الشعور بالواجب عصب مهم في الأخلاق، بل هو العنصر النووي الذي يدور حوله النظام الأخلاقي كله؛ إذ ما فائدة الأخلاق لدى شخص، لا يشعر بأي التزام نحوها؟
إنّ الواجب التزامٌ، تشعر به ذاتٌ حرَّة، وهذا يعني أنّ الشعور بالحرية يكاد يكون شرطاً للشعور بالواجب، وتحمل المسؤولية. صحيح أنّ الالتزام يحدّ من مجال الاختيار، وأحياناً يُلغيه، لكن الشعور بالالتزام، يصدر عن إرادة حرة تُلزم نفسها بنفسها[1]. ظلت مسألة الشعور بالواجب من أخطر المشكلات الأخلاقية التي عانت منها الأُمم على مدار التاريخ، وبسبب فقد هذا الشعور دخل كثير من المجتمعات أنفاق التفكك والفوضى واللامبالاة، وبالتالي (التخلف)! وليس لدى المسلم مشكلة في تحديد الجهة الملزمة بالواجبات والمسؤوليات، إذ إنّه مستسلم لأمر الله في المنشَط والمكره، وإنما تكمن المشكلة الأساسية لدينا في صعيد المعرفة والشعور، ثمّ في صعيد الالتزام؛ إذ من السهل على المرء أن يتناسى بعض الواجبات، أو يتساهل بها في زحام المسؤوليات والواجبات، واشتباكها مع الحقوق، وتوقف بعضها على بعض. ومن السهل عليه أن يعلل عدم التزامه بها... وقد حدثنا القرآن الكريم عن أولئك الذين يذعنون للحق عندما يكون لهم فيه مصلحة، وعن أولئك الذين يكيلون بمكيالين، وأولئك الذين يلتزمون بالأمر الرباني في أوقات الرخاء، ويتقاعسون عنه في أوقات الشدة[2]. الأُمم العلمانية التي استدبرت الوحي نقلت مصدر (الالتزام) من الشرائع السماوية إلى العقل والعرف والقانون، وما تحدّده الثقافة. وقد تم ذلك في ظروف مواتية وأحياناً مثالية، ولا ريب أن كثيراً من المواطنين الغربيين يشعرون بشيء من الخضوع للقانون، ويقومون بالمحافظة عليه؛ لكن لا توجد أيّة ضمانة للاستمرار على ذلك، بل إن وتيرة عصيان القانون والتحايل عليه آخذة في الاشتداد ونعتقد أن ساعة الامتحان لم تدق بعد. وحين تلتف حبال الضائقات الاقتصادية حول الأعناق سيشعر الغرب بفداحة الخطأ (الاستراتيجي) الذي وقع فيه حين حوَّل مصدر الإلزام من الوحي إلى العقل! وتبذل الآن في العالم الإسلامي جهود تخريبية هائلة، تستهدف نقل المجتمعات الإسلامية إلى عين الزاوية الحرجة التي وضع الغرب نفسه فيها؛ وقد حققت تلك الجهود نجاحات غير قليلة. ويتم الحديث الآن عن المواطن الصالح والإنسان المتحضر والناجح والمحب لوطنه والشريف... وواضح تماماً أنّ هذه الألفاظ لم ولن تحرك في أيّة حماسة للقيام بأي عمل نبيل! هل نستطيع القول: إنّ كثيراً من أبناء المسلمين صار كالمرأة المعلَّقة، - كما يقول الفقهاء – لا هي مزوَّجة ولا هي مطلَّقة؛ فلا بنية إيمانية وشرعية يستمدون منها الشعور بالواجب، ولا بنية حضارية عرفية تعوض عن تلك البنية – ولو جزئياً – ومن ثمّ فإن هناك أزمة عميقة وحيرة واضطراباً تنتج عنها رؤية أخلاقية غائمة! ونود أن نقول باختصار: إن من العسير الحصول في بلاد الإسلام على أشخاص كثيرين، يتحملون المسؤوليات، ويشعرون بالواجبات، ويؤرقهم الوفاء بالالتزام – ما لم يكن أولئك الأشخاص صالحين بالمقاييس الشرعية. وحتى نحصل على التزام بأداء الحقوق والواجبات، فينبغي أن تنتهي تلك الواجبات إلى نوع من الوجوب الشرعي، أو تكون دائرة في فلكه على الأقل. إنّ كل الثقافات القومية والوطنية المنتشرة في ديار المسلمين كانت قد أفرغت كل ما لديها من طاقات التحريك والكبح في الثقافة الإسلامية، وإن أيّة ثقافة تخاطب عقل المسلم ووجدانه، لا تستند إلى الثقافة الشرعية بصورة من الصور، لا تستطيع أن تبعث فيه روح التضحية، ولا روح الانضباط، ولا طاقة إلجام النزوات. الإحساس بالمسؤولية الشرعية والاخلاقية يجب أن تشيع في مجتمعاتنا أمور عديدة، منها: أ- تعميق مفاهيم الواجبات الشرعية لدى المسلم على الصعيد الفردي والأسري والاجتماعي، وهذه المفاهيم منها ما هو مباشر، ومنها ما قد يحتاج إلى شرح وتوضيح، وإنّ القرآن الكريم ينبهنا إلى مسؤولية المرء عن أعماله، وعن الآثار السيئة التي تركتها في نفوس الآخرين، وسلوكهم، كما قال – سبحانه –: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) (النحل/ 25). وفي الحديث: "ومن سنّ في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"[3]. إنّ النصوص الكثيرة في هذا الشأن توسع دوائر المسؤولية، وتحفِّز المسلم على أن يقيم رقيباً من ذاته على ذاته، حتى لا يعمل أعمالاً تجلب له السيئات وهو في قبره! ب- الوعي بالواجبات الحضارية التي يقوم عليها تقدم الأُمّة اليوم، وهذه الواجبات تحتل دوائر أوسع من دوائر الواجبات الشرعية؛ فتعقد الحياة وكثرة متطلباتها جعلت ما هو مطلوب منا من علم وثقافة وجهد أعلى بكثير مما كان مطلوباً من أسلافنا؛ وعلى سبيل المثال فإن درجة الدقة المطلوبة منا في لغتنا ومواعيدنا وألوان إنتاجنا أعلى بكثير مما كان مطلوباً من السابقين، وإن ما هو مطلوب معرفته من قبل (المفتي) اليوم أكثر بكثير مما كان مطلوباً في وقتٍ سابق، حيث إن عليه أن يكون على دراية جيِّدة بالواقع الذي يعيش فيه، كما أنّ عليه أن يكون شديد الحذر حتى لا تستخدم فتواه في العدوان على بريء، أو قطع السبيل على أعمال خيّرة. إنّ المشكلة في موضوع الوعي بالفروض الحضارية أنّه يحتاج إلى رؤية كلية لجميع أجزاء الصورة، كما أن يحتاج إلى فهم طبيعة الآثار والتداعيات الخطيرة التي تترتب على التقصير في القيام بتلك الفروض. جـ- القدوات والنماذج ذات أثر بالغ إشعارنا بواجباتنا. والحقيقة أنّ الإحساس بالمسؤولية كثيراً ما يكون هبة المجتمع المتقدم لأبنائه البررة؛ فالإرادة الصُّلبة والعزيمة الماضية والإصرار على الوفاء بالالتزامات، كل ذلك يخضع بصورة أساسية للموقف الاجتماعي العام؛ فهو الذي يحدد سقف هذه الأمور، كما أنّه هو الذي يُصدر معايير القبول والرفض للأحكام الأخلاقية. وهنا يبرز أثر الرواد والعظماء الذين ينورون للأُمّة طريق الالتزام والإحساس بالواجب من خلال أنوار الهداية الساطعة في منطقهم، وقبل ذلك في سمتهم وهديهم وسلوكهم؛ فهم الذين يكسرون المعادلات الاجتماعية الصعبة. د- إنّ علينا أن نتعلم، ونعلِّم كل رجل وكل امرأة القيام بتحديد نصف ساعة لأداء واجب معين، يخدم المصلحة العامة على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو الخدمي؛ حيث إنّ الالتزام بتنفيذ شيء من الواجبات على الأرض على نحو مستمر هو أكبر برهان على استيعابنا لما يجب علينا إنجازه تجاه الأُمّة. هـ- التقوى عنصر مهم في الالتزام، وإلا فمن أين سنملك الطاقة والحيوية الكافية لجعل سلوكنا يتطابق مع عقائدنا وقناعاتنا. وأخيراً فإنّ المبادرة إلى تحمل المسؤوليات والقيام بالفرائض المختلفة هو المقياس الدقيق لتقدم الأمّة، فعلى مقدار ما يتحرك الفكر، وتعمل اليد في دروب الخير تكون حيويتها ورقيها، وعلى مقدار ما يكثر الهروب من أداء الواجبات، ويكثر الطلب على الحقوق، ويسود الجمود والتقاعس يكون التخلف والانحسار!. الهامش:[3]- رواه مسلم.
المصدر: كتاب مدخل إلى التنمية المتكاملة.. رؤية إسلامية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق