◄اسمه جعفر – وجعفر في اللغة هو النهر الصغير، وقد سمّي المذهب الشيعي بالمذهب الجعفري نسبة إليه، لأنّ أكثر معارف وعلوم هذا المذهب عرفت منه، رغم أنّ كلَّ الأئمة أدّوا ما عليهم من التزكية والتعليم للناس، إلا أنّ اضطهاد الحكام الظالمين لهم لم يعطهم الحرية الكاملة والفرصة اللازمة لتبيين وتطبيق كلّ الأحكام.
أما الإمام الصادق (ع) فقد كانت فترة إمامته تشهد ضعف ونهاية الدولة الأموية وبداية الدولة العباسية مما صرفهما عن إيذائه والتضييق عليه، وهذا ما جعله ينتهز الفرصة، وأعطاه المجال الكافي لكشف الحقائق وبهر الخلائق بما احتوى عليه هذا الدين الحنيف من كنوز نفيسة.
ولقد اشتهر بألقاب منها المنجي والصابر والطاهر والصادق (وهو أشهرها) والكامل والقائم والفاضل، وبكنىً هي: أبو عبدالله وهي المشهورة، أبو موسى، وأبو اسماعيل.
نسبه (ع):
والده الإمام محمد الباقر ابن الإمام علي ابن الإمام الحسين (ع) بن عليّ ابن أبي طالب (ع).
وأمه "أم فروة" بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وأمها أسماء بنت عبدالرحمن بن أبي بكر.
حياته:
وُلِدَ (ع) في المدينة المنورة يوم الاثنين الواقع في السابع عشر من ربيع الأوّل، في يوم ولادة جده النبي محمد (ص) سنة 83هـ.
وقد عاش (ع) مع جده زين العابدين عليّ بن الحسين (ع) اثنتي عشرة سنة، وبعده مع أبيه الإمام محمد الباقر (ع) تسع عشرة سنة، ومدة إمامته بعد وفاة أبيه أربعٌ وثلاثون سنة، فيكون عمره الشريف خمساً وستين سنة.
وقد عاصر من "الخلفاء" الخمسة الأخيرين من بني أمية، والاثنين الأولين من بني العباس.
نهضة الإمام الصادق (ع) العلمية:
إنّ الإمام الصادق (ع) يعتبر بحقِّ مرجع المذاهب الإسلامية لأنّ أئمتها تتلمذوا على يديه وشربوا من نمير علمه الذي اشتمل على العلم والأدب والفلسفة والحضارة، ولا يزال يضوع مسلك هذه المعارف الإلهية العظيمة حتى وقتنا الحاضر، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وما عليها.
إنّ نهضة الإمام الصادق (ع) العلمية كانت توجبها الضرورة العلمية والأهداف الحضارية للأُمّة الإسلامية، لأنها كانت تشهد مخاضاً عسيراً من جهتين:
1- إنّ الأمة الإسلامية بعد أن توسعت رقعتها نتيجة الفتوحات الإسلامية كانت بحاجة إلى فتح القلوب بحكمة بعد فتح الأمصار، لما في ذلك من أهمية كبرى في الدعوة الإسلامية كما قال الله سبحانه وتعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل/ 125)، فكان لابدّ من وجود إمام قائد موجّه لسفينة الفكر الإسلامي يحسن قيادتها وهي تَمْخُرُ عباب الحياة الإنسانية.
2- إنّ للشريعة الإسلامية قوانين عظيمة، وتعاليم راقية لا يُلقّاها إلا ذو حظ عظيم، ونتيجة انفتاح العالم الإسلامي على بقية العالم، فانّه حصل تلاقح في الأفكار والحضارات والفلسفة. كما اجتاحت العالم الإسلامي آنذاك نظريات مادية وعقائد تبطن الكفر مما أدى إلى نشوء طوائف منحرفة وملحدة أو كافرة متسترة بغطاء الإسلام كالغلاة والملاحدة والدهرية والمجسّمة حتى كاد الإسلام أن يضمحل في نفوس الكثيرين بسبب هذه العقائد المضلة.
ولقد استغلت السلطات الحاكمة هذه الاختلافات في العقائد لتمعن في تفتيت الطاقات الخيّرة في الأُمّة ولتشغلها عن دورها الحقيقي في عملية بناء المجتمع وانهاضه، ولذا كانت نهضة الإمام الصادق (ع) ضرورية للوقوف بوجه هذه الأخطار المهددة للإسلام من الداخل والخارج، وللإمساك بزمام المبادرة فيكون في موقع الفعل لا في موقع ردة الفعل.
وإنّ الإمساك بزمام المبادرة كان يحتاج إلى موقف حكيم يتناسب مع الظروف العامة التي تمرّ بها الأُمّة، لذا لم يرَ الإمام الصادق (ع) بُداً من سلوك طريق التوعية الشاملة لبناء قواعد فكرية وروحية قائمة على الأسس الإسلامية الصالحة من الإيمان الصادق والعمل الصالح والخُلُق الفاضل والسلوك المستقيم.
المدرسة الجامعة:
تعتبر جامعة الإمام الصادق (ع) أوّل محاولة علمية أكاديمية منظمة لسبر أغوار العلوم والمعارف على اختلافها، وقد شرعت أبوابها لكلِّ طالب علم، فلم يكن أمام الإمام (ع) إلاّ أن يستفيد من هذا القبول والإقبال على النهل من نمير العلوم، والارتواء من فيض المعارف، ليعلم ويدرّب ويهذّب دينياً وعلمياً في الوقت نفسه، فاهتم بعلوم الطبيعة والفلسفة والكيمياء والطب وعلم الحيوان والنبات والإنسان، كما ركّزَ في الجانب العلمي على العقائد الإسلامية وأدلّتها وتفسير القرآن والحديث وتبيان الأحكام الفقهية وتصحيح الأخبار وتهذيبها من الأكاذيب والدسّ وتصحيح الآراء والاجتهادات القائمة على الآراء الشخصية والنظريات الدخيلة.
فكانت مدرسة جامعة للفقهاء والعلماء ورجال الفكر والأدب والقانون ومختلف العلوم والمعارف، ولم يقتصر أثر هذه المدرسة الجامعة على عصرها آنذاك بل امتد إلى الحاضر وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وما عليها، إذ كان يطلب منهم كتابة ما يتعلمونه لأنّه سيأتي بعدهم أناس يحتاجون إلى هذه الأحاديث والعلوم. فلَبّوا هذا النداء الخالد بتأليف الكتب والرسائل منها أربعمائة كتاب معروفة بالأصول الأربعمائة. كما ألّف جابر بن حيان رسائله الخمسمائة المعروفة برسائل جابر.
وتوجيهاته لأصحابه بالتمسك بأهداب الدين الحنيف والأخلاق أكثر من أن تُعَدَّ فهي ترشد الناس إلى سواء السبيل بالحكمة والموعظة الحسنة.
املاءاته:
ومما أملاه الإمام (ع) كتاب توحيد المفضل وكتاب الاهليلجة ومجموعة الرسائل التي رواها عنه جابر بن حيان.
ويعتبر كتاب توحيد المفضل أو دلائل التوحيد، نموذجاً لكتاب حديث في تبسيط العلوم. فهو يثبت وحدانية الله عن عطريق التأمل والتفكر فيما خلق ويتألف من مقدمة قصيرة وأربعة مجالس، وقد تكلم في المقدمة عن رجل زنديق من الزنادقة والدهريين المشككين بعقيدة المسلمين علانية، ويزعمون أنّه لا يوجد للكون صانع أو بدء وأنّ الأشياء تتكون من ذاتها. وقد جرت بينه وبين المفضل محاورة حاول ابن أبي العوجاء فيها أن يقنع المفضل برأيه، فثار الأخير وذهب إلى المسجد ليلتقي بأستاذه الإمام الصادق (ع). ولما أعلمه بقول ابن أبي العوجاء أملى عليه هذا الكتاب خلال أربع جلسات..
- في المجلس الأوّل تكلم الإمام عن أسباب الخلقة ومعانيها، وتهيئة العالم، وتأليف أجزائه، وخلق الإنسان، ومراحل نموه، ووصف أعضائه وحواسه وأجهزته، وعمل كلّ منها. ثمّ تكلم عن مميزات الإنسان عن بقية الحيوانات.
وفي المجلس الثاني قام بتصنيف الحيوانات إلى آكلات لحم، وطيور، وذوات أربع قوائم، وذكر صفات وطبائع بعضها.
ثمّ تكلم عن النحل والعسل، والجراد وبلائه، وصف السمك وعلل كثرة نسله، واختتم الكلام بذكر عظمة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين.
وفي المجلس الثالث تكلم عن السماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم، وأفعال تلك الكواكب وأهمية كلّ منها لحياة الإنسان. ثمّ تكلّم عن الأرض وهيئتها، وفوائد الماء والهواء والنار، والصحو والمطر، وفوائد الجبال، وأصناف النباتات والمعادن. وقد خصّ بعض النباتات بالتفصيل وهي النخل واليقطين والرمان. ويبرز في هذا المجلس اهتمام الإمام بصنوف الأحجار والمعادن، ومعرفته لمنافعها وصفاتها. ولكنه ينفي في بحثه إمكانية صنع الفضة والذهب فقال "فإنّهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم كان لا محالة سيظهر ويستفيض في العالم حتى تكثر الفضة والذهب ويسقطا عند الناس..".
