- بين التوكل والسببية:
العالم الموجود حقيقة يدركها الإنسان، ويحس وجودها وهو جزء منها، تجري عليه قوانينها، وتنتظمه حركتها.. وهو أيضاً يدرك إلى جانب هذه الحقيقة ومن خلال استبطانه لوجودها ووعيه لنظامها وأسرار تكوينها، يدرك وجود حقيقة كبرى تحتوي هذا العالم وتهمين عليه، هي تختلف كلّ الاختلافات عنه.. تختلف بذاتها وآثارها وجميع صفاتها التي تتصف بها من العلم والقدرة والإرادة والغنى.. إلخ. في حين يتصف العالم المخلوق بالحدوث والحاجة إلى الإيجاد والتنظيم والبقاء. لذا فهو بالنسبة لخالق الوجود يحتل موقع المعلول والنتيجة، ويشكل نسيج الأسباب والحوادث والنتائج المحسوسة لدى الإنسان في حين يكون الخالق العظيم هو مصدر الحركة والتنظيم والتقدير الذي يؤثر في كلّ هذه الظواهر ويهيمن عليها. لذا كان هذا العالم عالم المادة والفكر والحياة، هو عالم الأسباب والعلل، فكل ما فيه، عبارة عن نسيج مترابط من الأسباب والنتائج والشروط والحوادث، فما من شيء فيه إلّا ويحتاج إلى سبب ويصلح أن يكون سبباً لغيره وشرطاً لوجوده. لذا كانت هذه الصفة – صفة السببية وخضوع العالم لها – هي السرّ في خضوعه لمسبب الأسباب (الله)، وارتباطه بمصدر التحريك والإيجاد، وهي الدليل على وجود خالقه، وحاجة الخلق إليه. ويتأكد هذا الشعور لدى كلّ واحد منّا وهو يعيش ويتحرّك داخل إطار هذا الكون الرحيب، فيشعر بنسيج محكم من الأسباب والنتائج والعلل والمعلومات، تستوعب كلّ صغيرة وكبيرة في هذا العالم، فيحس بأنّ عالمه هو عالم الأسباب والنتائج ووعاء القوانين والنظام والتصرّف فيه وإحداث أيّ حدث – طبيعياً كان أو إنسانياً – لابدّ له من سبب، أو علّة تناسبه في عالم الطبيعة والإنسان، فيظل ينظر إلى هذا العالم ويتعامل معه بمنطق العلّية والسببيّة من غير أن يفصل بين الشيء وسببه ومن غير أن يتوقع حدوث شيء بلا سبب في عالم الأسباب والحوادث. وبالتأمل في هذا العالم، وبمتابعة حوادثه، وتحليل وجوده، والنظر إليه من خارجه، نجده تشكيلة من الأسباب والنتائج الحادثة، المفتقرة في كلّ وجودها وحركتها إلى سبب أعمق، فهي: 1- تحتاج إلى السبب في الخلق والإيجاد والتنظيم. 2- تحتاج إليه في البقاء واستمرار الوجود. 3- حسب القوانين والأسباب المودعة فيه. ومن هذا المنطلق تبدأ بالوضوح علاقة الإنسان بالله وعقيدة التوكل والاعتماد عليه والتسليم لأمره كنتيجة لوعي الإنسان ولعلاقته بالله وارتباطه وجوده به، وبحاجته وحاجة كلّ سبب في الإيجاد والاستمرار في الوجود إلى تقدير الله ومشيئته، فيكون التوكل نتيجة طبيعية للعلاقة بين الله وبين الخلق. وقد حفل القرآن الكريم والسنّة النبويّة وما تفرع عنهما من دراسات وأبحاث بالعديد من النصوص والمواقف والمفاهيم التي تغنى وتؤكد دور الأسباب ووجوب إجرائها، وتوقف كلّ حدث وواقعة في الوجود وفي الحياة الإنسانية على سبب أو علّة للإيجاد. كما أوضحت هذه المفاهيم والنصوص وفسرت طبيعة العلاقة بين عالم الأسباب، وبين التدبير والمشيئة الإلهيّة، فتجلّى من هذا الربط والتفسير معنى التوكل واضحاً جليّاً على ضوء العلاقة بالله وبالسبب الذي هو حكمة الله ومشيئته وفي الخلق. فلم تحذف هذه العقيدة السببية من عالم الأحداث والنتائج كما أنّها لم تؤلّه الأسباب أو تحصر الاهتمام بها، فتقطع النظر عن إرادة الله ومشيئته، وهي كذلك لم تنظر إلى دور الأسباب والعلل بعين المعادلة مع تقدير الله ومشيئته، فهذا الجنوح يشكل شركاً وانحرافاً عن عقيدة التوحيد ومفهوم القرآن. فقد جاء بتفسير الإمام الصادق (ع) لقوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف/ 106). إنّ معنى اجتماع الشرك مع الإيمان الوارد في هذه الآية هو قول أحدهم: لولا هذا السبب لما حصل هذا الشيء، ولولا فلان لما قضيت هذه الحاجة. قاطعاً نظره عن قدرة الله، وإيجاده وتدبيره للأسباب وربط نتائجها بها. لذا كان لابدّ من الإيمان بأنّ الله هو القاهر فوق كلّ سبب ونتيجة في هذا الوجود: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (الأنعام/ 18). ولذا كان لابدّ من الإيمان بأنّ الأسباب والعلل خلقت لحاجة الخلق إلى التسيير والتنظيم والاستمرار، وهي طوع إرادة الخالق، ورهن مشيئته، وهي أثر من آثار حكمته في الخلق، وهي الشاهد على حاجة العالم إلى خالقه، وافتقاره إلى موجد يهبه الوجود والنظام. وهي الشاهد على أنّ هذا العالم، عالم الحوادث والأسباب والنتائج، لابدّ لكلّ مَن يعيش فيه مع معرفة أسباب المرض ووسائل العلاج ليكسب نتيجة الشفاء. والمقاتل المجاهد الذي يريد إحداث نتائج النصر لابدّ من إعداد أسباب القوة ووسائل النصر. وطالب العالم الذي يريد النجاح لابدّ له من أن يبذل جهده من أجل تحصيل المعرفة اللازمة لتحقيق النجاح. والمزارع الذي يرغب في إنتاج مقادير وأنواع معينة من المحاصيل يتحتّم عليه أن يوفر الظروف والأسباب التي يحتاجها الإنتاج. فهناك علاقة طبيعية بين الأشياء، تتوقف عليها عملية التوالد والحدوث. ولهذه السببية والتوالد والحدوث علاقة بطبيعة العالم الحادثة المتغيّرة الفانية. فتسلسل الأحداث وابتناء بعضها على بعض يمنحها السير والامتداد المتحرّك المستمر إلى الإمام الذي يحدث حركة الزمن، ويحكم على الأشياء بالهرم والفناء، ويطبع الوجود بكامله بطابع النهاية المحتومة خضوعاً لقانون الحدوث والفناء المتحكّم في مسيرة العوالم، ومنطق الأسباب الذي عبّر عنه القرآن بقوله: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص/ 88). ولإضاءة جوانب هذا المفهوم من الإيضاح والبيان، وتفسير العلاقة بين التوكل والسببية، نقتطع فقرات من بحث التوكل من كتاب "جامع السعادات" لمؤلفه العلامة الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفي سنة 1209هـ. قال عليه الرحمة: "اعلم أنّ التوكل لا يبطل بالأسباب المقطوعة والمنظومة مع أنّ الله قادر على إعطاء المطلوب بدون ذلك، لأنّ الله سبحانه ربط المسبّبات بالأسباب وأبي أن يُجري الأشياء إلا بالأسباب، ولذا لما أهمل الأعرابي بعيره وقال: توكّلت على الله. قال له النبي (ص): "إعقلها وتوكّل" – أي اربطها –. وجاء في الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع): "أوجب الله لعباده أن يطلبوا منه مقاصدهم بالأسباب التي سبّبها لذلك، وأمرهم بذلك". وقال الله تعالى: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) (النساء/ 71). وقال في كيفية صلاة الخوف: (وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) (النساء/ 102). وقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال/ 60). وقال لموسى (ع): (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلا) (الدخان/ 23). والتحصّن بالليل اختفاء عن أعين الأعداء دفعاً للضرر. وفي الإسرائيليات أنّ موسى بن عمران (ع) اعتلّ بعلّة فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علّته فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرئت. فقال: "لا أتداوى حتى يُعافيني الله من غير دواء". فطالت علّته، فأوحى الله إليه: "وعزّتي وجلالي لا أبرؤك حتى تتداوى بما ذكروه لك". فقال لهم: "داووني بما ذكرتم". فداووه فبرئ، فأوجس في نفسه في ذلك، فأوحى الله تعالى إليه: "أردتَ أن تُبطل حكمتي بتوكّلك عليَّ، أودع العقاقير منافع الأشياء غيري"[1]. ولعلّ في موقف الرسول (ص) من الأعرابي الذي فهم التوكّل فهماً سلبياً وأراد أن يترك الأسباب والوسائل الطبيعية الضرورية لحفظ ناقته من الضياع، ظانّاً أنّ ذلك من التوكل، توضيحاً كافياً لبيان العلاقة بين السبب والتوكل، لأنّ ربط الناقة سبب ضروري لتقييد حركتها ومنعها من الضياع. ولذلك أيضاً أوجب القرآن على المسلمين الحذر من الأعداء، والاستعداد لهم، وحمل السلاح، لئلا يُباغَتوا، أو تتضاءل وسائلهم الحربية أمام خصمهم. فالقرآن لم يقل لهم دعوا كلّ هذه الوسائل وتوكّلوا على الله، بل أمرهم بتهيئة الأسباب والوسائل اللازمة تحت ظلال عقيدة التوكل. وما دمنا نتحدّث عن الأسباب والتوكل فإنّه يجدر بنا أن نبين هنا أنّ كلّ إنسان قبل أن يقدم على شيء لابدّ وأن يتصوّر مقدّماته وأسبابه، وكيفية حدوثه ونتائجه، ويدرك العلاقة بين السبب والنتيجة. فالفلاح يدرك مثلاً العلاقة بين النبتة وشروط الإنبات، فيعمد على تهيئتها. والطبيب يدرك العلاقة بين الدواء والشفاء، فينصح باستعماله. ورجل الدولة يدرك العلاقة بين السياسة والاقتصاد فينسق بينهما. والمغيِّر الاجتماعي يعرف العلاقة السببية بين المحتوى الذاتي للإنسان وبين الوضعية الاجتماعية، فيبدأ بتغيير ذات الإنسان الداخلية، كشرط لتغيير الأوضاع الخارجية للمجتمع.. إلخ. فينتج من ذلك أنّ إدراك العلاقة بين السبب والنتيجة شرط من شروط الفعل. وإذا فحصنا الأعمال والحوادث والأشياء التي يريد الإنسان تحقيقها. وإحداث وجودها، وحاولنا معرفة مدى إحاطة الإنسان بالأسباب والنتائج من حيث القدرة والمعرفة نجدها ليست جميعاً مستطاعة وواضحة أو معروفة لديه، فبعضها غير مستطاع، وبعضها مجهول لديه تماماً، فلا يملك الإنسان سبباً واضحاً، ولا يدري كيف يدخل في سلسلة الأحداث، أو كيف يؤثر بها، وكيف يحقق النتائج التي يريد تحقيقها. ففي هذه الحالة ليس عليه واجب ولا تكليف، بل يلجأ إلى إحالة الأمر إلى الله سبحانه ويتوكّل عليه: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق/ 3). فجهل الإنسان بالأسباب والعلل يجعل من مساعيه وجهوده مساع ضائعة وجهوداً مبعثرة. لأنّه لا يستطيع الاهتداء إلى السبب المناسب لإعطاء النتيجة المطلوبة، ولكنّه في هذه الحالة لا يفقد أمله، ولا يوقف مساعيه، بل يظلّ يبحث وينشط في السعي لإيمانه بأنّ الله هو الهادي في هذه الحيرة، والقادر على التوفيق بين السبب والنتيجة في كلّ أعمال الإنسان وألوان نشاطه الخيرة، فيكون بموقفه هذا متوكّلاً. ويكون التوكّل: "هو التسليم بأنّ الله هو الهادي والموفق لإحداث السبب المناسب لاعطاء النتيجة المناسبة في كلّ أفعال الإنسان ومساعيه الخيّرة". والتوكل في مثل هذ المواقف تعبير عن الثقة بالله، وصحة اليقين به، أمّا الشذوذ عن مفهوم التوكل واللجوء إلى بعض التصوّرات الوهمية والأشياء التي يظنها الإنسان أسباباً مؤثرة ومنتجة، وهي ليست كذلك، وليس بينها وبين النتائج التي يريدها أيّة علاقة طبيعية، ولا يمكن أن تتوالد منها تلك النتائج، فتلك خرافة، وسلوك وهمي يخالف التوكل والاعتماد على الله سبحانه، كالذي يعجز عن تحقيق شيء مثلاً، ويلجأ إلى المشعوذين والدجّالين والسحرة، وإلى بعض الأعمال الخرافية لانقاذه، ومساعدته على تحقيق ما يريد بدلاً من أن يسلّم أمره إلى الله، ويتوكّل عليه. وهو بلجوئه إلى تلك الوسائل الوهمية إنّما يوازن بين الصفر والنتيجة المتصوّرة وجوداً وحقيقة ويرجو وجوداً من العدم الذي يفتقر بدوره إلى الوجود والتأثير الخارجي. وأمّا لجوء الإنسان إلى الاستعانة بالوسائل والأسباب ذات العلاقة التي يظن أو يحتمل قدرتها على التأثير والانتاج، فإنّ لجوءه إلى مثل هذه الأسباب المحتملة لا ينافي توكّله واعتماده على الله، ومن حقّه أن يسعى باستعمال هذه الأسباب لتحقيق النتائج التي يرجو قدرتها على تحقيق غايته، كما لو احتمل القائد العسكري إيهام العدو بإرسال إشارات صوتية أو ضوئية للتشويش على أجهزة الاتصال والكشف لديه، وإنّ ذلك يساعده على إرباك نظام العدو، وتحقيق النصر عليه، فإنّ ذلك لا يعني التعارض مع التوكل، ولا ينافي مبدأ السببية، وإن كان هذا السبب محتمل النتيجة والتأثير. أمّا الحالة الثالثة، فهي حالة المعرفة اليقينة ووضوح السبب وتشخّصه مع توفر القدرة التامة على الانجاز بلا شك يساور الإنسان في تحقيق النتائج المرجوة، فإنّ من واجبه أن يجري هذه الأسباب والوسائل، كالمريض الذي يتأكد من نجاح بعض العلاجات في شفاء مرضه، أو القائد الذي يتأكد من سلامة بعض الخطط والإجراءات.. فلا يتعارض هذا مع عقيدة التوكل، ولا يجوز ترك الأسباب والتحلل من المسؤولية بحجة التوكل على الله، فإنّ حكمة الله هي التي قضت خلق الوجود وفق هذا النظام، وجريان حوادثه وفق الأسباب.. ويجب أن يلاحظ هنا أنّ الأسباب التي تؤثر في إحداث الأشياء وإيجادها ليست محصورة الوجود في العلاقة بين الأشياء الطبيعية وحدها، بل أنّ صحة العلاقة بين الله وعبده هي أقوى الأسباب المؤثرة في إيجاد الأشياء وإحداثها، لأنّ الله هو السبب الأعمق، والعلّة القاهرة في هذا الوجود، ولهذا فإنّ التوكل سبباً للتوفيق الإلهي، وللتأثير على مجاري الأمور، كأي من الأسباب المألوفة لدينا. - التوكّل والمسؤولية: لعلّ فيما قدّمنا من بحث حول العلاقة بين التوكل واليقين والسببية، ما يساعدنا على فهم العلاقة بين التوكل كعقيدة واعتماد على الله وتفويض الأمر إليه، وبين المسؤولية الإنسانية كتكليف بالسعي، وبذل الجهد، والتعامل المباشر مع الأسباب والوسائل الطبيعية في الحياة. ولعلّ في وضوح هذه المفاهيم ما يرفع التعارض الظاهري المتوهم بين التوكل والمسؤولية، والذي أربك تفكير الكثير من المسلمين ودفعهم إلى القول بالإتكالية وحذف السببية، فنادوا ببطلان الأسباب الطبيعية، ودعوا إلى السلبية وتعطيل دور الإنسان، لأنّ الله كفيل بأنّ يُسيّر هذا الإنسان ويوفر له ما هو مقدّر له من غير أن يحرّك ساكناً، أو يبذل جهداً، وإذ ليس في الوجود أسباب مؤثرة حسب منطق هذا التفكير وتصوّره. وإنّ ما نشاهده من علاقة بين السبب والنتيجة إن هو إلّا اقتران ظاهري بالأشياء اعتدنا أن نشاهده في الحياة. وإنّ الحوادث التي نشاهدها في الطبيعة والمجتمع، من تفسيرات ونتائج متتالية في زمن الوجود، ومتجاوزة في مكان الحدوث، ما هي إلّا أحداث منفصلة بعضها عن البعض، ولا علاقة بينها، ولا تأثير لبعضها على بعض. فالحركة بزعمهم ليست سبباً للتغيير أو الحدوث، ولكنّنا اعتدنا أن نشاهد التغيير يقع مقارناً للحركة، وتعاون الأفراد لا علاقة له بانجاز الأعمال، والعمل لا علاقة له بتوفير الرزق، ولا شيء في الوجود يرتبط وجوده بغيره من الأسباب والوسائل ظناً منهم أنّ الإيمان بالأسباب الطبيعية يخالف اليقين بالله، ويدعو إلى الشرك مع الله. وكما أربك هذا الفهم الساذج والسطحي للعلاقة بين الأسباب والتوكل كثيراً من الإسلاميين، أوحى كذلك إلى غير الإسلاميين بإتهام الفكر الإسلامي بالسلبية والتحجر والإتكاليّة. ونظرة فاحصة متأملة في العقيدة والتشريع والمفاهيم الأخلاقية في الإسلام تكشف لنا مدى زيف هذا الإتهام، وتظهر لنا المسؤولية واضحة جلية بالنسبة للإنسان. فالشريعة الإسلامية بكامل بنيتها تقوم ردّاً على هذه السلبية، فهي شريعة التكليف والواجبات والأوامر والنواهي المسؤولية، فلا تحجر فيها ولا اتكاليةّ. وقد حدّد الإسلام مسؤولية الإنسان وموقعه من حركة الحوادث والوقائع