• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الجانب الأخلاقي في فلسفة الحكم عند الإمام عليّ «ع»

د. نوري جعفر

الجانب الأخلاقي في فلسفة الحكم عند الإمام عليّ «ع»

◄إنّ الاخلاق عند الإمام فكرة وسلوك في آن واحد: سلوك في العمل، والناس بنظره ثلاثة أصناف: "فمنهم المنكر للمنكر بيده وقلبه ولسانه فذلك المستكمل لخصال الخير. ومنهم المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده فذلك متمسك بخصلتين من خصال الخير ومضيّع خصلة. ومنهم المنكر بقلبه والتارك بيده ولسانه فذلك الذي ضيّع أشرف الخصلتين من الثلاث وتمسك بواحدة. ومنهم تارك الإنكار بلسانه وقلبه ويده فذاك ميت الأحياء". فالتوافق التام بين عقيدة الإنسان وبين قوله وعمله هو الغاية القصوى التي يدعو الإمام إلى غرسها في نفوس الناس. والعقيدة - بالطبع - هي الأساس الذي يستند إليه المرء في قوله وعمله.

فإذا سلمت العقيدة - من الناحية الخلقية -. سلمت الأقوال والأفعال المنبثقة عنها وبالعكس. ولا فرق عند الإمام بين فساد العقيدة وصلاحها إذا لم يكن السلوك - في القول وفي العمل - منسجماً معها في حالة سلامتها.

ومَن يدري فلعلّ العقيدة الفاسدة أقل ضرراً بالمجتمع من العقيدة السليمة التي لا تنسجم أقوال مَن يدعي أنّه يحملها مع أفعاله في المدى القريب على أحسن الفروض. ذلك لأنّ الناس يسلّمون مقدماً بفساد العقيدة - باعتراف صاحبها - فيحزمون أمرهم على مقاومته ومقاومتها بجميع الوسائل المتيسّرة لديهم.

أمّا المتظاهر بحمل عقيدة سليمة فليس من السهل إجماع الناس على مقاومته وبخاصّة إذا ما وجد مَن يبرز بعض أقواله وأعماله غير المنسجمة معها.

يتضح ذلك بأجلى مظاهره في صفوف الحكّام - القدامى والمحدثين - أكثر منه في صفوف الرعية. ولذلك سهلت مقاومة الحاكم الفاجر المكشوف وصعبت مقاومة الحاكم الفاجر المستور.

وقد وضع الإمام القاعدة الأخلاقية بشكلها السلبي لعلمه أنّ إنكار المنكر- باليد واللسان والقلب - معناه، من الناحية الإيجابية، التهيؤ لإشاعة غير المنكر فكرةً وقولاً وعملاً. على أنّ ذلك بنظره من أصعب الأمور.

"فما أصعب اكتساب الفضائل وأيسر اتلافها!!"، وما أصعب "على مَن استعبدته الشهوات أن يكون فاضلاً". ولكن إشاعة غير المنكر، مع هذا، أصعب من مقاومة المنكر في الأعم الأغلب. ومقاومة المنكر في اليد أصعب منها في اللسان، هي في اللسان أصعب منها في القلب.

ولهذا نجد الإمام يخاطب الناس بقوله: "إنّ أوّل ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم". وقد سمّى مقاومة المنكر جهاداً في سبيل الله يجاهد المسلمون به ولاة السوء كما يجاهدون المشركين.

وقد صدق ظن الإمام في هذا الباب كما صدق ظنّه حين قال: "يأتي على الناس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلّا رسمه ومن الإسلام إلّا اسمه، مساجدهم يومئذ عامرة من البناء خراب من الهدى، سكّانها وعمارها شرّ أهل الأرض: منهم تخرج الفتنة وإليهم تأوى الخطيئة". فقد لوثت السياسة "التي قاومها الإمام " منذ مصرعه إلى الوقت الحاضر فئة خاصّة من رجال الدِّين وأغدقت عليهم الجاه والمال والنفوذ والألقاب لمعاونتها في تثبيت مظاهر الفساد في الحكم وإيجاد مخارج "شرعية" لموبقات الحاكمين من جهة وصرف الناس عن التحدّث عن اعتداء الحكام على مبادىء الدِّين - والهائهم بوعظ تافه لا يمس جوهر الدِّين - من جهة أخرى.

ثم خصّ الإمام بالذكر الحاكم فقال: "مَن نصّب نفسه إماماً للناس فعليه أن يبدأ بتأديب نفسه قبل تأديبه غيره".

"وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسان» وإلّا "كان بمنزلة مَن رام استقامة ظل العود قبل أن يستقيم ذلك العود". لأنّ "الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر" وفاقد الشيء لا يعطيه كما يقولون.

والعمل الصالح الذي يقوم به شخص متواضع الحسب يرفع - بنظر الإمام - منزلة ذلك الشخص فيشرف حسبه وبالعكس.

فمن "أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه" و "شتان بين عملين، عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤنته ويبقى أجره".

"يصف العبرة ولا يعتبر. فهو على الناس طاعن ولنفسه مداهن". وإذا كان ذلك الخلق خطراً على كيان المجتمع "إذا اتصف به أفراد الشعب" فهو على كيان المجتمع أخطر إذا اتصف به الحاكم.

قال الإمام في هذا المعنى: "أنّي لا أخاف على أُمّتي مؤمنا ولا مشركاً: أمّا المؤمن فيمنعه الله بإيمانه وأمّا المشرك فيمنعه الله بشركه. ولكني أخاف عليكم كلّ منافق الجنان عالم اللسان يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون" فهو يريد من الحاكم أن يتبع ما أمره الله به في (سورة ص) حين قال: "يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحقّ ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله".

ثم عاد إلى الناس يخاطبهم فقال: "إياكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها. اجعلوا اللسان واحداً. ليخزن الرجل لسان فإنّ هذا اللسان جموح بصاحبه... إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه وقلب المنافق من وراء لسانه" وإنّ من "عدم الصدق في منطقة فقد فجع بأكرم أخلاقه". وما "السيف الصارم في كف الشجاع بأعز له من الصدق".

والعقيدة السليمة من وجهة نظر الإمام هي الإيمان بالله على الطريقة الإسلامية مع جميع مستلزماته من الناحيتين النظرية والتطبيقية العلمية.

وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع أن نقول: إنّ فلسفة الحكم عند الإمام تستند من حيث الأساس على وحدة الوسائل والغايات. وهي بهذا المعنى تمقت الانتهازية أو الوصولية بشتى صورها ومختلف مجالاتها. فلا يمكن على هذا الأساس أن يحقّق المرء غاية نبيلة باتباعه وسيلة فاسدة. وبالعكس.

لأنّ الوسائل الفاسدة ترافقها وتنتج عنها غايات فاسدة ووسائل أخرى فاسدة كذلك، وبالعكس، وإلى هذا المعنى يشير الإمام بقوله: "والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنّه يغدر ويفجر". والدهاء بنظر الإمام هو قراءة صفحة المستقبل في ضوء ملابسات الحاضر وإمكانية بالاستناد إلى الماضي القريب والبعيد.

أمّا الانتهازية وفساد الوسائل - مع فساد الغايات لأنبلها - والمداهنة والمصانعة ونقض العهد والكذب وأضرابها من الموبقات - التي تقترن عادة باسم معاوية في تاريخنا العربي - فليست دهاء بالمعنى الذي أشار إليه الإمام. وإلى ذلك يشير الإمام - من الناحية المبدئية العامّة - بقوله: "قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله فيدعها رأى عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدِّين".

إنّ فلسفة الحكم عند الإمام تستند من الناحية الأخلاقية إلى الفضيلة وتمقت الرذيلة. تُرى ما الفضيلة؟ وما الرذيلة بنظر الإمام؟ ومَن يعينهما؟ وما المقياس الذي يتخذه الشخص للتمييز بينهما؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة من وجهة نظر الإمام يمكننا أن نقول:

تتضمن الفضيلة كلّ عمل أو قول ينطوي - بطريقة مقصودة أو غير مقصودة - على الخير. أمّا الرذيلة فهي كلّ عمل أو قول ينطوي - بطريقة مقصودة أو غير مقصودة - على الشرّ.

والقصد أو عدمه - في القول أو العمل - سيان في عملية التمييز بين الفضيلة والرذيلة بمقدار ما يتعلّق الأمر بطبيعة العمل نفسه.

أمّا الفرق الكبير بين الفضيلة والرذيلة فيما يتصل بالقصد أو عدمه فيقع في تعيين مسئولية الشخص الذي يتعاطى فعلهما.

فالكذب رذيلة بغض النظر عن نية الكاذب أو قصده. والصدق فضيلة على الأساس نفسه. أمّا الخير الذي وصفنا الفضيلة بأنّها مشتملة عليه فهو كلّ عمل أو قول يشيع العدل بين الناس وينشر بينهم الأمن والطمأنينة ويشجّعهم على التعاون في خدمة مصالحهم الخاصّة ضمن إطار المصلحة العامّة لا خارجه أو على حسابه. ►

 

المصدر: كتاب فلسفة الحكم عند الإمام عليّ «ع»

ارسال التعليق

Top