وفي المجلس الرابع تكلّم الإمام عن الموت والفناء والآفات، وعن أسبابها وانتقاد الجهّال لوجودها. وتكلّم عن طعن بعض الزنادقة بوجود خالق للكون، وانتقد "هاني" الذي ادّعى علم الأسرار، كما انتقد "المعطلة" وهم الذين ادّعوا أنهم يدركون بالحس ما لا يدرك بالعقل، وناظر أصحاب الطبائع الذين يقولون إنّ الطبيعة لا تفعل شيئاً لغير معنى أو سبب.
الإمام والقرآن:
لقد واجه الإمام الصادق (ع) أدوات التحريف للآيات المباركة، بجعلها في خدمة الظالمين وإعطائهم الشرعية فقد قيل له (ع):
أليس قد آتى الله بني أمية الملك؟ بدليل قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ) (آل عمران/ 26).
أجاب (ع): "ليس حيث تذهب، إنّ الله عزّ وجلّ آتانا الملك وأخذته بنو أميّة، بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر، فليس هو الذي أخذه".
ومن ناحية ثانية كما هو واقع المسلمين اليوم في علاقتهم مع القرآن الكريم، كان واقع المسلمين زمن الإمام الصادق (ع)، عندما سيطر الحكام الجائرون على مقاليد الحكم والبلاد، فكانوا يقرأون ويتلون القرآن دون فهم آياته، وتدبر معانيه وبالتالي دون استلهام الإرادة والعزيمة في القلوب، فكان رأي الإمام الصادق (ع) هو الفيصل والفاروق بين الحقِّ والباطل حينما سُئل عن معنى قوله تعالى: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) (البقرة/ 121).
قال (ع): "يرتلون آياته، ويتفهمون معانيه، ويعملون بأحكامه... وما هو والله بحفظ آياته، وسرد حروفه، وتلاوة سوره، ودرس أعشاره وأخماسه، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده، وإنّما هو تدبّر آياته، يقول الله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (ص/ 29)".
فقد قسّم الإمام الصادق (ع) قرّاء القرآن الكريم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأوّل: قارئ قرأ ليستدر به الملوك ويستطيل به على الناس.
النوع الثاني: قارئ قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيَّع حدوده.
النوع الثالث: قارئ قرأ فاستتر به تحت برنسه فهو يعمل بمحكمه ومتشابهه، ويقيم فرائضه، ويحل حلاله، ويحرم حرامه، فهذا ممن ينقذه الله من مضلات الفتن.
وقد أراد الإمام الصادق (ع) من قارئ القرآن معرفة الحقِّ فيه لتكون له البصيرة النافذة والركيزة الأساسية في فهم الأمور وتجنب مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. فيقول (ع): "من لم يعرف الحقَّ من القرآن لم يتنكبَ الفتن".
وكأنّ الصادق (ع) كان يتمثل وصف الإمام عليّ (ع) لهؤلاء الناس بقوله: "إلى الله أشكو من معشرٍ يعيشون جُهالاً ويموتون ضلالاً، ليس فيهم أبور من الكتاب إذا تلي حقّ تلاوته ولا سلعة أنفق بيعاً، ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حُرِّفَ عن مواضعه".
وفاته (ع):
إنّ مكانة الإمام الصادق (ع) علماً وإمامةً عرَّضتْهُ – كآبائه وأهل بيته عامةً – للحسد والعداوات من قبل الحاكمين ومدّعي الإمامة والعلم والفضل في زمانه، إلا أنّ الذي كان أشدهم رغبة بالبطش به والبحث عن ذريعة لقتله هو أبو جعفر المنصور الدوانيقي، حتى أنّه أشخصه أربع مرات من مدينة جدّه (ص) إلى الكوفة ليقتله، فكانت تظهر من الإمام (ع) آيات معجزات تمنعه عن الإقدام على جريمته، إلى أن بعث إلى الإمام (ع) بسمّ أجبروه جبراً على شربه، فاستشهد (ع) مظلوماً بسمّ المنصور في المدينة في شهر شوال، على المشهور (وقيل أيضاً يوم الاثنين منتصف رجب) في سنة ثمان وأربعين ومئة للهجرة، وله من العمر خمس وستون سنة، ودفن بجانب أبيه الباقر (ع)، وجده السجاد (ع)، وعم جده الإمام الحسن المجتبى (ع) في بقيع الغرقد في المدينة المنورة في تربة أكرمها الله عزّ وجلّ بأربعة من الأئمة المعصومين (ع) وبعدد من الصحابة والتابعين وخلّص الأصحاب (رض).
قال مالك بن أنس: "ما رأت عين ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر الصادق (ع) فضلاً وعلماً وورعاً وعبادة":
أنت يا جعفرُ فوقَ المدحِ *** والمدح عناءُ
إنما الأشراف أرضٌ *** ولهم أنت سماءُ
جازَ حدَّ المدحِ مَن *** قد ولدته الأنبياءُ
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 31 و32 لسنة 1992م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق