قال تعالى في كتابه العزيز:
(إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (آل عمران/ 33-34).
إنّهم الأنبياء والأولياء والصفوة سبحانه جميعاً في الآية المباركة، بدءاً من آدم (ع) حتى قائم آل محمّد (ص): آدم – ونوح – وآل إبراهيم – وآل عمران.. وهل آل الرجل إلا أهل بيته وأبناؤه وإن نزلوا.
وعمران المذكور في الآية هو عمران ابن ماثان كما روي – وهو أبو مريم أم المسيح عيسى (ع). وآل عمران مريم وعيسى (ع)، وربما ألحق بعضهم زوجته بآله، والقدر المتيقن أنّ من آله العذراء وابنها (ع).
ومعنى "مريم" في لغة قومها، العابدة، وهي التي انتظرتها أمها طويلاً وتمنّت لو كانت مولوداً ذكراً.
نعم لقد طال انتظارها حتى كادت أن تيأس لو لم تكن مؤمنة.. وفجأة عمرت الفرحة قلبها بعد أن علمت من زوجها الصالح أنها ستكون أُمّا لمخلَّصٍ للناس من الضياع والجهل.. واستأنست الأُم بحملها المبارك وهي تظنه ذكراً، وعاشت الأمل والشكر معاً.. الشكر العملي إذ قد نَذَرْته خادماً في المعبد عابداً لله مُحرّراً من كلِّ قيود الدنيا ومن منافع العائلة.. وكانت المفاجأة أن قد وَلَدْتها أنثى! وليس الذكر كالأنثى لأنّ الانقطاع للعبادة عند القوم ينحصر بالذكور.. وتحتار المرأة الصالحة، ماذا تفعل؟ أتخرُج عن عادة القوم وتفي بنذرها.. أم تخالف النذر وتقنع بأنها أنثى؟! ولكن الله أعلمُ بما وضعت.. وقد شاء سبحانه أن يتحقق نذر الأُم لتُحاط نشأة مريم (ع) في جو من الطهارة والتقوى ولتتربى في كنف النبيّ الشهيد زكريا (ع)، الزاهد العابد، الذي شهد مع الرزق الذي كان يأتيها في محرابها من عند الله تعالى، عظمة الكرامات التي اختصّها بها سبحانه وهكذا يتهيّأ الجوّ الملائم لولادة الخير والبركة.. روح الله عيسى بن مريم (ع).
وتبشّر الملائكة مريم بمكانتها العظيمة عند الله.. بعد أن تقبَّلها ربّها بقبولٍ حسنٍ.. وهل أحسن من ذاك القبول؟!
وتتوالى البشائر والأنوار صعوداً ونزولاً إلى ذاك المحراب، إلى أن كانت البشرى بإطلاله بدر يُنير الحياة بعد أن دهمها ظلام الجهل الدامس!
وهنالك اختلط الشعور بالفرح مع هول المفاجأة وغرابة المشهد والموقع، أمٌ لطفل يولد بلا أب.. اسمه محدّد قبل ولادته.. كلمة الله ملقاة إلى أمه مريم!!
وترتبك العذراء الأُم، كيف يكون ذلك؟ كيف تَلِدُ ولم يمسَسْها بشر؟ ماذا تقول للناس، كيف تقنعهم بأمر الله وهو عليه هيّن؟
... موقف بالغ الحراجة والمرارة، (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا) (مريم/ 22-23).
لم يكن باستطاعتها أن تتصوّر خبث قومها وسوء تصرّفهم، ولا نظراتهم المريبة وتساؤلاتهم المُشينة.. وهي عندهم العابدة الطاهرة النقية.. ستُتّهم في عفّتها وطهارتها!! ولكنّ الله قد هيّأ لكلِّ شيء أمراً. فنادها عيسى (ع) – بعد الملائكة – وكلّمها لتطمئن ولا تخزن. وكانت النخلة المباركة ملاذاً ورزقاً لها وللمولود المبارك، فأكلت وشربت من الماء الذي تفجر خصِّيصاً لها أيضاً وقرّت عيناً. ثمّ رجعت إلى قومها تحمل طفلها المبارك لتكون هناك الصدمة لبني إسرائيل لعلّهم يتذكرون ربّهم ويعرفون قدرته.
والمشهد كما تصوره الآيات المباركات غنيّ عن التفصيل.. (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) (مريم/ 29-32).
لم يعُدْ لهم مجالٌ للشك، إنّه النبي الموعود، الذي يُحيي به الله شريعة موسى (ع)، يدعو الناس إليها من جديد – كما فعل غيره من الأنبياء قبله – بعد أن أضاعها التجار الأحبار وحرّفوا الكلام عن مواضعه ولكن كيف يسمح مستغلّو المراكز الدينية بذلك؟ كيف يدَعون الحقائق تنكشف والمصالح تتهاوى وهم ينظرون؟ فأعلنوا الحرب مباشرة، وتآمروا وكادوا به ليقتلوه قبل أن يكبر..
وتحمله العذراء مريم (ع) من جديد هرباً من قومها الظالمين وتهبط به مصراً.
وينشأ المبارك هناك، والآيات والمعجزات ترافقه وتصحبه حتى بلغ الصبا وسنّ الرشد.. فأُمرت بإعادته إلى فلسطين حيث المواجهة الحقة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة. ويرجع النبي المبارك إلى القوم، يجادل أحبارهم كبيراً، بعد أن أسكتهم حين أنطقه الله في المهد صبياً. يخاطب أهل العلم ويدحض حججهم. وأخطر ما في الأمر أنّه مؤيد بروح القدس، ويأتي بالمعجزات حتى لا يترك لهم مجالاً للمناورة والدجل والهروب من الحقيقة.. وحار القوم كيف يتصرّفون.. إنّه الخطر الحقيقي الدائم على كلِّ الظالمين والمنحرفين والمتكبّرين! إنّه صوت الحقِّ الذي يَعْلوا ولا يُعلى عليه.. ويكتشف الناس آثار الحكمة "الموهوبة له، وأنوار العلم اللدني الذي عُلِّمه.. وعلى خطٍّ آخر كان النبي الشهيد يحيى بن زكريا (ع) شبيه عيسى (ع) في أكثر الأمور – كان يحاور القوم ويدعوهم إلى الله.
وعندها نزل الوحي على عيسى (ع) بعد أن لبث فيهم يخاطبهم ويحاورهم.. وانطلق يُعلّم الناس التوراة والإنجيل المكمّل لها مع بعض النّسْخ في أحكام التشريع دون تغيير في الأصول، ويحلّ لهم بعض الذي حُرّم عليها من قبل.
ولابدّ أن نذكر هنا أن عيسى (ع) نبيّ لبني إسرائيل في الأصل، وتتوسط مرحلته شريعة موسى (ع) وشريعة محمّد (ص)، وهو الرابط بين الدعوتين والمبشّر بالثانية "والبشرى بالنبي بعد النبي وبالدعوة الجديدة بعد حلول دعوة سابقة واستقرارها – والدعوة الإلهية واحدة لا تبطل بمرور الدهور وتقضي الأزمنة واختلاف الأيّام والليالي – إنما تتصوّر إذا كانت الدعوة الجديدة أرقى فيما تشتمل عليه من العقائد الحقّة والشرائع المعدّلة لأعمال المجتمع وأشمل لسعادة الإنسان في دنياه وعقباه". [الميزان ص252/ ج19].
من هنا كانت رسالة عيسى (ع) تتلخّص في تصديق التوراة مع بعض التغيير الطفيف للأحكام والتبشير وتهيئة الأجواء لدعوة نبيّنا محمّد (ص).
عيسى (ع) والمعجزات:
من الطبيعي أن يُؤيَّد كلُّ نبيّ بما يؤكّد صدق دعوته وكونها من الله سبحانه وإظهاراً لعظمته وقدرته. وعليه فقد كانت للنبيّ عيسى (ع) معجزات وخوارق آتاه الله إياها. قال تعالى عن لسان المسيح (ع): (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران/ 49).
والأكمه: من يولد أعمى، والأبرص: من في جلده بياض منفّر، كما ذكر المفسّرون.
إذن إضافة إلى معجزة خلقه (ع) من دون أب، ومعجزة نطقه وهو صبيّ في المهد، ومعجزة حكمته وعلمه قبل النبوة، كانت هذه المعجزات المذكورة في الآية وربما غيرها لم يُذكر أيضاً، ليزداد إيمان من قد آمن، وليؤمن من لم يكن قد آمن بعد..
وكلّ ذلك لم يكفِ القوم بل أصرّوا واستكبروا وكفروا حتى أحسّ عيسى منهم الكفر، فكان أن بدأت المرحلة الثانية والعملية من دعوة عيسى (ع). أراد الصفوة ممن آمن معه. أراد قوماً يتخلّون عن كلِّ شيء في الدنيا. فبحث عن أنصار الله، طلب المؤمنين حقاً قلبوا النداء وانطلقوا بكلِّ ثبات المؤمنين وصبر المجاهدين في الله... وكان أن أشهد الحواريّون الله على إيمانهم وإخلاصهم. والتحقوا بنبيّهم لعلّ الله يرضى عنهم، ولعلّهم يقتبسون من نوره جذوة في الأيام القليلة التي سيبقى عيسى (ع) معهم فيها. وبذلك ازدادت أشعة أنوار قلوبهم النقيّة الخالية إلا من ذكر الله.. إنّهم الحواريّون.. كانوا قدوة ربّانيّين، اتّسموا بالفضيلة والتسامح والزهد ليقابل بهم عيسى (ع) جشع اليهود وأحبارهم، والروح المادية المستشرية فيهم. وهكذا انطلق المسيح (ع) بهم يعلّمهم ما أمره الله، ويوصيهم ويحمّلهم الأمانة العظيمة لينطلقوا بها إلى العالم بعد رفعه إلى الله وأخلص الحواريّون إلى أن كانت ليلة الابتلاء، ليلة رفعه (ع)..
فقد روي أنّه التقى بهم في بيت منفرد لقاء مودّع راحل، يوصيهم بما أمره الله به.. وبنو إسرائيل يأتمرون به ليقتلوه وقد وشى أحد تلامذته كما قيل – بمكان لقائهم. وكانت المفاجأة أن أنجاه الله منهم وما تمكن القوم من اعتقاله ولا قتله ولا صلبه كما ادّعى أدعياء اليهود والنصارى، بل رفعه الله إليه. وإنما اشتبه القوم – وخاصة عامة الناس – أنّ أحد المصلوبين هو المسيح (ع) إذ كانوا قد صلبوا شخصاً – كما قيل- وتركوا جثته لتتغيّر ووضعوه في مكان عالٍ وقالوا للناس إنّا قد قتلناه صلباً! وقيل بأنهم قد صلبوا الشخص الذي وشى به بعد أن ألقي شبهه عليه وظنّ البسطاء وأكد المنافقون أنّه المسيح (ع) ليضلوا به الناس. [راجع مجمع البيان/ ج3/ ص135].
ولابدّ أن نتوقف هنا عند ما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ الله سبحانه قد قبض روح المسيح (ع) عند رفعه بين الأرض والسماء وتوفّاه وفاة عادية.. فيما يؤكد أكثر العلماء عدم موته – فضلاً عن قتله.
ونجد ختاماً من الخير أن نذكر وصية قصيرة من وصايا المسيح (ع) قوله:
"إنما الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها...".
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان الخامس والسادس لسنة 1988م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق