس الأدبية الأخرى، أي استثمارها والاستفادة من أساليبها المضمونية والشكلية وطرقها في التأثير. والمراد بذلك الانفتاح هو النسبي وليس مطلق الانفتاح، أي الانفتاح الخاضع لمعايير وضوابط محددة، فالمطلق يعني أنّ الأديب لا يلتزم بأية محددات وخصوصيات لنتاجه الأدبي، يمليها التصور الإسلامي. هذه النسبية تفرض بالطبع وجود مساحة أو بينية معينة تصل انتماء الأديب بانفتاحه، وتقرن الانفتاح بالانتماء.

فيكون الأديب منتمياً ومنفتحاً في الوقت نفسه، بهدف تأصيل النتاج الأدبي من جانب، وتحسين نوعه من جانب آخر.

وحين يتّجه الأديب نحو الانفتاح، فإنّ أوّل مقدمة تواجهه تتمثل في فهم التيارات والمدارس الأدبية الأخرى.. فهماً دقيقاً وواعياً ومعيارياً، ليعي ما يأخذ وما يريد.

فالمدرسة الكلاسيكية ـ مثلاً ـ فيها مجالات مضمونية واسعة يستثمرها الأديب الإسلامي، وكذلك حيز محدود من المدرسة الرومانسية، التي تجنح في خيالها وتبالغ في العواطف إلى حد تسويغ كلّ الصور العاطفية المثيرة.

وهناك المدرسة الواقعية، التي لا ترى أي شيء آخر غير الواقع والحدث، كالمبادئ والقوانين، وفي الوقت نفسه ترى أنّ ذلك الواقع هو واقع شرير في حقيقته. وأيضاً المدرسة الرمزية، التي تميز بغموض المعاني والدلالات وغموض الصور التي ترسمها، إذ أنّها تتعامل مع اللاوعي والوجود الذهني فقط. وربما تقترب منها المدرسة السريالية، التي تتعامل مع الوعي الباطن وتداعياته.

ويرى أحد أساتذة الأدب الإسلامي ـ الدكتور محمود البستاني ـ أنّه بالإمكان الاستفادة من بعض هذه المدارس، من مناهجها وصورها، ولكن في الحدود التي يحافظ فيها الأديب على انتمائه، ولا سيما أنّها اتجاهات تحتوي على آليات وأدوات يغلب عليها الطابع الفني، على العكس من المدارس الأدبية المؤدلجة والفلسفية، كالوجودية والواقعية الاشتراكية التي تتقاطع أساساً مع المدرسة الإسلامية.

وإذا توغلنا أكثر في واقع المدارس الأدبية، فسنرى نمطاً جديداً من المدارس، تحدد اتّجاهها من خلال رؤيتها للأديب وعلاقاته وهدفيته، فهناك مدرسة الأدب للإنسان التي تؤكد فردانية الإنسان وإنسانيته الأرضية، وكذلك مدرسة الأدب للأدب، التي تعتقد بعدم وجود أية علاقة بين المعتقد والأخلاق والخير والشر من جهة، والأدب من جهة أخرى، إذ أنّ الأدب هنا غاية وهدف بذاته وليس وسيلة للتعبير عن ذات الأديب، بوصفه إنساناً، وحساساً ومنفعلاً، ولا عن إنسانية الإنسان ومشاعره.

من هنا كان لزاماً على الأديب الإسلامي وعي عقيدته وضوابطها وأحكامها ـ أوّلاً ـ ثم دراسة المدارس الأدبية على مختلف أشكالها وأنماطها دراسة تفصيلية متأنية، وإخضاع ما يمكن أخذه من هذه المدارس إلى معيار العقيدة وضوابطها.

ويقودنا اختلاف تلك المدارس الأدبية التي تعبر عن نفسها بالمدارس الأدبية العالمية، للتساؤل عن وجود ما سمى بـ(الأدب العالمي). الواقع أنّ معرفة حقل الأدب وقضيته وموضوعه ومجالاته، ثم الإجابة في ضوء ذلك على وجود (أدب عالمي)، سيفرض في الوقت نفسه وجود (ثقافة عالمية).

نعم.. هناك أدب عالمي، لكنّه ليس أدب المدارس التي تحدثنا عنها، فالأدب تصنعه الثقافة والوجدان معاً، ولكلّ مجتمع خصوصياته الثقافية (الدينية والقومية والمحلية). فالواقع ـ إذن ـ يؤكد وجد أدب الشعوب وأدب الديانات. أمّا الأدب الإنساني العام فهو يخضع لمقولة العام المشترك الذي يهم كلّ البشر، ويدخل في إطار تأثيرات بيئة الأديب. فهل يمكن تسمية الإنتاج الأدبي للمتنبي وحافظ والخيام وشكسبير وموليير وطاغور وهمنغواي وسيغور ومحمّد إقبال وتولستوي والجواهري، أدباً عالمياً؟ إنّه أدب إنساني لاشك، ولكنّه ليس نتاجاً أدبياً عالمياً، لأنّه ـ بصرف النظر عن المدرسة التي ينتمي إليها ـ يمثل نتاج بيئة الأديب وصوره المحلية، رغم كون اهتماماته إنسانية. فهو ـ إذن ـ أدب الشعوب. ثم إن صح إنّ أدب هؤلاء أو غيرهم أدب عالمي، فلماذا هم دون سواهم؟!

ولفهم حجم ومضمون المساحة التي يتحرك فيها الأديب الإسلامي بين انتمائه وانفتاحه، لابدّ من معرفة طبيعة الخطوط الفاصلة بين الاتّجاهات الأدبية بعد إخضاعها لمقياس نظرية الأدب الإسلامي.

وعلى وفق هذا المقياس، فإنّ التقسيم الأقرب للواقع، الذي تحدده تلك الخطوط، هو التقسيم الثلاثي ـ الذي يتبناه الدكتور أحمد ساعي ـ التالي:

1 ـ الأدب الإسلامي المحض، الذي يكون منتجه إسلامياً، والنتاج إسلامياً، أي يحتوي على خصائص النظرية الأدبية الإسلامية شكلاً ومضموناً.

2 ـ الأدب الإنساني، الذي يلتقي ـ شكلاً ومضموناً ـ الأدب الإسلامي، رغم أنّ منتجيه غير مسلمين أو غير إسلاميين.

3 ـ الأدب الذي يتعارض مع نظرية الأدب الإسلامي، شكلاً ومضموناً.

ومن ثنايا هذا التقسيم يمكن استخراج تقسيم آخر يخضع ـ هذه المرة ـ لمقياس الثواب والعقاب، آخذاً بنظر الاعتبار إنّ الأدب في الإسلام وسيلة من وسائل التبليغ والدعوة والإرشاد، وليس هدفاً بذاته، كما إنّه ليس وسيلة دنيوية صرفة. والتقسيم هو كالآتي:

1 ـ الأدب الذي يدخل في إطار (المستحب)، والذي يخضع لضوابط الإسلام شكلاً ومضموناً وهدفاً وتأثيراً، ويستوجب الثواب.

2 ـ الأدب الذي يدخل في إطار (المباح)، والذي تستوعبه الضوابط الإسلامية شكلاً، ولكنّه لا يحمل هماً وهدفاً إسلامياً أو إنسانياً، ولا يستوجب ثواباً ولا عقاباً. وهنا يخشى بعض المنظّرين للأدب الإسلامي من تحوّل هذا اللون من الأدب إلى نوع من اللغو واللهو والعبث، على اعتبار إنّه أدب غير هادف. فينتقل حينها من حوزة المباحات إلى حوزة المكروهات، أي إنّ التصوير الأدبي يكون حينها مباحاً، ولكنّه يدخل في مجال اللهو والعبث، وذلك منهي عنه.

3 ـ الأدب (الحرام)، وهو أدب الضلال، الذي يستوجب العقاب، إذ يقع خارج دائرة الضوابط الإسلامية، شكلاً ومضموناً وهدفاً وتأثيراً.

ونستخلص من ذلك، إنّ مدرسة الأدب الإسلامي هي مدرسة الأدب للمعتقد، مع عدم إغفال شأن الإنسان وشأن الحياة، بل وعدم إغفال شأن الأدب نفسه وصوره الجمالية، ولكن يبقى مصب المضمون هو المعتقد، مع عدم الخروج عن هذا المصب في الشكل أيضاً.

أما منبع الأدب الإسلامي، فهو التصوّر الإسلامي التوحيدي للكون، أي إنّه ـ كما يعرِّفه سيِّد قطب ـ التعبير الفني الخاضع للتصوّر الإسلامي للكون والإنسان والطبيعة.

صحيح إنّ الأدب مرتبط بمشاعر الإنسان ووجدانه وكوامنه النفسية، ومن الصعب إخضاعه للعلم والمنطق ولمناهجهما وتفاسيرهما وضوابطهما، ولكن الأدب يخضع للعقيدة وموقفها وضوابطها العملية (الشريعة) دون أن يتقاطع ذلك مع كون الأدب مرتبطاً بمشاعر الإنسان ولحظاته الإبداعية، فعقائدية الأدب الإسلامي لا تلغي اهتمامه بالعناصر الفنية، فهي مهمّة جدّاً في الأدب عموماً، ولكن الأهم منها المضمون والهدف. فالتخيل والتغزل والتشبيب والخمريات، كعناصر فنية مستخدمة في المدارس الأدبية، لا يمكن للأديب الإسلامي أن يطبق ـ من خلال انفتاحه عليها ـ العنان لقريحته، بل أنّه يوظفها لخدمة أدبه، في الحدود والضرورات التي تمليها نظرية الأدب الإسلامي. ومن ذلك، التوقف عند تصوير مشاهد الحبّ مع الجنس الآخر ـ مثلاً ـ وتصوير المرأة ومفاتنها والعلاقة بها، أو تصوير النشوة وحالة السكر وغيرها.

وقد يعتقد بعضهم إنّ من غير الممكن صنع الصورة الأدبية العذبة دون المبالغة في استخدام عناصر فنية كالخيال والعاطفة وغيرهما. وقد تصل المبالغة إلى أنواع من الكذب والتهمة والقذف والنفاق والمجون، وكلّ ما يؤدي إلى الإثارة العاطفية المحرمة.

إذن.. نظرية الأدب الإسلامي لا تسمح بكلّ ما يؤدي إلى الاصطدام بالشرع المقدس فيما هو غير مشروع من الصور، لأنّ الأدب ـ كما تقدم ـ غير مستقل عن العقيدة والشريعة وضوابطهما. وعلى العكس من تلك المضامين والصور غير المشروعة التي تسمح المدارس الأدبية الأخرى بصنعها، والتي تفسد الذهن والنفس والروح، فإنّ الأدب الإسلامي يهدف إلى إصلاحها وتهذيبها، وإلى المساهمة في توجيه الحياة الوجهة الصحيحة، وبنائها على الأُسس التي يريدها الله سبحانه وتعالى، في حين إنّ الحياة ـ كما هي ـ هي التي توجه المدارس الأدبية الأخرى وتبنيها، لأنّ منبعها الأرض وليس السماء.

والأدب ـ كغيره من ألوان الإبداع ـ يوظفه الإسلام في سبيل تحقيق هدف وجود الإنسان على الأرض. وهذه هي الغاية النهائية للأدب الإسلامي، وفيها تكمن قيمته، فهو إبداع لهدف ولي إبداعاً للإبداع، لأنّه يحمل رسالة الإنسان الإلهي إلى كلّ بني الإنسان. وقيمة الأدب في الإسلام في هدفه وتأثيره، وليس في مقدار الإبداع الذي يحتويه. وتقاس قيمته بمعيار التأثير، وليس بمعيار الإبداع المجرد. فبهذا التجريد يفقد الأدب قيمته الحقيقية، ولا يبقى ـ حسب سيِّد قطب ـ سوى عبارات خاوية أو خطوط صماء. وكما يعطي الإسلام قيمة لحياة الإنسان، فأنّه يعطي الأدب قيمة أيضاً.

ويمكن بسهولة استنباط الموقف الإسلامي الأصيل حيال الأدب، من خلال تعامل أهل البيت (ع) معه، ومنه ـ مثلاً ـ الشعر المنسوب للإمام عليّ (ع) ولأهل البيت (ع) وعموم خطبهم وكلماتهم المجموعة في نهج البلاغة والصحيفة السجادية وغيرهما. إذ نرى أنّهم تعاملوا مع الأدب وسيلة تبليغية، لخدمة الأهداف العقائدية، فشكّل أدبهم أسمى وأرفع أدب إسلامي.

وهذا لا يعني أنّ الأدب الإسلامي هو أدب الخطاب المباشر، والوعظ والإرشاد فقط، أو الأدب الذي تتخلله ـ دائماً ـ الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، أو الذي يستخدم الأساليب والألفاظ والتعبيرات العقائدية والفكرية، إلى المستوى الذي يدفع بعضهم للادعاء بأنّه يستمع لخطبة وعظية أو درس عقائدي أو أنّه في جلسة ذكر.

كلا بالطبع، لا يتطلب الأدب الإسلامي ذلك ـ دائماً ـ رغم إنّ هذه الألوان من أدب الخطاب المباشر ضرورية أحياناً، بل أنّه يعمد أيضاً إلى الخطاب غير المباشر، والتوجيه الذي يستبطن مفهوماً قرآنياً أو حديثياً. وعموماً فإنّ تحديد الأسلوب الفني (المباشرة وغير المباشرة) يخضع لطبيعة مخاطب الأديب أو الحالة التي يريد الأديب التعبير عنها و الواقع الاجتماعي الذي يعيشه.

الإسلام لا يريد من الأديب أن يكون مفكراً أو فيلسوفاً أو صوفياً، ولا يريد إخراجه من عفويته، وحرمانه متعة اللحظة الإبداعية، وقولبة إبداعه، وتعقيد فكره ولفظه وأدائه، واضطهاد أحاسيسه، وتحنيط ذوقه الفني، كما قد يقول بعضهم، بل على العكس، ففي الوقت الذي تؤمِّن نظرية الأدب الإسلامي للأديب استخدام جميع العناصر الفنية المباحة، فأنّه يعطي لأدبه قيمة معنوية، ويضعه أمام مسؤوليته الربّانية ورسالته الإنسانية، ويجعل لفنه رسالة وهدفاً، كما يتركه لفطرته السليمة وعفويته ولحظاته الإبداعية ووجدانه الواعي وضميره الحيّ وفكره المنفتح وأدائه الرفيع ولفظه الجميل وأحاسيسه الجياشة وذوقه الفني.

وهذه الفطرة السليمة هي التي يؤكدها الإسلام، ويطلب من الأديب ـ من خلالها ـ أن يتعفف في لفظه وفي دلالات نتاجه الأدبي، أن لا يكذب، لا يقذف، لا يتهم، لا يعبث، أن يتوازن في عواطفه.

وإذا أصرّ الأديب على التيه والضياع والعبث، فسيكون ـ حينها ـ أمام مفترق طريق: إما أن يحتفظ بأدبه لنفسه، وحينها يفقد دوره الحقيقي، أو يصرّ على العبث وإضلال الآخرين، وحينها سيقف أمام مسؤوليته الاجتماعية والإنسانية، وفي النهاية أمام مسؤوليته الشرعية، لأنّ المسؤولية بكلّ أنواعها لا تعرف (الحرية المطلقة)!.

ومما سبق يمكن استخلاص الخصائص النظرية للأدب الإسلامي، فهو إلهي المنبع والمنطلق، عقائدي المصب والهدف والمسؤولية، منتمٍ في مضامينه وأساليبه المنسجمة بعضها مع بعض، إنساني وعالمي في نوعية الخطاب ومساحته. وفي الوقت نفسه يولي الأدب الإسلامي العناصر الفنية ـ في حدودها الشرعية ـ اهتماماً بالغاً. وهذه الأخيرة من خصائصه التطبيقية. إلّا أنّ الأدب الإسلامي لا يضحي بخصائصه النظرية من أجل العناصر الفنية مطلقاً.

هذه مجرد إشارات سريعة إلى واقع الإشكالية الأساسية في نظرية الأدب الإسلامي، إشكالية الانتماء والانفتاح، وليس عرضاً لنظرية الأدب الإسلامي نفسها، إذ يبقى تأسيس هذه النظرية وبلورتها بصيغة متكاملة، إضافة إلى صياغة اتّجاهاتها وأساليبها الفنية، يبقى همّاً إسلامياً يتحسسه جميع المعنيين، ولاسيما الأدباء الإسلاميون. وقد يصعب على فرد أو جماعة أخذ هذه المهمّة على عاتقهما، لأنّها مهمّة كبيرة وشاقة يفترض أن يشترك فيها الفقهاء والمفكرون والأدباء والمثقفون معاً.

ارسال التعليق

Top