• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)

عمر لطفي العالم

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)
◄افعل ما طاب لك، فلن تجد منه سوى المزيد من الصبر والتجلد والتحمل. ذلك بعض ما في الجمل الذي يعيروننا به من جميل الصفات، فهل تجد فيه ما يدعو إلى الخجل حقّاً؟ أما أنا فلا. إنني مقتنع به، متحيز له، بعقلي وحسي ورشدي، ولو تُرك لي أن أقرر لأمة عظيمة شعاراً يكون لها رمزاً  كبيراً، لما فكرت في غير رسم الجمل.. اليوم.. وغداً.. وحين يضع الإنسان قدماً على آخر كوكب..!!

كم كنانشعر بالاستياء، كلما طرق سمعنى المصطلح الأوروبي (K. Treibern)، أي (حداة العيس)، كإشارة غير مهذبة إلينا نحن الناطقين بالعربية.

وحتى كتابات المستشرقين، لم تسلم هي الأخرى من مثل هذه الترهات. فقد قرأت لعدد منهم وفي أكثر من مناسبة تعليقاتٍ مشابهة، أكثر إجحافاً، وأشد استخفافاً، ليس بالجمل وحده، بل بالأنعام كلِّها مجتمعة ومنفردة، كما جاء ذكرها في القرآن الكريم.

من ذلك، ما أورده المستشرق (باريت)، في صيغة تعجب من كتاب مقدس فيه البغال والكلاب والإبل والحمير. نأكل لحوم بعضها، ونركب ظهور بعضها الآخر إلى بلد ما كنا بالغيه إلا بشق الأنفس. الأعجبُ أنّه لم يجدْ في هذا الأسلوب القرآني الذي أُريد به أن يكون آية للناس، سوى أسلوب تقريري لحقائق بيئية قائمة لا جديد فيها يستحق الذكر، كي ترتفع إلى مرتبة نسميها آية..؟!

والشارحون – الأقدمون منهم والمعاصرون – قصروا الآية على الفهم القريب، إذ جعلوا منها مثالاً مناسباً للمقام، أي للبيئة العربية وحسب، وفي هذا تقييد غير مقصود لأعجوبة من عجائب الخلق التي لا ينتهي أثرها عند حدود الزمان والمكان اللذين أنزلت فيهما..!

·      عهدي بالإبل عهد جديد وولعي بها ولعٌ نابع من قناعات ذاتية، لا من مسلّمات دينية فقط. وأخفي عنك شيئاً لو أنني أنكرتُ فلم أقل بالشفع معاً، وأي ضرر في أن يُسلم الإنسان أوّلاً ثمّ يكون مؤمناً أو يزداد بعدها إيماناً؟!

ولعلك تعجب لو أطلعتُك على سر يقيني باستحقاق هذا المخلوق لأن يتبوأ هذه المكانة العالية التي كرمه بها خالقه، حين جعل من الكيف الذي خلقه به سبباً قويّاً يدعو الناس إلى التفكير فيه، والتأمل في عجائب صنعته. وهكذا جعل الحقّ سبحانه منه علامة من علامات القيامة: (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ) (التكوير/ 4)، ثمّ خصَّه النبيّ الكريم بحديثه المنزه عن الهوى، إذ نهى (ص) عن سبِّ الإبل لعلو منزلتها: "لا تسبوا الإبل فإنّ فيها رقوء الدم ومهر الكريمة".

·      في الشريط الوثائقي (طريق الحرير)، الذي يغطي أخيار رحلة استكشافية شاقة يقطع بها روادها نصف الكرة الأرضية، في هذا الشريط النادر، جمعت المصادفة بين الجمل كوسيلة نقل ناجحة يرجع تاريخ استعمالها إلى أكثر من خمسة آلاف سنة على ما يُظن، وتاريخ صنعها إلى ما قبل عصر نوح (ع)، يوم خلق الله الأنواع كلَّها، وبين أحدث ما قدمت المصانع المتخصصة في إنتاج المركبات العابرة للصحراء من تقنية. كان على الجمل المسكين أن يؤكد نفسه في هذه المنافسة غير المتكافئة: آلةٌ حديثة من معدنٍ يفلُّ الصخر وآلة أخرى من شحم ولحم ودم. وكنا نحن الحكام والشهود. وكان المطلوب من شهادتنا أن تكون منصفة وعادلة وغير متحيزة، في بلقع هو جزء من رمالنا وصحرائنا المترامية التي ترتبط رموزها برموز شخصيتنا الحاضرة والغابرة أيما ارتباط.

 

يقضم الجمل الشوك والأعشاب البرية بشفتيه الغليظتين المشقوقة والصحيحة وأسنانه القوية. ويحول مادة السيلولوز بالخمائر الهائلة التي توفرها البكتريات في الجهاز الهضمي.

 

ليس كالجمل حيوان قنوع إذا جاع أكل كلَّ شيء، وإذا عطش شرب أي نوع من الماء حتى ماء البحر والطحالب البحرية. وله جهاز طرح للأملاح غير الكليتين.

 

لقد تعودتُ ألّا أنظر إلى الحياة من زاوية نظر واحدة، وألا أقيس الأشياء بمقياس ضيق يعتمد على المنفعة المؤقتة والمصالح المجزأة، بل أن أقيس الجزء بالجزء والكل بالكل.

قلت أسائل نفسي: ترى هل يمكن لهذه المركبة التي قطعتْ آلاف الأميال، من أقصى الشمال في الاتحاد السوفيتي إلى أسخن نقطة في شبه جزيرة العرب، يسهر على صيانتها مهندس متمرس، وتحمل على متنها ما شاء الله من قطع الغيار والماء والمؤن والوقود، هل يمكن أن تؤلِّف يوماً وحدة متكاملة مستقلة، تُغني هذا البدوي المطمئن القابع تحت خبائه عن النظر بقلق إلى العالم المتحضر خلف شريط الصحراء الفاصل؟ بعبارة أخرى، هل ثمت أي بديل، مما صُنع وما قد يصنع، يمكن أن يعوض ساكن الصحراء عن جمله وناقته؟ وأن يرى في هذا البديل كلّ ما يصلح حاله، يسد حاجته ويقيم أوده؟ إذا كان الجواب بنعم، فلا شك في أنّ صنعة العبد أفضل وأكمل، وإلا فالجمل هو الجمل، آية الأمس واليوم والمستقبل..!!

·      لم أنظر إلى ضوامر الإبل، ولا فكرت في ثقلها الفادح، تقطع في اليوم الواحد مسيرة مئة أو مئة وخمسين كيلومتراً.

·      ولا في اللبن المتدفق من ضروعها، واللحم المكتنز في جسومها، والأكاسي المسوجة من أوبارها، والأخبية المبنية من جلودها، وما تدفع به من أرحامها. بل فكرت فيما تطعم وتعف عنه السوائم، قابلتُ بين ما نأخذ وما نقدم، بين ضآلة العطاء وضخامة الرد والوفاء.

أطبق هذه القاعدة على كلِّ ما أعرف من حيوان، فلا أجد أشد منه قناعة، يرضى بالقليل ويجود بالكثير، فهو من هذه الناحية رأس الوفر في الاستهلاك الذي يعوِّلُ على عائده على الإنتاج والاقتصاد، وذروةُ التفنن في التصميم كجهاز هاضم متميز، يفلح – حيث تخفق كلّ الأنعام – في إنجاز أعقد العمليات الكيمياوية بتحويل سيلولوز أشواك الصحراء وأعشابها المبتذلة بالبكتريات الهائلة والكائنات الدقيقة التي تحتوي عليها أحشاؤه.

·      وفكرتُ فيما هو أدنى وأقل، فيما يندر أن يخطر على بالٍ أو أن يُحْسَبَ له حساب. هؤلاء الفتية الذين يملؤون حجورهم من بعر النوق، يجمعونه كما يجمع أهل البحار الدررَ والمحار.

إنّه آخر ما يَعِنُّ على مشكِّك، وأوّل ما يتبادر إلى ذهن ممعن مدقق. هنا تتحقق المنفعة من عدة أوجه، ليس آخرها هذه الطاقة المجانية الجاهزة، التي تمدُّ بها النوق البدوي المنقطع في كبد الصحراء.

·      فكر معي في شأن هذا المركب العجيب. العنق الطويلة، والقوائم العالية، والبنية الضخمة المكينة. في العينين اللتين تعلوان الرأس، والأهداب الطوال التي تقيانهما القذى والرمال. في الأذنين الصغيرتين والذنب القصير، يكسوهما الشعر فيكوِّنان غطاء متحركاً محكماً يقيهما الرمال إذا هبتْ، والأتربة إذا سفَّتْ. فكر في المنخرين؛ شقين ضيقين محاطين بالوبر، يغلقهما فيحميهما ذاريات الرمال أن يتحولن إلى رئته.

أجل. فكّرْ في هذا الجسم كطود شاهق يقوم على قوائم قوية راسخة، لا يتأثر بما يعصف تحته من رياح وما يثور من رمال. فكر في فراسنه الصغيرة كأنها الظفر، تلتصق فيها السلامَى حتى تصبح القدم خفّاً واحداً يغلفه جلد قوي غليظ تحته وسادة عريضة لينة، تتفلطح حين يدوس بها الأرض، يطأبها أكثر الرمال نعومة فتسيخ قوائم كلّ الدواب ولا تسيخ قوائمه..

 

يقطع الجمل في اليوم الواحد مسيرة مئة أو حتى مئة وخمسين كيلومتراً وعلى ظهره ضعف هذا الرقم من الأحمال والأثقال، ولا يقف الجمل عن تقديم كلِّ ما يحتاج إليه المسافر في أثناء الرحلة الشاقة وهو في ذروة الجرع والإنهاك والعطش.

 

·      فكر في خطاه الطويلة المتأرجحة بين صعود وهبوط، وتقدمه بالرجلين على كلِّ جانب معاً  كأنّه سفينة تنزلق فوق موج هادر.

·      فكر في السبب الذي جعل أحد الحكماء، حين سمع وصفاً لجسم الإبل، وبديع خلقها، أن يفكر فيما سمع ثمّ يقول: "يوشك أن تكون طويلة الأعناق".

·      كيف خلقت؟ إنّه لسؤال، سؤال كبير ما انفك يؤكد نفسه من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر.

كيف خلقت؟ سؤال تكلُّ كلُّ الأسئلة ولا يَكلُّ، وتبلى كلّ الألسنة ولا يبلى. هو، كما هو يظل على عمقِهِ وفعلِهِ وأصالته مهما تبدَّل الزمن..!

·      وتقول: لكن أمس الإبل قد ولّى وولتْ معه آية الشكل، فهل من آية أخرى غيرها؟!

وأُجيب انظر. انظر إلى البعير يفقد في هجير الصيف ربعَ أو ثلث وزنه ماء. وبرغم ما يصيبه من هزال، يمضي متماسكاً دون أن تخور قواه. فإذا وجد الماء عبَّ منه عبّاً. يشرب (.. شُرْبَ الْهِيمِ) (الواقعة/ 55)، كما جاء وصفها في القرآن. إنّ الجمل يشرب مئة لتر في عشر دقائق. ولك أن تسقيه أي ماء تريد. فراتاً، مرّاً، أو ملحاً اُجاجاً كماء البحر، لعمرُك، أي مصفاة هذه التي تردُّ على الدم ماءه، ثمّ تطرح البول بتركيز ملحي لا مثيل له في كلِّ الكائنات الحية؟ لكي ندرك هذه القدرة الخارقة، علينا أن نتذكر بأنّ الإنسان لن يحيا في تلك الشروط أكثر من يوم أو يومين. فإذا فقد 5% من وزنه ماء، اختلط فكره وتركيزه. فإذا وصل النقص إلى 10% صُمّتْ أذناه، وخلط وهذى وفقد إحساسه بالألم. فإذا تجاوز ذلك إلى 12% استحالتْ النجاة. فإذا أشرف على الهلاك ظمأً وأسعفه مسعف، قتله الماء لو أعطيه جرعة واحدة.

·      آية الأمس ظاهرة، يشرب ويختزن الماء لأسبوعين أو ثلاثة. وآية اليوم خفية، أين وكيف يختزن الماء؟

كان الاعتقاد السائد، هو أنّ الجمل يشرب ويختزن الماء في معدته، لكن العلم الحديث أثبت بطلان هذا الرأي، إذ تبين أن ما تمسكه جيوب جدار المعدة لا يزيد على خمسة لترات إلى سبعة. والواقع أنّ الجمل لا يحتفظ بالماء المدخر في معدته ولا في سنامه، بل يحتفظ به موزعاً في جميع أنسجة جسمه وفي كلِّ عضو فيه. والأهم من ذلك كلِّه، أنّ الجمل يقتصد في مدخراته من الماء غاية الاقتصاد. وله في ذلك حيل وأساليب فسبحان الله!

إنّ الجمل لا يتنفس من فمه ولا يلهث مهما اشتدَّ الحر أو استبدَّ به العطش. وإن جلده لا يعرق إلا بقدر ضئيل وعند الضرورة.

إنّ استهلاك الماء وطرحه، هو استجابة للتخلص من يوريا الجسم الزائدة. لكن الجمل يطرح معظم اليوريا عن طريق المعدة وبذلك تتحقق فائدتان: توفير المادة العضوية النتروجينية اللازمة لعملية الهضم، وتخفيف العبء عما يمكن أن تعانيه الكليتان من فرط الأملاح.

·      والعلم يقدم تعليلاً مثيراً لظاهرة الصبر على العطش في هذا المخلوق. إنّ القاعدة المعروفة أنّه كلما زاد حجم الجسم، قلّتْ نسبةُ سطحه الخارجي إليه. وهذا يعني أن ما يمتصه الجمل من حرارة الجو القائظ نسبة إلى جسمه، أقل مما يمتصه جسم إنسانٍ أو حتى فأرٍ صغير. وبالمقابل، فإنّ طرح العرق يتناسب طرداً مع امتصاص الحرارة والعكس صحيح.

إنّ الجمل يطرح نصف ما يطرحه الإنسان في عملية التبريد.

وكما أنّ للجمل مخزناً للماء، فإنّ له مخزناً للغذاء أيضاً. والدهن أفضل الأغذية المدخرة، لأنّه أكثر صور المواد العضوية المولدة للطاقة تركيزاً. فإذا طال السفر، وشح الغذاء أو حتى انعدم تماماً، لجأ الجمل إلى احتياطيه يحرق منه، فإذا نفد تحول السنام إلى كيس جلدته خاوية متهدلة.

·      وإذا ذُكرتْ الصحراء، ذُكِرَ الحر والقرُّ ووعثاء السفر، وذُكِرَ الجمل لاقتران اسمه بها أو اسمها به. ومن أجل هذه الغاية، صُمِّمَ الجمل تصميماً مدهشاً، وكُيِّفَ تكييفاً معجزاً.

إنّ الوبر يسقط عن جلده صيفاً، ولكن ما يتبقى منه كافٍ لأن يعزله عن الجو المتقد عزلاً جيداً. ولعل تجمُّع الطبقة الدهنية بنسبة قليلة تحت الأديم، وتركزها بنسبة كبيرة في السنام، لعل لهذا الترتيب فائدة تتجلّى حين تكون حرارة الجسم أعلى من حرارة المحيط. فقرب الأوعية الدموية من السطح دون عازل من دهن، يسمح بإشعاع حرارة الدم دون حاجة إلى إفراز العرق.

والجمل يبرك فيقي جزءه السفلي الأعزل من أدوات التكييف بما يوفره جسمه الأعلى له من ظلال يتفيأ بها. ولقد تعلم البدو والأعراب من الإبل فهم يلتحفون بعباءات من الصوف في هجير الظهيرة، ولا يبدو عليهم أثر يذكر من الإعياء، بينما الرحالة الأوروبيون يوشكون أن يخروا صرعى بسراويلهم القصيرة وقمصانهم الرقيقة الفضفاضة. والأعجب مما سلف، ضبط الحرارة في جسم الجمل. فحرارة الإبل لا تتغير بحرارة الجو. إن ارتفاع أو انخفاض درجة حرارة جسم الآدمي درجة واحدة فقط تجعله يضطرب، لكن تفاوت درجة حرارة جسم الجمل سبع درجات كاملة بين الصباح والظهيرة تبعاً لريِّهِ أو عطشه، تصبح كلُّها حدوداً طبيعية معتادة يتحملها الجمل دون عرض أو مرض وسرعان ما يبادر مخ الجمل إلى تنظيمها... فذلك هو الجمل.

 

المصدر: مجلة رسالة الجهاد/ العدد 103 لسنة 1991م

ارسال التعليق

Top