◄اتجه الرسول محمّد (ص) إلى الدائرة الدولية لتبليغ الرسالة الإسلامية، عقب صلح الحديبية. وكانت الإمبراطوريات والدول العظمى في حينه المجاورة للجزيرة العربية هي التالية:
الإمبراطورية الرومانية، الإمبراطورية الفارسية، مملكة الحبشة، مملكة الأقباط بمصر.
لجأ الرسول الكريم إلى أسلوب التبليغ لقادة الإمبراطوريات العالمية الأربع تلك، من خلال رسائل بعث بها إلى قادة تلك الإمبراطوريات. وفي تلك الرسائل، وهي قصيرة، أشار (ص)، إلى أولئك القادة، بانبثاق فجر الدعوة الإسلامية، كما دعاهم إلى الإيمان بوحدانية الله، وصحح لهم حقيقة رسالة المسيح (ع).
مَن يتمعن كلمات تلك الرسائل يلمس أسلوباً من الدبلوماسية السلمية الإنسانية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، حتى يومنا هذا.
لم يهدد الرسول بالويل والثبور وعظائم الأمور، إن رفض أولئك القادة مضمون رسالته، بل لجأ (ص)، إلى ترديد عبارة (نصيحة) في رسالته إلى النجاشي، ليصف نوع تلك الرسالة، حيث اختتم الرسالة بالقول "وقد بلّغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي".
أمّا في رسائله الثلاث الأخرى إلى هرقل، والمقوقس، وكسرى، فقد أوضح (ص)، لهم أنّ عليهم إثم قومهم، إن هم رفضوا دعوته، معنى ذلك، أنّ حسابهم عند ربّهم وليس عند قوات المسلمين، ولا في معارك عسكرية على الأرض.
وفيما يلي النص الحرفي للرسائل:
رسالة الرسول محمّد (ص) إلى النجاشي ملك الحبشة:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى النجاشي الأصخم ملك الحبشة، سلمٌ أنت، فأني أحمد الله الذي لا إله إلّا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيِّبة الحصينة فحملت به، فخلقه من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وأنّي أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فأنّي رسول الله وأنّي أدعوك وجنودك إلى الله عزّوجلّ، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى).
استجاب النجاشي وأعلن إسلامه وبعث رسالة بذلك إلى النبيّ الكريم، ولما قرئت الرسالة على مسامع النبيّ الكريم، قال عبارته المأثورة:
(اتركوا الحبشة ما تركوكم).
معنى ذلك، أنّ الرسول ترك مملكة الحبشة، بعد أن أسلَم ملكها، دون أي اندماج بينها وبين دولة المسلمين، بل دون أي تعديل في هيكلية مؤسسات تلك المملكة.
الرسالة الجوابية من النجاشي للرسول محمّد (ص):
(بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمّد رسول الله من النجاشي الأصخم بن أبجر، سلام عليك يا نبيّ الله من الله، ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلّا هو، الذي هداني إلى الإسلام، أمّا بعد، فقد أتاني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فوربّ السماء والأرض أنّ عيسى لا يزيد على ما ذكرت تغروفاً، وإنّه كما قلت، ولقد عرفنا ما بعثت به إلينا، ولقد قربنا ابن عمك وأصحابه وأشهد أنّك رسول الله صادقاً، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله ربّ العالمين، وبعثت إليك بابني ارمى بن الأصخم، فأنّي لا أملك إلّا نفسي وإن شئت أن آتيك يا رسول الله فعلت، فأنّي أشهد أنّ ما تقوله حقّ، والسلام عليك يا رسول الله).
رسالة الرسول محمّد (ص) للمقوقس حاكم مصر:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد فأنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّ عليك إثم القبط، (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64)).
رد المقوقس على كتاب رسول الله وذلك بعد عدة لقاءات مع حاطب بن أبي بلتعة، حامل الرسالة النبوية إلى المقوقس، الذي شرح خلالها مبادئ الإسلام، وأسسَ رسالة التوحيد إلى المقوقس، ونبوة الرسول الكريم ودلالاتها. كتبَ المقوقس إلى الرسول محمّد بالرسالة التالية:
(بسم الله الرحمن الرحيم، لمحمّد بن عبدالله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أمّا بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أنّ نبيّاً بقي، وقد كنت أظن أنّه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام عليك).
كان رد المقوقس أن أمر بمعاملة حامل الرسالة النبوية إليه، بمنتهى الأدب، فهو لم يدخل في دين الإسلام، كما لم يتصرّف بالتهديد والوعيد. على العكس من ذلك، عبّر عن احترامه للرسول، وللدعوة الجديدة. وعبّر عن ذلك برسالته إلى الرسول الكريم، كما بعث بهدية عبارة عن جاريتين إحداهما ماري القبطية، وكان إهداء جارية في ذلك العصر دليل التقدير والاحترام.
ولقد تعامل الرسول محمّد مع (هدية) المقوقس، بالمبادئ النبوية الإسلامية، وهو أن تزوج من ماري. كما تزوج الصحابي حسان بن ثابت الجارية الثانية، وتُدعى شيرين.
وهذا الرد المحمّدي على هدية المقوقس، يمثل قمة التعامل الإنساني الذي يجسّد عظمة المبادئ الإسلامية في الحياة الدنيوية.
لم يتعامل الرسول محمّد مع ماري القبطية، معاملة متعة، أو (هدية). بل أدخلها إلى نسبه، وأعطاها اسمه الكريم حين جعلها زوجة له، كذلك فعل حسان بن ثابت مع الجارية الثانية.
جاءت ماري إلى الرسول محمّد من عند سيِّدها المقوقس، جارية، فأصبحت منذ لحظة وصولها إلى بيت الرسول، زوجة لأعظم الخلق.
وهل من نعمة للجارية، أفضل من أن تدخل النظام الاجتماعي باعتبارها زوجة، لها زوج يعيلها ويحميها، وتشترك معه في الحياة الدنيا، تصونه وترعاه وتحمل اسمه وتنجب له الأبناء؟
رسالة الرسول الكريم إلى كسرى ملك الفرس:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية الله، فأنّي رسول الله إلى الناس كافة لأُنذر مَن كان حيّاً ويحقّ القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس)
رد كسرى على الرسالة بموقف دل على حقده وكراهيته للإسلام، وذلك بأن مزّق الرسالة المحمّدية بغضب وغطرسة واستكباراً. بل تمادى استكباره بأن أرسل إلى ملك اليمن الحليف له، يطلب فيها منه، أن يأسر محمّداً ويرسله إليه، إلى كسرى.
لم يصدر عن الرسول الكريم أي تهديد بالرد العسكري، ضد كسرى ومملكته، حين تناهى إليه ـ إلى الرسول ـ رد كسرى. وهذا يعني بكلّ وضوح، أنّ الرسول كان يهمه تبليغ الدعوة، إلى جانب عدم إهدار الطاقات الإسلامية البشرية في الدولة الوطنية الإسلامية.
لقد استطاع الرسول أن يبلّغ دعوة التوحيد إلى مملكة فارس، من خلال الرسالة التي بعث بها إلى كسرى. أي أنّ تبليغ رسالة الإسلام إلى غير المسلمين، تبدأ وتنتهي، بالدعوة السلمية والحوار لا بالعنف ولا بالسيف.
كتاب رسول الله إلى هرقل إمبراطور الروم:
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على مَن اتبع الهدى، أمّا بعد فأنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنّ عليك إثم الأريسيين، و(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64)).
استشار هرقل أحد المطلعين على الكُتُب المقدّسة والكهنة، فأكدوا له أنّ محمّداً هو النبيّ المنتظر، قال هرقل لدحي الكلبي حامل الرسالة إليه:
(والله أن لأعلم أنّ صاحبك نبيّ مرسل، وأنّه الذي كنّا ننتظر، ونجده في كُتُبنا، ولكن أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته).
معنى ذلك، أنّ هذا الأسلوب في نشر الدعوة، وأن لم يترتب عليه إعلان هرقل قبوله بها، فأنّه أسهم وإلى حدّ بعيد، في إحداث هزة عقلية، وعقائدية لدى هرقل. كما أحدثت جدلاً في أوساط حاشية هرقل، وهذا الأثر وتلك الهزة، ساهمتا في دحر هيمنة الروم على بلاد الشام فيما بعد.►
المصدر: كتاب السياسية الخارجية للدولة الإسلامية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق