• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أثر صلح الحديبية في بناء الدولة الإسلامية

أُسرة البلاغ

أثر صلح الحديبية في بناء الدولة الإسلامية

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحقِّ لَتَدْخُلُنَّ الَمسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً). (سورة الفتح/ 27)
كانت معاهدة الحديبية من الأحداث السياسية الكبرى البارزة في بناء الدولة الإسلامية. وكانت عملاً سياسياً مَهَّدَ لنتائج عقائدية وعسكرية وسياسية كُبرى، وكان طبيعياً أن يصير الموقف إلى ما وصل إليه بعد أن عززت الأحداث والمعارك الّتي وقعت بين رسول الله (ص) وأعداء الدعوة الإسلامية من اليهود والمشركين موقف المسلمين وغرست هيبتهم في النفوس، فقرّر الرّسول (ص) أن يسير بأصحابه إلى مكّة المكرّمة لِيزورَ البيتَ الحرامَ بعد أنْ رأى في المنام أنّه يدخله هو وأصحابه آمنين من غير قتال، كما تشير الآية الآنفة الذكر إلى ذلك. فكانت هذه الزيارة أداءً لعملٍ عبادي وتظاهرة سياسية وإعلامية كُبرى هزّت الجزيرة وأثارت الرّعب والقلق في موقف قريش.
توجّه الرّسول (ص) ومعه ما يقرب من ألفٍ وأربعمائة من المهاجرين والأنصار وبعض قبائل الجزيرة على ما ذكر في بعض التقديرات والروايات، توجّه الركب الزّاحف نحو مكّة في ذي القعدة في السنة السادسة من الهجرة وهم يحملون السلاح، وقد ساقوا معهم سبعين بُدْنَةً هَدْياً لِتُنْحَرَ في مكّة المكرّمة، تَناهَى الخبر إلى قريش ففزعت وظنّت أنّ محمّداً (ص) يريد الهجوم عليها، فراحت تتدارس الموقف وتُعِدُّ نفسها لصدِّ المسيرة المتوجِّهة إلى البيت الحرام، فبلغ محمّداً (ص) إعدادُ قريش وتهيُّؤُها لقتاله فغيّر مسيره وسلك طريقاً غير الطريق الّذي سلكته قوّات قريش المتوجّهة لصدِّهِ وقتالِهِ حتّى استقرّ في وادي الحديبية.
حطَّ الجيشُ رحاله، واستقرّ هناك، لتبدأ رحلةُ الحوار والتفاهم بين النبيّ (ص) وقريش، والّتي تؤكّد أنّه ما جاء لحرب ولا قتال، إنّما جاء ليزورَ البيت ويَعتَمِرَ. بعثت قريش عدّة أشخاص متعاقبين للتفاهم مع الرّسول (ص) وأرسل النبيّ إليهم شخصاً من خزاعة ليبلِّغهم بأهداف الزيارة تلك، وأنّه جاء ليزورَ البيت ويعتمرَ وينحرَ هذا الهديَ في الحرم، تعظيماً وتقرّباً إلى الله سبحانه، وأنّه على استعداد لتوقيع معاهدة لتجميد الصراع والنزاع، وفسح المجال أمامه لتبليغ دعوته، فإنْ هم رفضوا ذلك فسيقاتلهم حتّى يحقِّق النصر لدعوته.
بيعةُ الرِّضوان
(إذا جَاءَ نَصْرُ اللهِ والفَتْحُ وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحمدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كَانَ توّاباً) (سورة النّصر)
وبعث النبي (ص) عثمان بن عفّان إلى قريش ليتفاهم معها ويوضِّح لهم أهدافه (ص) وأصحابه به من التوجّه إلى مكّة، غير أنّ العنجهية والغرور قد دفعا قريشاً إلى التجاوز على الأعراف والتقاليد المرعية في التعامل مع المبعوثين والممثلين فقبضوا على عثمان وحبسوه، فشاع الخبر بين أصحاب الرّسول (ص) أنّ عثمان قد قُتِل، فتأذّى الرّسول (ص) وغَضِبَ أنْ تعتديَ قريش على مبعوثه إليهم، فدعا أصحابه للبيعة على القتال، وتنادى أصحابُهُ إلى نصرته وبايعوه وهو جالس تحت الشجرة (شجرة سَمُرة) فسُمِّيت هذه البيعة بيعة الرضوان، فأنزل الله سبحانه آياتٍ مباركاتٍ تتحدّث عن هذه الأحداث، أحداث الزيارة والصَّدِّ والبيعة والوعد بالنصر:
(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً* وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً). (سورة الفتح/ 18-19)
وثيقة الصّلح
استجابت قريش لنداء الرّسول (ص) لمّا رأت قوّته وإصراره على ما يريد، وأدركت ما بها من ضعف وعجز عن المقاومة؛ فأرسلت سهيل بن عمرو ممثلاً عنها للتفاوض مع الرّسول (ص)، وبدأ الحوار وثبتت مبادئ الصلح، ودعا الرّسول (ص) الإمام عليَّ بن أبي طالب ليكتب وثيقة الصلح، وأمره أن يكتب: "بسم الله الرّحمن الرّحيم، فقال سهيل، لا أعرف هذا، ولكن اُكتُبْ باسمك اللّهمّ، فكتبها ثمّ قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمّد رسول الله (ص) سهيل بن عمرو، فقال سهيل ابن عمرو: لو شَهِدتُ أنّك رسولُ الله لم أقاتِلْكَ، ولكن اكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله".
نصّ الوثيقة:
"باسمك اللّهمّ هذا ما اصطلح عليه محمّد بن عبد الله، والملأ من قريش وسهيل بن عمرو، واصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشرَ سنين على أنْ يَكُفَّ بعض عن بعض، وعلى أنّه لا أسلال ولا أغلال، وأنّ بيننا وبينهم غيبة مكفوفة، وأنّه مَنْ أحبَّ أن يدخل في عهد محمّد (ص) وعقده فَعَلَ، وأنَّ مَنْ أحب أنْ يدخلَ في عهد قريش وعقدها فَعَلَ، وأنّه مَنْ أتى مِن قريشٍ إلى أصحاب محمّد (ص) بغير إذنِ وليّه يردُّهُ إليه، وأنّه مَنْ أتى قريشاً من أصحاب محمّد (ص) لم تردّه وأنّ يكون الإسلامُ ظاهراً بمكّة لا يُكرَهُ أحدٌ على دينه ولا يُؤْذى ويُعيَّرُ، وأنّ محمّداً يرجعُ عنهم عامَهُ هذا وأصحابه، ثمّ يدخل علينا (كذا) في العام القابل مكّة فيقيم فيها ثلاثة أيّام، ولا يدخل عليها بسلاحٍ إلاّ سلاحَ المُسافِرِ: السيوف في القراب".
تمّ تدوين المعاهدة وتثبيت نصوصها فأشهدَ على ما فيها جماعةً مِنَ المهاجرين والأنصار وآخرين مِن قريش.
ما بعد الوثيقة:
لقد خرج رسول الله من المدينة ليزور البيت الحرام، وكان قد رأى رؤيا في المنام أنّه ومن معه يَدخلون البيتَ الحرام مُحلِّقين شعرهم ومُقصِّرين:
(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحقِّ لَتَدْخُلُنَّ الَمسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً). (سورة الفتح/ 27)
وحين صُدّ رسول الله (ص) عن أداء العمرة وأمَرَ بالحلق والتقصير وذبحِ الهدي خارج مكّة، وقَبلَ بالصلح وِفقَ ما وردَ في نصوص المعاهدة؛ تأثّر البعض من المسلمين وأحسّوا بخيبة الأمل، جرّاء بعض بنود المعاهدة كردّ المسلمين الّذين يفرّون من مكّة إلى المشركين، وأظهر بعضهم جزعه وتساؤله، إلاّ أنّ النتائج جاءت على خلاف تصوّر البعضِ مِن المسلمين. فقد بدأت نتائجها الإيجابية وآثارها الإعلامية والاجتماعية تظهر وتتفاعل لِتُمَهِّدَ لِتَحَوُّلٍ كبير، وبدأ المسلمون يُدركون قيمة هذه المعاهدة الّتي شلّت نشاط قريش المعادي، وفسحت المجال أمام الدعوة الإسلامية لِشَقِّ طريقها بين قبائل العرب، فأقبل الناس على الدخول في الإسلام.
وآمن المُخفونَ إسلامهم فأعلنوا دينهم ومكّن الله نبيّه من دخول مكّة وأداء مراسم العمرة في العام القابل، فقد وَفَتْ قريش بنصوص المعاهدة المتعلِّقة بأداء العمرة، وقد اعتنى الوحيُ الإلهي بهذه الحوادث وحلّل نتائجها وفوائدها، فسمّى معاهدة الحديبية بالفتح، لأنّها كانت الخُطوة الكُبرَى الّتي مهّدت لفتح مكّة. وكان الصحابي البراء بن عازب، يؤكِّد هذه الحقيقة وهو يخاطب بعض معاصريه: (تَعُدّون أنتم الفتح فتحَ مكّة، وقد كان فتح مكّة فتحاً، ونحن نَعُدُّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية).
كان الفتح مستبطناً لما جرى من أحداث وتطورات سياسية وعسكرية، فقد استفاد الطرفان من نصوص المعاهدة في بادئ الأمر فتعاقدت خزاعة مع رسول الله (ص) وتعاقدت كنانة مع قريش، ثمّ اعتدت كنانة على خزاعة فأعانت قريش حلفاءها واستنصرت خزاعة رسول الله (ص) فنصرها، وبذا بدأت أحداث الحديبية تتفاعل وتُعطي نتائجها.


المصدر : سيرة رسول الله (ص) وأهل بيته ع /ج1

ارسال التعليق

Top