سنعمل مزاوجة بين المواصفات التي طرحها القرآن لهذه الفئة المجتمعية الخطيرة، وبين خصائصها المُدركَة أو المشخّصة في الميدان، لئلا نتحدّث عن مفهوم التعويق بشكل تنظيري بعيداً عن الواقعية التي تقدّم الدلائل والشواهد الحيّة على كلّ خصلة ذمية من خصال المعوّقين.
1- متى يظهرون؟
إنّ أفضل وأخصب الفرص التي تنمو فيها طحالبُ المعوّقين، هي المنعطفات التاريخية التي يمرّ بها المجتمع في حال انتقاله من وضع بائس مُزرٍ واقع تحت قبضة الجور والاستبداد والعدوان، حينها يمدّ هؤلاء المتضررون من الإنقلاب، أو (الثورة) أو (التغيير) أو حتى (الإصلاح) رؤوسهم ليمارسوا دور استنزاف العقول، وتحطيم المعنويات، إثارة علامات الاستفهام والشبهات والإشكالات، وعرقلة كلّ عمل إصلاحي أو تغييري منشود بذرائع إحباطية أو تخذيلية شتّى.
المعروف تاريخياً، ومن خلال قراءة السيرة النبويّة، أنّ حركة النفاق كانت (كامنة)؛ لكنّها ظهرت للقوّة والفعل بعد انتصار الدعوة الإسلامية، واستئصال شافة الكفر والشِّرك والظلم، أيّ بعد ذهاب وزوال سلطة الطغيان القرشي، وبعض المؤرخين يرجع ذلك إلى ما بعد غزوة بدر تحديداً.
في الواقع المجتمعي، نشهد حركة المعوّقين أثناء الانتفاضات والحرمات التحررية، والثورات، والدعوات الساخنة إلى تغيير الوضع الجامد الرقيب أو المتخلّف، والسبب في ذلك، أنّ (المعوّقين) ينتسبون تاريخياً إلى السلطة البائدة، هم منتفعون من بقائها، حريصون على استمرارها، كي تمتد مصالحهم مع امتداد وجودها، ولذلك ترى المعوّقين ينبهرون لتسفيه وتسخيف أيّ نشاط ثوري تغييري، بل يعملون معاونين لأجهزة مخابرات السلطة - حتى من غير أن يقبضوا شيئاً أحياناً – في تفتيت عرى الثوار، وتحطيم عزائمهم، والنيل من مقدرتهم على إحداث التغيير المطلوب، وتصوير القوّة القائمة لا على أنّها (لا تُهزم) فقط، بل إنّها (الأفضل) لحالة المجتمع ورفاهيته وأمنه.
إنّ منطق المعوّقين منطق فرعوني، لاحظ ماذا قال فرعون وبطانته عندما استشعر خطورة النهضة الموسوية: ﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ (موسى وهارون) يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى﴾ (طه/ 63).
يندفعون بأقصى قوّتهم ليشيعوا في أوساط المنتفضين والدائرين في فلكهم ممّن يؤيدون نهضتهم ولم يشتركوا فيها، أنّ الوضعَ القائم وضعٌ (مثالي)، وأنّ أيّ تغيير يطرأ عليه سوف يؤثر على اقتصاد السوق ومعاشات الناس، ويرعزع أمنهم واستقرارهم، ويخسرهم ما هم فيه من وئام وتجانس، وأنّهم ذاهبون إلى المجهول، وأنّهم - أيّ القائمون على التغيير - طلّاب سلطة سرعان ما يقلبوا ظهر المَجِنّ لكم، وأمثال ذلك.
2- المعوِّقون ليسوا أسوياء عقلياً ولا نفسياً:
لا نعني بذلك أنّهم يعانون اختلالات عقلية أو نفسية؛ لكنّهم يوظّفون قدراتهم العقلية من أجل التخريب وإثارة القلاقل والبلابل والفتن، ويعانون من عقدة أنّ يأخذ غيرهم زمام الأمر بأيديهم، هم - كما قلنا مصلحيون - تهمهم مصالحهم التي لا تنمو في أجواء الصلاح والمصلحة العامّة، وهم يقتاتون على أوضاع الفساد والانحراف والتشظي لأنّها هي المياه التي يمكنهم السباحة فيها، وإذا جرت الرياح بغير ما تشتهي سفنهم، وقفوا صفاً واحداً ضد محاولات التغيير التي تفضحهم تلقائياً، وتكشف دسائسهم ومؤامراتهم، وتميط اللثام عن نموهم الورميّ في أجواء الابتعاد عن الالتزام والهداية والاستقامة والقانون الذي يسعى لضبط حركة التسيّب في المجتمع.
عقولهم تعمل باتجاه واحد هو: كيفية تخريب كلّ ما هو جديد لا لأنّهم أعداد الجدّة والتجديد، بل لأنّ الجديد يعني فيما يعنيه الإماطة بالكثير من مصالحهم المبتنية أساساً على قاعدة إعاقة الظلم والجور للانتفاع من بقائه طويلاً حتى ولو اختر البقاءُ الطويلُ بشرائح و طبقات وفئات المجتمع الأُخرى.
ونفوسهم مبرمجة على كراهية الخير للعامّة، هم وإن كانوا لا يمثِّلون بالضرورة الواجهة المجتمعية لسلطات الاستبداد؛ لكنّهم جمهور ينتمي - روحياً وفكرياً ونفسياً - إلى الطابور الخامس الذي يشيع الإشاعات والأراجيف والفتن حتى تبقى البلاد وعلى كفّ عفريت أو سطح صفيح ساخن، أو على برميل بارود، بحسب مصطلحات السياسة الأمنية السائدة اليوم.
من هنا، يمكن اعتبارهم (مرضى القلوب) أو (مرضى النفوس) وإن بدوا أصحاء في الخارج تنضح وجوههم بنظرة النعيم الذي يوفّره له أربابُ نِعمتهم من حكّام السحت والحرام.
3- المعوِّقون عادة عطّالون بطّالون، لا حرفةً لهم إلّا الكلام:
هم أصحاب شعارات طنّانة، رنّانة، تشبه قرع الطبول الفارغة لها دويّ، وقد تُحدث رُعباً؛ لكنّها خاوية، فارغة المحتوى، لا تصمد أزاء النقد. يقول تعالى في حقّهم ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ (البقرة/ 204).
وكثيرُ الكلام قليل العمل، ليست صفة نفاقية فقط، بل دليل على الخواء الذاتي الذي يحاول أن يُسقط خواءه على الخارج ليعيش في دوّامة من الخواء تتنفس فيها مطامعه وقارمه وألاعيبه، أيةُ أطروحة للتنمية والامتلاء والوفرة تُخيف المعوّقين لأنّها تفضحهم، وتكشف هشاشتهم.
ولو تأمّلت في مقولاتهم وعباراتهم التحطيمية لرأيتها تدورُ في نطاق شبيه بالمقولات الآتية:
- الناسُ في وادٍ وأنتم في وادٍ، العالم وصل إلى القمر وأنتم تتحدّثون عن عودة الدِّين إلى الحياة.
- أطروحاتكم أشجار غير قابلة للإنبات، الواقع غير مُهيء والمجتمع غير مستعد للتعامل والتفاعل مع هكذا أطروحات أكل الدهرُ عليها وشرب.
- قبلكم جاء أُناسٌ جرّبوا وفشلوا، وأجهل الجهلاء مَن عثر بحجر مرتين، ومَن جرّب المجرّب حكت به الندامة.. إنّكم تضيّعون أوقاتكم سفهاً.
- عندكم اختلال في سلّم الألويات، الأولوية ليست لما تدّعون أو تعملون، الأولوية لغير ذلك، وهم إذ يرمون الكرة بعيداً عن الشباك، إنّما يشاغلون اللاعبين عن الحركة في الساحة.
الأجواء غير مساعدة، التوقيت غير مناسب، المصلحة تقتضي الأرجاء إلى وقت آخر.
أمثالُ هذه المقولات، قد تبدو في ظاهرها (حرصاً) و(حكمةً) و(قراءة لما وراء الحدث) واستشرافاً للمستقبل؛ لكنّها - لمن يعرف حقيقة وطبيعة وتفكير المعوّقين - يفهم أنّها تخلو من الحرص والحكمة والتعقل والاستشراف، هي (أحجار لفظية) ترصف على طريق العمل لتعرقل السير لا أكثر.
4- هم استنزافيون، يمتصون الطاقات الإيجابية أو يضعفونها بما يولون من اهتمام بالطاقات السلبية الموهنة للعزائم، ومن ثمّ فهم سلبيون يلتقطون من واقع حياة المجتمع أسوأ ما فيه ليضخّمونه، ويأتون لكلِّ إيجابي فيه ليوهنوه، ويحقّروه، ويزدروه، وإذن فهم يعملون على خطّين تخريبيين متوازيين.. خطّ (التهويل) السلبي، وخطّ (التوهين) للإيجابي، حتى لبيدو السلبي في نظر مَن لم يؤتَ وعياً كافياً سحابةً كثيفة تغطّي عين الشمس ويبدو الإيجابي المشرق شمساً محجوبة بالسحاب أو الضباب أو الكسوف.
وبحسب نظرية (تحويل القوى) أو تبديد الطاقة، فإنّ كلمات المعوّقين والمثبطين والمتخذّلين تسري في النفس كسريان السمّ في الجسد، لأنّها ببساطة تعمل عمل (القوى العمياء) التي تمتص الطاقة الإيجابية وتحوّلها إلى سلبية، فبدلاً من أن تعمر صدور الناس بالأمل، يعمد هؤلاء إلى هدر ذلك بتكديس أطنان التشاؤم والياس والتطيّر في طريقهم حتى تنحسر موجات الأمل من نفوسهم، وإذا استبشر الناس بنصر أضعفوه بأنّ العدو سيهجم من جديد ويستعيد مواقعه وبأساليب أكثر تطوّراً وقدرة على إلحاق الهزيمة، وإذا بهم يمارسون دور الرعاية للعدو، ولذلك ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ﴾ (المنافقون/ 4).
و(التعويق) يلتقي مع (الهدم) في أنّ الثاني عملية هدم مادّية، والأوّل عملية هدم معنوية، والأوّل أخطر بكثير من الثاني، ومن بين أساليب المعوّقين هو بث الإشاعات والأراجيف والدعايات المغرضة التي تزرع الرعب في النفوس، وتضعف الثقة بالمدافعين عن الوطن والمقدّسات والقيم والسيادة والاستقلال.
5- يعيبون الأعمال الصالحة المخلصة، ويقلّلون من شأنها، ويحطّون من قيمتها، بل ويسخرون من العاملين في مضمارها، وبذلك يضعون أو ينصّبون أنفُسهم قيمين أو حكّاماً على أعمال الناس، فما وافق مزاجهم (عملٌ) مجيد، وما خالفه (عملٌ) زهيد، ولقد كان هذا هو شأن المنافقين على عهد النبيّ (ص) حيث كان فقراءُ المسلمين يتبرّعون بحسب إمكاناتهم المحدودة المتواضعة، فكان المعوّقين يهزأون ويسخرون من عطائهم القليل. يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (التوبة/ 79).
في واقع مجتمعاتنا اليوم، نشهد النبرة ذاتها، المعوّقون يقولون لمن يضع (لَبِنة) أين لَبِنتك في البناء؟ أين جهدُك في الصرح؟ هذه نَفثة في البحر؟ ماذا يمكن أن تصنع بضعُ قوارب لهذا الطوفان الذي يجرف بالجملة؟ هذه التبرعات البسيطة، ماذا يمكنها أن تسدّ من جوع أو تكسو من عري، أو تقي من غائلة الفقر؟ وتلك الكلمات الطيِّبات التي تُقال للعاملين تشجيعاً لا تسمنهم ولا تغنيهم من جوع، وهكذا، بدلاً من أن يشدّوا على أيدي المتطوّعين والمتبرّعين، والباذلين بحسب إمكانياتهم، ويعتبرون أنّ عطاء الفقير البسيط يعادل عطاءَ الغنيّ الكبير، ذلك أنّ كلاً منهما ينفق ممّا عنده، وصدقة الفقير تعادلُ أو تفوق صدقة الغنيّ لأنّ ميزان الله ليس ميزان الأسواق التجارية، الله ينظر إلى نيّة وروحية المُعطِي لا إلى حجم وكم عطائه!
6- هم بخلاءُ في العطاء:
في حين أنّهم يهزأون ويسخرون بعطايا المعسرين الذين يجودون بأبسط ما لديهم، تراهم أشحّاء بخلاء، قابضي أيديهم، لا يساهمون في عطاء، ولا يقدِّمون معونة، ولا يشاركون في عمل خيريّ.. المعوّقون يبخلون هم أنفُسهم ويأمرون الناس بالبخل، وبذلك يرتكبون جرائم مركّبة، إذ يحجبون عطاءهم، بقطع النظر عن كثرته أم قلّته، تراهم يحترمون المنفقين والباذلين أموالهم في الخير بالاحتراس من التبذير والإسراف، أو الإنفاق في محلّه، وكأنّهم يعلّمون المحسنين كيفية الإحسان، ولمن ينبغي أن يكون، وخطورتهم في الثانية أشدّ من خطورتهم في الأولى، فقد يمنعون الناس رفدهم وعطاءهم ومعوناتهم بخلاً وتقتيراً، أمّا عندما يعوّقون حركة العطاء إمّا بالاستخفاف بها واستقلالها وازدراء الواهبين على عطائهم النَّزراليسير، أو يمسكون أيادي المحسنين الذين يغدقون أموالهم في الخير ابتغاء مرضاة الله، بحجّة أنّ هناك ماهو أكثر استحقاقاً، أو التخويف من أن تكون أموالهم لا تذهب إلى المستحقين أصلاً، وربّما افتروا على بعض المحتاجين أنّهم محتالون يأخذون من كلّ مكان، أو ينفقون ما يكسبونه من معونات في التفاهات، وما إلى ذلك من صُوَر التعويق الذي قد تجعل بعض المحسنين يراجعون أنفُسهم أو يحدّون من عطائهم لا بناءً على قراءات ميدانية، بل على نقولات افترائية اختلاقية، أو تهويلية تحضيضية.
7- ينسحبون في ساعة الحاجة إليهم:
تراهم متواجدين وبكثرة في أسواق الكلام وعلى صفحات الصُّحف، وفي الفضائيات، ومواقع التواصل الاجتماعي، وفي المنتديات العامّة، أيّام الرخاء والدعة والسلامة؛ ولكنّهم يخفون رؤوسهم، وينكثون عندما يتعرّض المجتمع إلى مصيبة، أو كارثة، أو نكبة، وقد يختلقون الأعذار الواهية، والحجج التافهة لعدم المشاركة، وربّما استعانوا ببعض الأمثال والأمسيات الشعرية، بل حتى الآيات والروايات التي يلوون أعناقها ليدافعوا بها عن أنفُسهم، فترى المعوّقين يلجأون إلى قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ (الأنفال/ 25)، ليبرّروا انهزامهم من الساحة، وقد يتذرّعون بقوله تعالى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ (البقرة/ 195)، معتبرين أنّ الاحتراز والاحتراس واجبان، وعلى الإنسان أن يكون حذراً في أيّام الأزمات، وقد يردّد بعضهم: «كُنْ في الفتنةِ كابنِ اللَّبُونِ، لا ظَهرٌ فيُركبَ، ولا ضَرعٌ فيُحلَبَ»[1]. ما أكثر أمثالهم التبريرية، وأشعارهم التخذيلية، ومقولاتهم التعويقية.
8- المعوِّقون لا انتماءَ حقيقياً لهم:
يصعب على الناظر لأوّل وهلة تحديد وتشخيص هويّة المعوّقين؛ لكنّ الناظر نظرة عميقة إلى أساليبهم وخطّطهم ومنهجهم في التعويق، يلحظ بألا يحافره شكّ أنّ المعوّقين (مذبذبين) لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فتراهم ينعقون مع كلّ ناعق، ويميلون مع كلّ ريح، وإذا رأيتهم ينحازون إلى فئة فأعرف أنّ انحيازهم يصبّ في خدمة مصالحهم وشعاراتهم وسياستهم التعويقية، لا أنّهم فعلاً مقتنعون بأحقية وسلامة توجهات تلك الفئة، هم يلهثون وراء منافعهم وحيثما وجدوا مَن يحقّقها لهم انحازوا إليه، فإذا أدبر عنهم تولّوا عنه معرضينا، وربّما سبّوه وشتموه واتهموه، بل تصل بهم الوقاحة أو الجرأة أحياناً على نسبة أنفُسهم إلى أهل الصلاح ومريدي إنقاذ البلاد من محنته، ولا يتردّدون في القول إنّهم مع هذه الجهة أو تلك إذا اقتضت أحوال السوق الإعلامية والسياسية والمالية ذلك، الانتماء عندهم (ثوب) أو (زيّ) يلبسونه بحسب المواسم والاحتفالات ويخلعونه متى رأوا أنّه يسبّب لهم مأزقاً، والانتساب عندهم لعبة يمارسونها ما درّت لهم ربحاً، فإذا وجدوا أنّها تقضي في الضد من مصالحهم، أنهوها ليلعبوا غيرها، وهكذا يتنقلون من حضن إلى حضن، ويلعبون في أكثر من ساحة وعلى أكثر من حبل، وقد يتسترون ببعض الأعمال المشروعة للإضرار بالنشاط الإيماني في المجتمع كبناء أكثر من (مسجد ضرار)!
هم ممثّلون يجيدون أدوارهم، وقد تنطلي على ضِعاف الوعي وسطحيي الثقافة، وقليلي التجربة، ولذلك تتزايد أعدادهم في هكذا مجتمعات لأنّها تربتهم الخصبة لزراعة بذور التعويق لأي نشاط اجتماعي يضرّ بهم ولو من بعيد. والخطير في الأمر أنّ عدم تحرّجهم من حسبانهم على هذه الجهة أو تلك يجعلهم يتواجدون في الأماكن العامّة التي يُسطّح فيها الوعي، أو حتى في لقاءات وإطلالات إعلامية مع معدّي برامج من شاكلتهم، ليوافق شنٌّ طبقة في الغرق على وتر التعميق بين سؤال خبيث وجواب أخبث منه.
9- مفسدون ولكن لا يشعرون:
حينما عبّر القرآن عن ردود أفعال المنافقين عندما يحشرون في الزوايا الضيقة، وكيف ينقلب الشعار والمصطلح عندهم من اليمين إلى اليسار وبالعكس، ويستديرون 360 درجة للالتفاف على التهمة الصريحة التي تلصق بهم، وهي أنّهم (فاسدون) (مُفسدون) حيث يأتي الردّ كما يعّبر النصّ القرآني معاكساً تماماً: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ (البقرة/ 11).
وكما القرآن، فإنّ الواقع يردّ على تخرّصاتهم وأكاذيبهم ومحاولات انسلاخهم من حالة التذبذب والتقلُّب والإفساد: ﴿أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة/ 12).
يعلمون أنّهم يسيرون ضد أو عكس السير، ويخالفونه، وينتهكون قوانينه، ويتسبّبون بحوادث مؤسفة كثيرة؛ لكنّهم يخفون ذلك، ويتنكرون له، وينفونه، ويدافعون عن صلاحهم المزيّف ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ويحلفون بالله - إذا استدعى الأمر - ليقنعوا البسطاء أنّهم جادون فيما يقولون، وكلمة ﴿لا يَشْعُرُونَ﴾ لا تعني عدم الإحساس بما يرتكبونه من تخريب، وإنّما يتصوّرون أنّهم بأفعالهم الكيدية لمجتمعاتهم يستطيعون تمرير خُدعهم بما يجعلها تنطلي عن مَن (يسمع) ولا (يفكّر)، ويستمع ولا يحلّل، ويصغي ويسارع إلى التصديق.
10- يرفضون الانضمام إلى حركة التغيير والإصلاح:
المعوّقون لحركة سير المجتمع واثقون بأنفُسهم أكثر من اللزوم، يرون أنّ العقل المدبِّر والقادر على تسوية المشكلات وإيجاد الحلول عندهم لا عند غيرهم، بل يرمون العقلاء بالسفاهة والتفاهة والتخلُّف والرجعية، ولذلك لا تجد أحداً منهم يؤيد الإصلاحات التي تصدر، أو اللوائح التشريعية والقانونية التي تُسنّ، ما أن يُعلن عن تشريع الأمر سارعوا إلى نقده وإضعافه والبحث عن ثغراته تمهيداً لإسقاطه، هم مشروع عرقلة لا يحسنون غير ذلك، وأكثر ما يؤلمهم أن يروا حركة السير المجتمعية منتظمة ومقننة وتجري وفق الأصول المرعية، يعتاشون على الانتقاص والتعبير والبحث عن المثالب، انتصارهم الكبير إذا نجحوا في عرقلة مشروع يصبّ في مصلحة الناس، لأنّ ذلك يعني في قاموسهم استقطاب الناس نحو الوضع الجديد الذي يريد أن يكسب تعاطفهم، وإذا لم يجدوا في مشروع مثلبة سارعوا إلى نقد ما أنفق عليه من أموال، وما يمكن أن يعتريه ويعترضه من احتمالات الفشل المستقبلية، أو إلى اتهام القائمين عليه بالجهل وعدم النظر بعيداً، وإلّا كانوا قد اهتموا بمشاريع أكثر نفعاً للوطن وللمواطنين.
وعلى هذا المنوال نراهم دائماً يغرّدون خارج السرب، لا من إبداع عندهم، ولا من أُطروحات للعمل أمثل يمتلكونها، وإنّما على طريقة (خالف تُعرَف)، و(المعارضة من أجل المعارضة)، وإشاعة النكد في الأوساط حتى لا يتسبّب الوضع فيتزلزل ويتزعزع وضعهم، هكذا المعوّقون في كلّ حين لا يخرجون من إرباك حتى يدخلون في إرباك، ومن بلبلة إلى بلبلة، ومن فتنة إلى فتنة.
11- المعوِّقون لا يعترفون بخطأ يرتكبونه:
ليس لديهم الجرأة على الاعتراف بأخطائهم، بل إنّ الذي يؤشر على أخطائهم يخسر في الزاوية الضيقة، وتكال لهم التهم، وقد يُهدّد في رزقه أو أولاده أو حياته، هم معصومون عند أنفُسهم، يُخطّئون غيرهم ولا يحقّ لغيرهم أن يُخطّئهم، وواحدهم تماماً مصداق لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ﴾ (البقرة/ 206).
يشمّرون عن سواعدهم للدفاع عن تفاهاتهم وسفاهاتهم وعرقلاتهم لسير العمل، ويظهرون عضلات وطنيتهم الكاذبة كلّما اتهموا بأنّهم ضد مصلحة الوطن، ولديهم قدرة على تحوير الأخطاء وتصويبها والدفاع عنها، إذ كيف يصدرُ الخطأ عن المعصوم، وإذا توجه النقد إليهم بأنّهم هم مَن يضع العصي في عملية العمل، يسخرون ممّن يثير النقد بقولهم: أين هي عملية العمل حتى نضع العصي فيها؟ هل ما يجري هنا وهناك من إصلاحات جزئية تحمّل حقيقي جاد؟ ما هذه الأعمال إلّا لذرّ الرماد في العيون وتكميم الأفواه، اسألوا قادتكم أين تُصرف الأموال الطائلة، هل على المشاريع الحقيقية أم على ملذاتهم، وإنّما نحن ننتقد ما يجري وراء الكواليس لأنّنا ننظر بعيون أبعد ممّا تنظرون، نحن نرفض التلاعب بحقوق المواطنين، ولسنا كما تتصوّرون كالحواجز في الطرقات، وما نعمله هو لإزاحة هؤلاء الذين يشكّلون حواجز فعلية في طريقة التنمية والازدهار، و..............!
12- مُطالِبون ومطلبيون لا تتوقف مطالبهم البتة:
قلنا إنّهم كُسالى، وجبناء، وبياعو كلام وشعارات ويخنسون عند المصائب والشدائد والمحن، أو يتباكون على الإطلال لاستثارة عواطف الجماهير؛ لكنّهم إذا حصل وزيد في الأعطيات، تراهم أوّل المطالبين بها، والمتكالبين عليها، والموجدين طرقاً ملتوية لحيازة القدر الأكبر منها، وإذا حيل بينهم وبين بعضها، فإنّ ثائرتهم تثور وتقوم ولا تقعد، ويشنون على الحكومة هجوماً لاذعاً لأنّها حرمتهم من حقوقهم، وليس للعاطلين حقوق؛ ولكنّهم يتحدّثون عن (الانحياز) و(المحسوبية) و(المنسوبية) و(الاستئثار) وهم أحقّ بالوصف بذلك من غيرهم، لا يبذرون ولا يزرعون، وإذا حان وقت الحصاد تجدهم في أوّل الطابور مطالبين بحقّهم منه.
13- هم فريق عمل واحد، وإن تعدّدت مُسمّياتهم وولاءاتهم:
المعوِّقون جماعات وشِلل وفِرق ليس بالضرورة يجمعهم تنظيم أو إطار عمل واحد، هم كما سيتضح يعويقون في أكثر من مجال، وقد لا يلتقون في التخطيط للإعاقة؛ لكنّ وحدة التعويق أو منهجه يجمعهم تحت لافتة كبيرة واحدة هي الإضرار بالمجتمع، والعمل على إيقاف تقدّمه، وإشغاله بما يصرفه عن التنمية.
هم - بحسب وصف القرآن -: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ (التوبة/ 67). يخالفون خطِّ السير العام في كلّ شيء، حركتهم عرضية (أي في عرض) العمل المجتمعي المُخلص، وليست طولية (في طول) هذا العمل، وذلك معنى التعويق في المجتمعات، وقد لا توجد عقوبات قانونية تحدّ من نهجهم التخريبي أو الإضعافي أو الاستخفافي، لأنّهم ينزرعون أو يستغلون شعارات الحرّية والتعبير عن الرأي، واحترام الرأي الآخر، أيّ يأخذون من الديمقراطية وجهها الذي يخدم مصالحهم وتوجهاتهم، ويطعنونها في الظهر في ممارساتهم وأساليبهم.
وسواء أكان المعوِّقون (فكريين) أو (سياسيين) أو (اقتصاديين) أو (مجتمعيين) فإنّ التعويق مُضرٌّ في جميع أحواله وأشكاله، لأنّه يعيق إنسيابية المجتمع الحركية، ويؤخِّر السير، وقد يوقفه إذا استطاع.
14- ولأنّهم مصنّفون على أعداء الوطن لا على أحبائه ومريديه، فإنّهم يفرحون لكلِّ عملية عرقلة، أو تعويق، أو تثبيطـ، أو تخذيل - تأتي من جهة أُخرى - داخلية أو خارجية، أو غيرهم، إنّهم يفرحون بتلكؤ مشروع، وبخسارة مشروع، وبفشل مشروع، وبتعطّل مشروع، وكأنّ سعادتهم هي رؤية البلد مشلولاً، أو مُقعداً، أو كسيحاً.
وعلى العكس من ذلك يصبّون جام غضبهم وانتقامهم من العاملين المخلصين ويحملونهم أسباب التلكؤ والخسارة والفشل والتعطيل، إمّا باتهامهم أنّهم تنقصهم الخبرة والمعرفة، وإمّا باتهامهم بتفريط الأموال وتبديدها، وإمّا باتهامهم أنّهم احتكاريون يريدون أن يحتفظوا بمواقعهم ومناهجهم لئلا يزاحمهم عليها أهل الخبرة والاختصاص والتجربة، قاصدين أنفُسهم: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ (التوبة/ 50).
وأخيراً، وليس آخراً، يمكن التعرُّف على المعوِّقين أيضاً من خلال فحوى أقوالهم التي يمكن أن يُفهم مرادها بالتأمّل فيها من دراء ألفاظهم، أو قراءة ما بين سطورهم، وهذا ما يعبّر عنه القرآن بــ(لمن القول): ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمّد/ 30). أيّ أنّهم يطلقون مقولات يفهمونها فيما بينهم وتخفى على غيرهم.
بالتأمّل في كلّ تلك الخصائص والعلامات الفارقة التي تميِّز المعوِّقين، لا تملك إلّا أن تضعهم في خانة (المنافقين) الذين أفاض القرآن في وصفهم والحديث عن أدق خصالهم نظراً لما يشكّلون من خطورة على تفتيت وحدة المجتمع، وتمزيق نسيجه، وتخريب قواه النفسية والروحية، لا بما يبثونه من إشاعات وأراجيف وحسب، بل بكلِّ ما يضعونه من عراقيل في طريق البناء والإعمار والإصلاح والنهضة.
والسؤال هنا: ما علاقة (النفاق) بــ(التعويق)؟
لعلّنا أجبنا بالضمن والتفصيل عن هذا السؤال في تبياننا لأبرز سمات المعوِّقين التي هي ذاتها صفاتُ المنافقين، إلّا أنّ الإجابة الإجمالية عنه هو أنّ المنافق يشعر بالغربة عن مجتمعه الجديد (الذي اختط منهجاً مخالفاً للاستبداد والاستئثار والاحتكار والتخريف والتجهيل، حيث كان يجد نفسه ومنفعته ومصلحته ومستقبله، ولأنّه يرى أنّ التغيير الذي قاده المجتمع لقيادة نفسه بنفسه، وأطاح برموز الكفر والاستبداد والتسلُّط واللصوصية، يتعارض وما كان يعيشه في مرحلة ما قبل الثورة أو النهضة أو التغيير، مثلما يرى أنّه عاجز بل غير راغب أصلاً بأن يكون جزءاً من مجتمعه الخالع لرداء التخلُّف، فإنّه ينمو منحى (تعويق) حركة المجتمع في أُطروحته الجديدة التي تبدو له معاكسة لتوجهاته ومصالحه، وتلك هي نقطة الالتقاء الكبرى بين (المنافقين) المتلونيين الذين يتذبذبون في مواقفهم، تارة مع أهل الإيمان والتغيير والإصلاح والتنمية (في الظاهر طبعاً)، وتارة مع أهل الكفر والتسلُّط والرجعية (في الباطن طبعاً)، وبين (المعوِّقين) الذين لا يروق لهم إجراء أي تعديل فيما توارثوه من أوضاع تخدم أفكارهم ومآربهم وخططهم للاستيلاء على مفاتيح ومقدرات المجتمع ليكونوا (سادته) و(نخبته) و(واجهته) والمسيّرين لعجلته بحسب أهوائهم.
وفي واقع الأمر، فإنّ المنافقين والمعوِّقين، وهما وجهان لعملة واحدة، ليسوا - في حقيقة مشاعرهم وصدق انتمائهم وولائهم - مذبذبين، فهم قد حسموا أمرهم في الوقوف بوجه رياح التغيير القادمة لاقتلاعهم من جذورهم، أو إيقافهم عن حدّهم، أو تحجيم حركتهم التعطيلية أو التعويقية، ومن ثمّ فهم إلى صفّ الأعداء والمناوئين والمخرِّبين أقرب منهم إلى صف الإيمان والإخلاص والعمل والإصلاح والتنمية، وإنّما يُظهرون الودّ الكاذب والتعاطف المزيّف مع الإدارة الجديدة، والقيادة الجماهيرية، لكي يتستروا بذلك ويخصفون على عوراتهم من أوراق وشعارات الوضع الجديد الذي ينقمون منه وعليه وعلى المتسببين فيه في أوّل فرصة تتاح لهم لنقده، وما أن يُخطىء القادة الجُدد، أو يصدر عنهم شيء يخالف النهج الثوري أو الإصلاحي، ترى المعوِّقين (وكذلك يفعل المنافقون) يسارعون إلى القول: يا رحمَ الله أيام الطاغية أو الخالية، أو أيام زمان! سلامُ الله على تلك الأيام التي لم نكن نرضى بها (يعنون عدم رِضا الثوّار والمغيِّرين لا عدم رضاهم هم)، كم هو الفارق كبير بين ما كنّا فيه وعليه من نظام وضبط ورخاء ونعيم، وما نحن فيه الآن من فساد إداري وفوضى وشقاق وفقر وتعاسة!
نخلص من هذه المقارمة والمقارنة بين المنافقين (الحركة النفاقية) في المجتمع، وبين المعوِّقين (الحركة التعويقية) لنهضة المجتمع، إلى أنّ المتضررين من التغيير الجديد يتعاضدون نفاقاً وتعويقاً وتخذيلاً على شلّ حركة الاندفاع الثوري، أو الصحوة، أو النهضة، أو خلق المتاعب والمصاعب (المشاكل لها في أدنى الأحوال).
[1]- نهج البلاغة، الإمام عليّ (ع).
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق