• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التعددية الثقافية في التاريخ الإسلامي

د. إحسان الأمين

التعددية الثقافية في التاريخ الإسلامي
◄مع غضّ النظر عن التاريخ السياسي الإسلامي، والذي كان في الأعم مفروضاً بالقوّة، ولم تكن الوحدة فيه عاملاً ذاتياً وطبيعياً، واختلف الأمر فيه من وضع لآخر عبرَ الأزمان المختلفة، ممّا لا يمكن اكتشاف قاعدة كلِّية منه، لأنّه أساساً لم ينطلق من قاعدة كلِّية أو أساس واحد.. بغضّ النظر عن هذا الجانب، فإنّ تجربة التاريخ الإسلامي الثقافية تجربة غنيّة وواسعة، تحمل عُمقاً وأصالة وشمولية، ممّا تتطلّب تأملاً وبحثاً ودراسة. انبعث الإسلام في الجزيرة العربية التي كانت تحيط بها آنذاك من كل جانب كيانات سياسية عملاقة، وأصبح الإسلام بعد سنين قليلة من إنطلاقه على تماس مع ما تحمله الحضارة الرومانية والحضارة الفارسية، بكل تراثهما الفلسفي وبكل أوضاع بلادها السياسية وتعقيدات التركيبة الاجتماعية الطبقية لكلا الدولتين العظميين في العالم آنذاك. وكان الإسلام منذ نشأته على تماس مباشر مع التراث الديني المسيحي واليهودي، إذ إنّ أتباع الديانتين الكُبريين في العالم آنذاك، كانوا يقطنون نفس يثرب – مدينة الرسول وعاصمة الإسلام الأولى – ويحيطون بها، وكان هؤلاء يشكِّلون أهم القوى السياسية والاجتماعية والثقافية الفاعلة في المدينة، بالإضافة إلى قبائل الأوس والخزرج، والذين لم يكن لهم العمق الثقافي لأتباع الديانتين المذكورتين، ولذا انصبّ جلّ اهتمام الآيات القرآنية النازلة في المدينة على مناقشة أصحاب الكتاب وشكّل الحوار معهم الجزء الأكبر للسوَر المدنية. وكانت أيضاً على أطراف الجزيرة بقايا حضارتين كبيرتين، كانت لهما مدنيّتان عظيمتان، وهما حضارة الفراعنة بمصر والحضارة السبئية في اليمن، وقد تعرّض القرآن الكريم في مواضع عديدة لذكر تلك الحضارتين واستعرض طرفاً من قصصهما، خصوصاً الفراعنة. كما إنّ الجزيرة في الشمال تمتد إلى وادي الرافدين وبلاد الشام، وهما مهد أعرق الحضارات القديمة ومهبط ومرسى الأنبياء الكبار، وكان سكّان الجزيرة منذ القِدَم في الحركة مستمرّة للتجارة وغيرها شمالاً وجنوباً في رحلة الشتاء والصّيف، كما كانت الجزيرة تستقبل أعداد الوافدين إليها من سكّان البلاد المجاورة. ولم تكن الجزيرة خلواً من الحضارة أو تعيش حالة الفراغ الثقافي، كما يتصوّر البعض، فرغم حالة الجاهلية العصبية التي واجهها الإسلام عند مجيئه، إلا أنّ الجزيرة كانت تحمل تاريخاً وضّاءً، فهي تحتضن البيت الحرام الذي رفعه إبراهيم واسماعيل (ع)، وأصبح منذ ذلك الحين مثابة للناس، وأسكن إبراهيم أهله – هاجر – وإسماعيل ومن ثمّ ذرِّيّتهما مكّة، واستجاب الله تعالى دعوته، فجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم. إلّا أنّ صفحات التاريخ تلك، الناصعة بالإيمان ودعوة التوحيد، كانت قد غابت عن الجيل الجاهلي الذي عاش العصبيات والأحقاد والجهل والشرك، ولم يستحضر وعي الجزيرة التوحيدي المتّصل بالدعوة الإبراهيمية العظيمة، لذا فإنّ القرآن الكريم استحثّ العرب لإستعادة مجدهم وموقعهم في توحيد الله والدعوة إليه، وسعى لآثارة الكوامن الثقافية والتراث الرسالي المتراكم في دعوة إبراهيم وإسماعيل (ع)، وكانت حركة الإسلام من تجلِّيات ذلك الحضور الإبراهيمي، فكان الرسول الكريم محمد (ص) يُردِّد: أنا دعوة أبي إبراهيم. وإذا كانت اللغة وسيلة التعبير عن الفكر والثقافة، فإنّ امتلاك العرب آنذاك لأرقى مستويات الشعر وأبدع ألوان البيان، وفّر بلا شك للإسلام وسيلة فعّالة ولغة مرنة فيها من البلاغة والفصاحة ما يجعلها قادرة على إستيعاب المعاني العظيمة التي جاءت بها الرسالة الجديدة في أجمل تصوير وأروع تعبير. وعوداً على بدء، فإنّ الإسلام جاء لمجموعة بلاد كانت محور الحضارات الدينية والمدنيّات الكبيرة في العالم، ورغم أنّ الإسلام دخل هذه البلاد فاتحاً، وحمل معه فكراً جديداً وعملاقاً، إلا أنّه لم يلغِ ثقافة الشعوب ولم يبطل كل ما في أيدي الناس من تراث وثقافة وفن وأدب، بل سرعان ما انفتح على غيره، مؤثِّراً، وسرعان ما أخذ المثقّفون السابقون موقعهم الرائد في الحضارة الجديدة، واستمرّت الفنون والآداب والفلسفة والثقافات السالفة في حركتها ونموّها مع فارق واحد أنّها إنطلقت هذه المرّة بقوّة وعُمق لتصل إلى أوجها وعُلاها، فالإسلام جاء لتحطيم الأوثان وتحرير الإنسان، وبالتالي فإنّه قد كسّر الحواجز أمام الفكر الإنساني، وأزاح الغبرة من عقول الناس، وبعث فيهم روحاً وثّابة وخلّاقة لا تكتفي بالنظر في النفس، بل تتطلّع إلى الآفاق البعيدة، وتطمح حتى إلى النفوذ في أقطار السماوات النائية. فأولدَ الدين الجديد ثورة حقيقية في الفكر، ونهضة واسعة في العلوم، وارتقاءً رائعاً في الآداب والفنون. وهكذا وجدنا ونجد تجلِّيات الفن الإسلامي من الشرق إلى الغرب، رائعاً وجميلاً وساحراً ومعطاءً، رغم حمله ألوان سائر الشعوب التي يمرّ بها ورغم تأثّره بسائر التراث الذي ورثه، إلا أنّه عبّر بلغةٍ محلِّيةٍ جميلةٍ عن معانٍ عالمية سامية. كما نجد أنّ النثر الهندي والشعر الفارسي والتراث الثقافي التركي والفولكلور الأفريقي والعمارة المغربية، قد بلغت أعلى مراتب رقيّها وجاذبيّتها ونهضتها في ظلِّ الحضارة الإسلامية التي وفدت لا لكي تلغي الإنسانية بل لتكرِّمها بحفاوة إلهية كريمة وتسمو بها في مراقي التعالي الربانية الخالدة. إنّ نظرة عابرة إلى التاريخ العلمي والثقافي والأدبي لبلاد الإسلام، تعطينا فكرة عن الطفرة العملاقة التي أحدثها الإسلام في الارتقاء الفكري لهذه البلاد وحجم النهضة العلمية والثقافية التي أولدها في شعوبها بالشكل الذي قد نلمح أحياناً وكأنّ النهضة الفكرية في تلك البلاد قد بدأت بدخول الإسلام فيها، وأنّ تلك الأُمم أنجبت جيلاً من عظماء الشعراء والأدباء والفلاسفة والعلماء، بعدما قبلت الدين الجديد وتفاعلت مع أفكاره الوثّابة ومبادئه الناهضة. كما إنّ نظرة أخرى إلى مسيرة هؤلاء العظام مفكِّرين وأدباء وعلماء، واختلاف مواطن نشأتهم وتطوّر فكرهم وتمايز آرائهم وحركة النقد الفكري التي عاصروها وعناوين الأبحاث والكتب التي سطّروها والانجازات التي حقّقوها... إنّ نظرة إلى كل هذا تبيِّن لنا المدى الواسع الذي أعطاه الإسلام لحرِّية الفكر والمجال الخصب الذي وفّره لبروز الأفكار وتلاقح الآراء، وهي تؤكِّد حقيقة وسعة رحابة الفكر الإسلامي لتعدّدية الآراء، وعدم تعارض فكر الوحدة عند المسلمين مع تنوّع الثقافات وتمايز المجتمعات وتكثّر الآراء والأفكار. إنّ الدارس لأفكار ابن مسكويه وكتابات ابن سينا وآراء الرازي ونظريات الكندي أو آثار ابن رشد وردود الغزالي وفلسفة الشيرازي... إلخ، إنّ الدارس لآثار وأفكار هؤلاء، يجد تنوّعاً وتعارضاً وتوسّعاً وتمايزاً بينها بمساحة قد نفتقدها اليوم في الكثير من بلداننا، ولعلّ تلك الأجواء الحرّة في التفكير والمساحة الواسعة في حرِّية التعبير كانت أحد العوامل الأساسية التي كانت وراء تلك النهضة الكبيرة التي شهدتها بلاد المسلمين. كما إنّ النمو والتطوّر الهائل الذي شهدهُ الشعر والأدب لسائر لغات الشعوب التي تمازجت مع الإسلام، وثيقة أخرى على أنّ الإسلام ليس لم يلغِ خصوصيات الشعوب وتراثها الخاص فحسب، بل هيّأ الأجواء لبروزها وارتقائها بمفاهيم إنسانية رفيعة وآفاق معنوية عالية. إنّ الإسلام أراد للناس أن يلتقوا على أفكار نيِّرة أساسية قائمة على المعروف ومعارضة للمنكر وداعية للإيمان بالله تعالى، وإقامة العدل والانصاف ونفي الشِّرك والظّلم والإجحاف...، ووضع قواعد وقوانين أساسية لذلك، وترك مساحات واسعة للإبداع الإنساني والتنوّع البشري. إنّه أراد لكل الناس على اختلاف مشاربهم وفضائلهم أن يلتقوا في حبِّ الخير وأن يتسابقوا في فعل الخيرات. المصدر: كتاب الإسلاميون على أعتاب القرن الحادي والعشرين

ارسال التعليق

Top