• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

النص الديني.. بين البيان والإجمال

النص الديني.. بين البيان والإجمال

◄إذا ما أردنا أن نرجع إلى علوم القرآن، ونستفهم أهل الاختصاص في ذلك، نجد أنّ مسألة البيان والإجمال في النص القرآني قد بحثها العلماء في كُتُب العلوم القرآنية كالبرهان والإتقان وغيرهما بتفصيل كما درسها الفقهاء في علم أصول الفقه بتبيين، لأنّها من المسائل التي يترتّب عليها فهم النص واستنباط الأحكام الشرعية.

وقد قسّموا القرآن العظيم إلى:

1- ما هو بيِّن بنفسه، بلفظ لا يحتاج إلى بيان منه ولا من غيره، وهو كثير. ومنه قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ) (التوبة/ 112)، وقوله: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) (الأحزاب/ 35)، وقوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون/ 1)، وقوله: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ) (يس/ 13)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا) (النساء/ 47).

2- وإلى ما ليس ببيِّن بنفسه، فيحتاج إلى بيان.

وبيانه إمّا في آية أخرى أو في السنّة، لأنّها موضوعة للبيان، قال تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل/ 44).

والثاني ككثير من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاملات والأنكحة والجنايات وغير ذلك، كقوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) (الأنعام/ 141)، ولم يذكر كيفية الزكاة ولا نصابها ولا أوقاتها ولا شروطها ولا أحوالها ولا مَن تجب عليه ممّن لا تجب عليه، وكذلك لم يبيِّن عدد الصلوات ولا أوقاتها.

وكقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185)، وقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران/ 97)، ولم يبيِّن أركانه ولا شروطه، ولا ما يحلّ في الإحرام وما لا يحلّ، ولا ما يوجب الدم وما لا يوجبه، وغير ذلك.

والأوّل: أي الذي بيانه في آية أخرى - أرشدنا النبيّ (ص) إليه...

وضرب الزركشي أمثلة كثيرة لما ورد بيانه في القرآن، ممّا أُجمِلَ في محلٍ وبُيِّنَ في محلٍ آخر قبله أو بعده... أو في سورة أخرى.

كما تطرّق الزركشي إلى الموارد التي يحمل فيها اللفظ على غيره، أو قد يكون اللفظ محتملاً لمعنيين، وذكر الأمور التي تعيِّن المعنى عند الأشكال، فذكر سبعة ضوابط في ذلك.

وهكذا بحث الظاهر والمؤول، وهو أن يكون اللفظ محتملاً لمعنيين، وهو في أحدهما أظهر فيُسمّى الراجح ظاهراً والمرجوح مؤوّلاً، وذكر أمثلة لذلك، كما بحث اشتراك اللفظ بين حقيقتين، أو حقيقة ومجاز.

ثمّ بحث مفصّلاً الإجمال في الظاهر، وأسبابه وشواهده.

وهكذا نجد السيوطي يبحث تلك المسائل وبتفصيل أيضاً، فليراجع في محلِّه، وعلى نفس النسق نجد سائر العلماء في كُتُب علوم القرآن.

وبحث هذه المسائل علماء الأُصول، فحدّدوا معانيها وحدّدوها أيضاً، فقالوا:

"أمّا المجمل: فهو اللفظ الذي ليس له ظهور بالفعل ولو كان ذلك بسبب اكتنافه بما أوجب إجماله وإبهامه، وأقسامه كثيرة:

فمنها: المجمل بالذات كأوائل السور القرآنية من (ق) و(ن) وغيرهما.

ومنها: المشترك اللفظي الذي لا قرينة على تعيين بعض معانيه، كقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) (البقرة/ 228)، فإنّ لفظة قرء مشتركة بين الطّهر والحيض...

ومنها: المشترك المعنوي في بعض الموارد، كقوله تعالى: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) (البقرة/ 237)، فلا يعلم أنّ المراد من الموصول الزوج أو ولي ومنها: العام والمطلق المقترنان بمخصّص مجمل أو مقيّد..

ومنها: كلّ لفظ اقترن بما يصلح لصرفه عن ظاهره فحصل الإجمال بسببه.

وأمّا المبيّن: فهو ما كان ظاهر الدلالة على المعنى المقصود، وينقسم إلى قسمين:

الأوّل: النص البالغ في ظهور دلالته إلى حيث لا يقبل التأويل عند أهل العرف...

الثاني: الظاهر، وهو اللفظ الذي له ظهور قابل للتأويل بسبب القرائن، كالعام والمطلق ونحوهما.

وأمّا المؤوّل: فهو اللفظ الذي خرج عن ظهوره الذاتي وأُريد منه خلاف ظاهره بواسطة القرينة، فيدخل فيه كلّ لفظ علم استعماله في غير ما وضع له بقرينة حالية أو مقالية...

وأمّا المحكم والمتشابه، فالأوّل يساوق المبيّن والثاني يساوق المجمل.

وهكذا لم تكن النصوص كلّها مجملة أو مبهمة، بل كان فيها المبيّن الذي لا يقبل تأويلاً، فهو قطعي الدلالة واضح المراد، وكان من النصوص المجمل الذي حُدِّدت مسارب رفع إجماله وطُرق بيانه.

وقد بحث الشهيد الصدر مسألة الفهم الذاتي المتغيِّر والعامل الشخصي المؤثِّر في تفسير النص وتناوله، فقسّم في بحث "حجِّية الظهور"، الظهور إلى ظهور ذاتي وهو "الظهور في ذهن إنسان العين"، وإلى ظهور موضوعي وهو "الظهور بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام". وبيّن بأنّ "الأوّل يتأثر بالعوامل والظروف الشخصية للذهن التي تختلف من فرد لآخر تبعاً إلى أنسه الذهني وعلاقاته". أمّا الثاني فهو "له واقع محدّد يتمثّل في كلّ ذهن يتحرّك بموجب علاقات اللغة وأساليب التعبير العام"... وحجِّية الثاني هي المعتمدة "لأنّ هذه الحجيِّية قائمة على أساس أنّ ظاهر حال كل متكلِّم إرادة المعنى الظاهر من اللفظ... لا ما هو الظاهر نتيجة لملابسات شخصية في ذهن هذا السامع أو ذاك".

وبحث الصدر أيضاً مسألة تاريخانية اللغة وتغيّر فهمها وتطوّر مفاهيمها بفعل عوامل الزمان، وأكّد على أنّ المراد من حجِّية الظهور "في عصر صدور الكلام لا في عصر السماع المغاير له، لأنّها حجِّية عقلائية قائمة على أساس حيثية الكشف والظهور الحالي".

وهكذا نجد أنّ الاستفادة والاستنباط من النصوص الشرعية يخضع لقواعد علمية، يجهد من خلالها للوصول إلى مقصود الشارع المقدّس، لا الأفهام والتصوّرات البشرية القاصرة. ►

 

المصدر: كتاب الإسلاميون على أعتاب القرن الحادي والعشرون (مقاربات نقدية)

ارسال التعليق

Top