◄التوبة باب مفتوح إلى الله، ويتطلّب من التائب أن يتحلَّى بالجرأة بالاعتراف بالذنب، والعزيمة على الاستغفار والرجوع إلى الله، وذلك ما يحمّله مزيداً من المسؤولية في تذليل كلّ العقبات أمام توبته، والتغلب على أهوائه وأنانيّاته، حتى تكون توبته مقبولة وناجمة عن إخلاص وإيمان، إذ لا يكفي أن يقول المرء «إنّي تائب» بلسانه، من دون التزام وعمل وسلوك يدلّ على توبته النصوح، ومن دون أن يعاهد الله ويعاهد نفسه على عدم اتباع الهوى والشيطان من جديد.
كثيرون يظنّون أنّ التوبة تدور مدار أفواههم، ويقولون بأنّهم تائبون من ذنوبهم، ولكنّ أفعالهم تخالف أقوالهم، فهم مصرّون على الذنوب، ويواظبون عليها، مع أنّهم يؤاخذون أنفُسهم أحياناً، ولكن من دون فائدة عملية، فقلوبهم غير نادمة، وجوارحهم للذنوب مقترفة، ولم يتّخذوا قراراً حاسماً بنبذ الذنوب وهجر المعاصي.
ويحدِّد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) كيفية التوبة ومفاتيحها، والطُّرق التي لابدّ من ولوجها، كي يصبح المرء فعلاً من التائبين، حيث يقول: «التوبة ندم بالقلب، واستغفار باللّسان، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود».
فالقلب لابدّ من أن يعيش الندم على الذنب؛ الندم العملي الذي يشعر المرء بعظيم ما ارتكب، ويدفعه إلى الحذر من الاقتراب منه من جديد، الندم الذي يخلق إنساناً مترفّعاً يعي عظيم معصيته.
واللّسان لابدّ له من أن يتحرّك بالاستغفار، ويدفع بصاحبه إلى رفض كلّ أشكال الذنوب، كما أنّ الجوارح تسعى جدّياً إلى ترك النظرة الحرام، واللّقمة الحرام، والعمل الحرام، والسرقة والكذب والغشّ والنميمة والغيبة والرذائل والمفاسد، وتترك الموقف الحرام الذي يبايع الباطل، وتترك التحرّك بالفتنة بين الناس ونشر الفوضى في أوضاعهم.
ومن التوبة الحقيقية، أن يضمر المرء في نفسه ويقرّر بكلّ ثبات وعزيمة، رفضه الذنوب وعدم عودته بالمطلق إليها، وتحت أيّة ضغوطات. ما تقدَّم هو مسلَّمات ومبادئ تتحقّق من خلالها التوبة التي أرادنا تعالى أن نتميّز بها كمؤمنين معاهدين لله، مخلصين له، طائعين متّصفين بالحكمة والمسوؤلية والأمانة والوعي، نعيش التوبة حرّيةً وإرادةً وخلقاً وثباتاً. من هنا، علينا أن نفتّش عن كلّ الوسائل التي تجعل من قلوبنا قلوباً نادمة، ومن ألسنتنا ألسنة صادقة مستقيمة، ومن جوارحنا جوارح عاملة في طاعة الله، ومن نفوسنا نفوساً معاهدة لله أن تخلص له في السرّ والعلانية.
التوبة تصحح لك نفسك وتغيّرها، وتجعلك تصنع نفسك صناعة جديدة؛ الآن قبل غد، وغداً قبل بعد غد: «حاسبوا أنفُسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا». وإذا تبت إلى ربّك وعرف الله منك صدق التوبة وأنّها التوبة النصوح، فسوف يحبّك، (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) (الشورى/ 25)، و(يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) (البقرة/ 222)، وما أحلى أن نحصل على محبّة الله. إنّ حلاوة محبّتنا لله وحلاوة محبّة الله لنا هي السعادة كلّ السعادة، هي اللّذة كلّ اللّذة، هي الخير كلّ الخير، ولذا لا قيمة لحبّ الناس لنا مقابل حبّ الله، لأنّ حبّ الناس زائل، بينما حبّ الله يمنحنا رضوانه وقربه وجنته، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين/ 26).
وفي الحديث عن الإمام الصادق (ع) قال: «إذا تاب العبد توبة نصوحاً أحبّه الله فستر عليه في الدُّنيا والآخرة»، فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: «ينسي مَلَكَيه ما كتبا عليه من الذنوب، ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه - فلا تشهد عليه يده أو رجله أو لسانه - ويوحي إلى بقاع الأرض - لأنّ كلّ أرض تعصي الله فيها تشهد عليك، وكلّ أرض تطيع الله فيها تشهد لك - اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب..».
وعن أحد أصحاب الإمام الصادق (ع) يقول: سألت أبا عبدالله (ع) عن قول الله عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)؟ قال (ع): «يتوب العبد من الذنب لا يعود فيه..»، وورد عن أحد أصحابه أيضاً يقول: قلت لأبي عبدالله (ع): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا)؟ قال (ع): «هو الذنب الذي لا يعود فيه أبداً»، قلت: وأيّنا لم يعد؟ فقال: «يا أبا محمّد، إنّ الله يحبّ من عباده المفتن التوّاب..».►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق