• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

إبراهيم (ع) يُحطِّم الأصنام/ ج(3)

محمد المولى، محمد إبراهيم، علي البجاوي، السيد شحاته

إبراهيم (ع) يُحطِّم الأصنام/ ج(3)

خاب رجاءُ إبراهيم حين أنكر عليه أبوه دعوتَه، وحزّ في نفسه أن يدعوه إلى الخير فلا يستجيب دعاءه، وأن يهديَه إلى الحق فيبرَأ منه وينأى عنه، ولكن هذه الغلظةَ التي بدت من أبيه، وذلك الجفاء الذي ظهر منه لم يقعِداه عن متابعة دعوته إلى الحق، ولم يَثنياه عن النكير على قومه إشراكهم بالله، وعبادتهم الأصنام من دونه، بل أزمَعَ أن يمحو هذه العقائد الفاسدة، ولو ناله في ذلك أذى كثير، ولحقه شَرّ مستطير.
كان إبراهيمُ ذكيّ الفؤاد، صائبَ الرأي، ثاقبَ الفكر، فرأى أنّ الحجة القولية، والبرهان اللفظيّ، وإن وُضحا وضوح الصبح، لا ينبتان نبتاً حسناً في هذه الأرض الجرُز، فأراد أن يشرك أبصار القوم مع بصائرهم، وحواسّهم مع أفئدتهم في تفهُّم عقيدته، والوقوف على حقيقة دعوته، علّهم يثوبون إلى رشدهم، ويرجعون عن غيِّهم.
انظر إليه يستدرجُهم إلى مجادلته، ويَستَنزِلهم إلى مجال محاورته، فيسألهم: ماذا تعبدون؟
أفاضوا الحديث في شأن أصنامهم، وأطنبوا في جوابهم، مُعتَزِّين بعبادتها، معتدّين بالخضوع لها، وقالوا: نَعبُدُ أصناماً فنَظلُّ لها عاكفين.
ولقد كان إبراهيم مُلهَماً في سؤاله، موفّقاً في استفساره، فهو كالطبيب حاول أن يتحسّس الداءَ، ليصف الدواء، أو كالقاضي أراد أن يحملهم على الإقرار بإرتكاب الجُرم، والإعتراف بإقتراف الذنب، وهو في ذلك يُضَيِّق دائرة الجدل ويجمع أشتات الخلاف في مسألة واحدة، فإذا أوهن أساسَها، وقوّض أركانها، وأوضح بطلانها فقد ألزمهم الحجة، وحينئذ لا يجدون مَحِيصاً من اتِّباعه، ولا مَناصاً من طاعته.
كرّ عليهم يَنقذُ زائف آرائهم، ويُبيِّن فاسدَ اعتقادهم، فقال: هل يسمعونك إذ تتوجهون إليهم بالعبادة، ويُبصرونكم حين تقدِّمون لهم الطاعة؟ وهل ينفعونكم أو يضرّون!
ما أقبح التقليد، وما أعظم كَيد الشيطان الذي استدرَجَهم إلى أن حاكوا آباءهم في الكفر، وجارَوهم في الشِّرك، وزيَّن لهم عبادة التماثيل، فعفّروا لها جباههم! وما أشدّ جهلهم حين اعتقدوا أنّهم على حق! بل جدّوا في نصرة مذهبهم، وجادلوا أهلَ الحقِّ عن باطلهم، وما أوهَى ما نطقوا به! وما أجابوا به! فقد قالوا: (وجَدنا آباءنا لها عابدين) (الأنبياء/53).
أقرُّوا أنّها لا تسمعُ داعياً، ولا تملِك لهم ضُراً ولا نفعاً، واعترفوا بأنّهم ما عبدوها إلا إقتداء بأسلافهم، واتباعاً لآبائهم، فجعلوا ما دَرَج عليه قومُهم، وما اهتدى إليه قدماؤهم دليلاً على استمساكهم بالحق، ورأوا قِدَمَها برهاناً على استحقاقها للإجلال والتعظيم، فكانوا بذلك عن النظر الصحيح نائين، وعن التفكير السليم بعيدين.
قال إبراهيم: (لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) (الأنبياء/54)، قالوا: أتنتقصُ آلهتنا، وتَسُبُّ أصنامنا بالحق أم أنت من اللاعبين!
قال إبراهيم: إنِّي أقولُ لكم ذلك جادّاً لا هازلاً، فقد جئتُكم بالدين القويم، وأرسلت إليكم بالهدى والحقّ المُبين، فإنّ ربّكم الخليقَ بالعبادة هو فاطرُ السماواتِ والأرض، ومُدبِّر شؤونهما، والقائم على أمورهما. أمّا هذه الأصنام، فلا تملكُ لنفسها نفعاً ولا ضرّاً، وهي حجارة صمّاء، وخُشُبٌ مُسَنّدَة. فعليكم أن تجتنبوا عبادتها، وتنأوا بأنفسكم عن الخضوع لها، واحذروا فتنة الشيطان وإغواءَه، وفكِّروا بعقولكم، وانظروا بأبصاركم، لعلّكم تهتدون.
على أنِّي قد سبقتكم إلى البُعد عن عبادتها، وبادَرتُ قبلكم إلى النّأي عنها، فلو كانت تضرُّ لضرّتني، أو تملك شيئاً لنالت منِّي.
ثمّ أظهر لهم بديعَ صُنعِ الله، وباهرَ قدرته، ليتبيَّنوا أثر حكمته، ويَلمسوا الفرق الواضح والبَون الشاسع بين ما يدعوهم إليه، وما يعبدون من أصنام لا تغني عنهم شيئاً، فقال: ألا تنظرون إلى ما تعبدون من دون الله أنتم وآباؤكم الأقدمون! (فإنّهم عدوٌّ لي إلا ربّ العالمين. الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثمّ يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) (الشعراء/77-82).
ولما لم تنفعهم الحجّة، ولم تغنهم النُّذُور، وصدّوا عن سبيله، وأعرضوا عن دعوته، ورأى إبراهيم أن آذانهم صمّاء، وقلوبهم غُلف، وأنّهم لازالوا متعلِّقين بأوهامهم، متمسكين بعبادة أصنامهم بيَّتَ الشرّ لها، واقسم ليكيدنّها حتى يَرَوا أنّها لا تضر ولا تنفع، ولا تدفع الأذى عن نفسها، فتدرَأه عنهم، ولا تلحق بهم ضرّاً إذا تركوا عبادتها، أو تُكسِبهُم خيراً إذا عكفوا عليها، وأخلصوا لها.
وقد كان من عادة أولئك القوم أن يُقيموا عيداً لهم في كل عام، يقضون أيامه خارج المدينة، يُهرعون إليه، بعد أن يَضعوا طعاماً كثيراً في بيت العبادة، حتى إذا ما رجعوا من عيدهم أكلوه فَرِحين، وأقبلوا عليه مغتبطين، فقد باركته الآلهة، وأضفتْ عليه الخير.
لما هَمّوا بالذهاب إلى عيدهم طلبوا إليه أن يرافقهم، وسألوه أن يشاركهم في الخروج إلى ظاهر مدينتهم، فأبى أن يَصحَبَهم، وامتنع عن الإنتظام في سِلكِهم، وقد عقد العزمَ على أن يَهدِمَ صَرحَ آلهتهم، ويقوِّضَ عرش معبوداتهم، وادّعى العِلّة، وتظاهر بالسقم، ولم تكن به علةٌ ولا مرض، ولكنه كان سقيمَ النفس، كاسفَ البال، يتقطّع فؤادُه حزناً على إشراك قومه، ويتميّزُ غيظاً لأنّهم لم يُلَبُّوا نداءه، ولم يُصيخوا إلى دعوته.
ولما كانوا يخشون الداء، ويهابون الوباء تَوَلّوا عنه ولم يستمسكوا بدعوته، بل أظهروا الرِّضا عن تخلّفه، والإقتناعَ بحجّته، وخرجوا إلى عيدهم مسرورين.
هاهي ذي المدينة قد خَلَت من أهلها وسكانها وهاهو ذا بيت العبادة قد أقفر حتى من كهَنته وسَدَنته، فقد خرجوا جميعاً إلى ظاهر المدينة، ولم يتخلّف عن اللحاق بهم إلا إبراهيم.
ولما خلا الجوّ من العيون التي تترصّده، واختفت الأبصارُ التي كانت تترقّبه دَلف إلى أصنامهم، ودخل إلى بيت عبادتهم، فوجد باحَة قد اكتظّت بالتماثيل، وانتشرت في أرجائها الأصنام، ورأى الطعام متراكماً تحت أقدامها، فخاطبها متهكماً بها، محتقراً لشأنها: ألا تأكلون! ولم يجد منهم إصغاء ولم يسمع منهم جواباً، فقال: ما لكم لا تنطقون! وأنّى للحجارة أن تنطق، وللخُشُب المسنّدة أن تَعقل!
لا إخَاله الآن لا مُزدرياً لقومه، محتقراً تلك الأصنام التي نصبوها آلهة، فصار يَلطِمها بيده، ويَركلُها برِجله، وأخيراً تملَّكته سَّورَة الغضب لدينه، واستولت عليه شّرّة الغيظ لربّه، فتناول فأساً، وهوَى عليها، يكسِّرها ويحطِّم حجارتها. ومازال بها حتى جعلها جُذاذاً، وصيّرها حُطاماً، إلا كبيرهم فإنّه أبقى عليه، ليَرجِعوا إليه، ويسألوه عمّن انتهك حرمة بيتهم، وكسر أصنامهم، حتى إذا استبانوا أنّها لا تنطق ولا تعقل، ولا تدفع عن نفسها من أرادها بسوء، ثابوا إلى رشدهم، ورجعوا عن مكابرتهم.
تركها حجارة مبعثرة، وخُشُباً متناثرة، وانصرف عنها، وهو مطمئن البال، قرير العين، لاستئصاله جذورَ الشر، وطمسه معالم الشرك. وأقام يرقب ما يبدو منهم، وينتظر أثر فَعلَته في نفوسهم، وأخذ العُدة لما قد يرمونه، أو يجادلونه فيه.
ورجعوا من عيدهم، ورأوا ما حلّ بمعبوداتهم، فبُهتوا لِهَولِ ما رأوا، وسُقِط في أيديهم عندما وجدوا الآلهة مُتهَشّمة، والنُّصُبَ مكسرة! وتساءلوا: مَن فعل هذا بآلهتنا؟ إنّه لمن الظالمين!
قال قائلهم: سمعنا فتى يُقالُ له إبراهيم: يذكر آلهتنا ويعيب علينا عبادتها ويزدَرِيها ويحتقرها، فهو المجترئ عليها، والمحطم لها.
عرفوا إذن مَن تطاول على آلهتهم، واعتدى على معبوداتهم، فاعتزموا أن يوقعوا به من العقاب بمقدار ما ارتكب من وٍزر، وما اجترم من ذنب، وثارت ثائرةُ القوم، ونادّوا بأن تأتوا به على أعيُن الناس، ليشهدُوا عليه بمقالته، ويَرَوا ما يَحُلّ به من القصاص.
ولا شك أنّ اجتماع القوم في صعيد واحد كان أمنِيةَ إبراهيم التي طالما جاشت بها نفسُه، ليقيم لهم الحجّة جميعاً على بطلان ما يعتقدون ويريهم البرهان على فساد ما هم عليه عاكفون.
تقاطرت الوفود، وتكاثرت الجموع، كلٌّ يرغب في القصاص من إبراهيم، ويودُّ أن يرى عقابه، ويُشاهِد عذابه، ففي ذلك إرضاءٌ لنفوسهم المتعطشة إلى الثأر منه، وإشباع لرغبتهم المتوثبة للفتك به، ثمّ جاءوا به وسط هذا الجمع الزاخر، وابتدأوا محاكمتهم أمام هذه الجماعات التي تحرِّق عليه الأرِّم حَنَقاً وغيظاً، وقالوا له: أنت فعلتَ هذا بآلهتنا يا إبراهيم!
هاهي ذي الفرصة قد سنحت لبلوغ مأربه، وللوصول إلى مقصده، فسار بهم في الجدال ناحية أخرى، وجرّهم بأسلوبه الحكيم إلى طريق لم يقصدوه، ليُلزمهم الحجة، فيرجعوا إلى صوابهم، ويثوبوا إلى رشدهم، فقال: (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون) (الأنبياء/63).
يا لها من حجة دامغة، قد صفعهم بها صفعة نبّهتهم من غفلتهم، وأيقظتهم من غَفوتهم! فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، وقالوا: إنّكم أنتم الظالمون، فتركتموها لا حافظ لها، ولا رقيب عندها.
ثمّ أدركتهم الحَيرة، وعقد الحَصر ألسنتهم، فأطرقوا برؤوسهم مفكِّرين، واستجمعوا شارد عقولهم جامدين، ثمّ قالوا: لقد علمتَ يا إبراهيم أنّها لا تردُّ سؤالاً، ولا تُحيرُ جواباً، فكيف تأمرُنا بسؤالها، وتطلب إلينا الإستشهاد بها!! أقرُّوا بعجزها عن الإصغاء إليهم، واعترفوا بقصورها عن العلم بما يجري حولها، أو الشعور بما يقع عليها، وجرّدوها من القدرة على أن تصدّ المعتدين، أو ترد كَيدَ العادِين.
فأخذ يُبَكّتهم على جَهلِهم، ويتأفّفُ من ثَباتِهم على الباطل بعد وضوح الحق، وهو متغيّظ من غفلتهم ومكابرتهم بعد انبلاج الصبح. ثمّ حضَّهم على الرويَّة فيما ينطقون، والتفكير فيما يدعون، فقال: (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرُّكُم أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) (الأنبياء/66-67).
كانت على أعينهم غشاوة فلا يبصرون، وفي آذانهم وَقرٌ فلا يسمعون، وقلوبهم غُلفٌ فلا يعقلون، فلمّا غُلِبوا على أمرهم، وخافوا افتضاح حالهم، ولم تبقَ لهم حجة أو شبهة، عدلوا عن الجدل والمناظرة، وعمَدوا إلى القوّة يسترون بها هزيمتهم، ويخفون باطلهم، وقالوا: (حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين) (الأنبياء/68)!


المصدر: كتاب قصص القرآن

ارسال التعليق

Top