كقوّة سببية مؤثرة في الوجود، عليه أن يؤدي دوره وواجبه، ويتحمل مسؤوليته، وقد توالت النصوص والمواقف الإسلامية، وتظافرت لتأكيد هذه الحقيقة. ففي القرآن الكريم نقرأ العديد من هذه النصوص المصرحة أو الموحية بدور الإنسان في الحياة ومسؤوليته نقرأ منها قوله تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات/ 24). ونقرأ في مواقع أخرى من القرآن الكريم ما يفصح عن هذا المفهوم، ويؤكد دور الإنسان وموقعه كقوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى) (النجم/ 39-41). (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15). (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال/ 60). وفي السنّة النبويّة المطهّرة نقرأ الحديث النبوي الشريف: "إنّ أصنافاً من أمتي لا يُستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو على والديه، ورجل يدعو على غريب ذهب بمال له ولم يشهد عليه، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله عزّ وجلّ تخلية سبيلها بيده، ورجل يقعد في بيته ويقول: ربّ ارزقني، ولا يخرج، ولا يطلب الرزق. فيقول الله عزّ وجلّ له: عبدي، ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب، والضرب في الأرض بجوارح صحيحة، فتكون قد اعتذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري، ولكيلا تكون كلّاً على أهلك، فإن شئت رزقتك، وإن شئت قتّرت عليك، وأنت غير معذور عندي"[2]. وجاء في الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق (ع) أنّ أحد أصحابه قال: جئته فقلت له: اُدعُ الله عزّ وجلّ لي في الرزق، فقد التأثت عليَّ أُموري. فأجابني مسرعاً: "أُخرج فاطلب". فمن هذه النصوص الإسلامية مجتمعة ندرك أنّ الإنسان هو المسؤول عن السعي وتحصيل حاجاته، وتحقيق النتائج التي يجب أن تتحقق في حياته، ولا يجوز له أن يكون اتكاليّاً بحجة التوكل والاعتماد على الله. فالنصر لا يأتي إلّا بالإعداد والجهاد، والرزق لا يحصل إلا بالسعي والكدح، وحفظ الحقوق لا يكون إلا وفق نظام وقانون في الحياة.. إلخ. وقد قرأنا في الحديث الآنف الذكر الاستنكار لطلب الرزق بلا سعي، وبلا استعمال الأسباب والوسائل الطبيعية في تحصيل العيش وتوفير الحاجة (فيقول الله: عبدي، ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة). كما قرأنا كيف ألقى الحديث اللوم على الإنسان الذي يضيع حقوقه لأنّه لم يؤدّ مسؤوليته كاملة وفق منطق القوانين والنظم الاجتماعية: (ورجل يدعو على غريم ذهب بمال له ولم يشهد عليه). ولعلّ خير من يوضح لنا الموازنة والعلاقة بين التوكل والمسؤولية، ما خاطب الله به نبيّه مبيناً واجبه في البحث والتحرّي من الرأي الصواب والموقف السديد، والقرار الحاسم ليؤدي مسؤوليته وفق نظام الحياة الطبيعي المعتاد، مقروناً بالتوكل والاعتماد على الله. قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159). فجعل البحث عن القرار السليم وتوفير العزيمة والإرادة شرطاً في التوكل والاعتماد على الله. فمن هذا البيان القرآني الحكيم نستنتج أنّ التوكل لا يصحّ إلا مع تأدية الإنسان واجبه كاملاً وبذا يكون لسلوكية التوكل طرفان: المسؤولية، والإعتماد على الله. ويستنتج من كلّ ما سلف أنّ الإسلام يعتبر دور الإنسان الإرادي وجهده الإنساني سبباً من الأسباب الطبيعية التي تدخل في سلسلة الحوادث فتؤثّر فيها، ولا يرضى له بالسلبية والانسحاب من الواجب الملقى على عاتقه تحت ظل مفهوم مشوّه عن التوكُّل، والاعتماد على الله سبحانه."وآخر دعوانا أنّ الحمد لله ربّ العالمين"
الهوامش:
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق