أ. مرتضى مطهّري ترجمة: علي هاشم
قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ...) (الأنعام/ 153).
من أجل التعرف على منطق المعارضين والمستشكلين، ومن أجل أن نكون قادرين على تحليل مقولا تهم وجواب اشكالاتهم، نذكر ملخّصاً لكلامهم. قد قلتُ انّ هذه الشريحة الاجتماعية التي نطلق عليها صفة الجهل لها كلام يجري على لسان أفرادها. أنّهم يقولون: إنّ هذا العالم هو عالم التغيير والتطور والحركة، ولا شيء يظل على وتيرة واحدة في لحظتين متفاوتتين، ولا ثبات له بالمعنى الحقيقي للثبات... ويردفون قائلين: بما انّ الأشياء في تغيير وتطور فإنّها فاقدة لقابلية البقاء والاستمرارية. وكل ما في الوجود وجوده مؤقت ومحدود وغير ثابت. بعد ذلك يخرجون علينا بهذه النتيجة من خلال تساءلهم: فكيف يمكن للإسلام أن يبقى إلى الأبد، ويكون صالحاً لكل زمان؟ أقول: إنّ الذي أضفوا عليه صبغة فلسفية: ينطبق على الأشياء المادية، أي انّ الأشياء المادية فقط قابلة للتغيير والبلى، وكل جسم من الأجسام المادية هو كذلك، لكن كلامنا لا يدور حول الأجسام. ولو ادّعى أحد بالخلود المادي فيكون الكلام المطروح مناسباً له في هذا المجال، أو قال أحد بخلود أوراق القرآن كما كانت، فالكلام معه صحيح ومناسب، لكن الكلام لا يدور حول الشخص بمواصفاته المادية، أو حول الورق والحبر، بل الكلام يدور حول القانون، وحول عدد من الحقائق لا سبيل إلى انكارها البتة. إنّ الأشياء المادية في العالم تبلى، فما هي علاقتها بحقائق العالم؟ فمثلاً نقول: إنّ في الصدق رضا الله، أو انّ الاستقامة صفة محمودة في الإنسان. فهذه حقائق ثابتة، وقانون لتنظيم حياة البشرية، غير قابل للتبدل والتغيير. ولكن قلنا: ان هناك موضوعاً آخر يرتبط بحاجات الحياة حيث انّ الحاجات تتبدل وتتطور، وبما انّها تتبدل فالقوانين يجب أن تتبدل في ضوئها. إنّ من خصائص الدين الإسلامي انّه ركّز على الحاجات الأساسية والثابتة وضاعف من صفة ثباتها، وجعل الحاجات المتغيرة تابعةً لها. وهذا باعتقادي من اعجازات هذا الدين العظيم. وسأوضّح هذا الموضوع من خلال الأمثلة التي أذكرها، ولكن قبل التعرض له، هناك مقدّمة قصيرة انوّه عليها وهي: إنّنا نحن اتباع أهل البيت – عليهم السلام – نتفوق على غيرنا من اخواننا المسلمين بوجود امتيازات نتمتع بها، أي: اننا نحظى بنعم ليست عند غيرنا. اننا واخواننا نشترك بوجود القرآن والسُنّة، ولكن هؤلاء لا يتجاوزونهما، أي: لا يرجعوا إلى مصادر أخرى غيرهما، امّا نحن فنتميز عليهم باعتقادنا بوجود الأئمّة المعصومين الذين هم امتداد طبيعي لصاحب الرسالة (ص)، وهم المصادر الموثوقة والغنيّة المغنية التي نرجع لها لأخذ كل ما نريد من أحكام. كم عاش النبي (ص) بعد البعثة؟ لقد عاش ثلاث وعشرين سنة، قضى منها ثلاث عشرة سنة في مكّة، والباقي في المدينة. وكان كلامه وفعله وتقريره سُنّةً ومصدراً للأحكام. ولا يخفى فإنّ الزمن الذي نتحدث عنه هذه الليالي، وكان مجموع سنينه ثلاث وعشرين سنة قد شهد تبدلات وتطورات كثيرة، فكان الوضع في مكّة شيئاً، وفي المدينة شيئاً آخر. وفي مكة نفسها كان وضعها قبل وفاة أبي طالب وخديجة غير وضعها بعد وفاتهما – عليهما السلام –. وكان الوضع في السنين الثلاث الأولى من البعثة غير الوضع الذي كان بعد نزول قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر/ 94)، حيث انّ النبي (ص) اتّخذ أسلوباً آخر في العمل. ولنا تقسيمنا الخاص بنا للفترة التي عاشها النبي (ص) ولعامّة المسلمين تقسيمهم. فهم يقولون مثلاً في صدد تقسيم الفترة التي عاشها النبي (ص) بعد البعثة: من السنة الأولى للبعثة حتى إسلام عمر... ويعتقدون انّ الأوضاع قد تغيّرت بعد إسلامه، ونحن نذكر إسلام حمزة ونقول: كان المسلمون في وضعٍ حرج للغاية قبل إسلامه، أمّا بعد إسلامه فقد قويت شوكتهم واشتدت عزيمتهم، علماً أن اخواننا المسلمين يقرّون باسلام حمزة وتأثيره. وعندما قويت شوكة الإسلام حدثت تغييرات كثيرة في أساليب العمل. وكذلك الوضع في المدينة فيقسم إلى ما قبل معركة بدر وما بعدها، وما قبل فتح مكة وما بعده. وخلال تلك المدة التي بلغ مجموعها ثلاث وعشرون سنة طرأت تغييرات متعددة، وحدثت تطورات كثيرة، وكانت ظروف المسلمين تختلف من فترة إلى أخرى، ولكن مجموع سنين تلك المدة كانت ثلاث وعشرين سنة هي المدار عند غيرنا، امّا بالنسبة إلينا أتباع مدرسة أهل البيت – فأنّ المدة لا تقتصر على تلك السنين رغم عظم عطائها، لأنّنا نعتقد إنّ مرحلة العصمة بلغت (273) سنة، حيث إنّ ثلاث وعشرين سنة منها كانت في عصر النبي (ص)، وهذا ما نتفق به مع عامّة المسلمين، أمّا السنون الباقية – وهي مائتا وخمسون سنة اعتباراً من السنة العاشرة للهجرة حتى سنة مئتي وستين حيث وفاة الإمام العسكري – عليه السلام – الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت – عليهم السلام – فهي تخصّنا ولا تخصّهم. إنّ المئتي والخمسين سنة في مرحلة العصمة – أي مرحلة الامام المعصوم الظاهر الذي تعتبر سيرته حجةً لنا – تدخل ضمن تقسيمنا، ولها ميزتها الخاصّة بها، أمّا عامّة المسلمين من غير أتباع أهل البيت فانّ المدار عندهم تلك المدّة أي ثلاث وعشرين سنة، فقط وفيها يعتقدون بحجيّة السيرة النبوية الشريفة. وقد ذكرت انّ تقلّبات كثيرة قد حصلت في تلك المدّة التي عاشها النبي (ص)، وكذلك قد حصلت مثلها بل أكثر منها بكثير خلال المدّة المتبقيّة من مرحلة العصمة: أعني: خلال المائتي والخمسين سنة. ولا يخفى فانّ لتلك المدة عظيم العطاء لنا حيث انها عالجت كثيراً من المعضلات، وقدّمت أنجع الحلول بالنسبة إلى متطلّبات العصر. واستطيع القول انّ اعتبار هذا الأمر من صميم اعتقادنا أغنانا عن استجداء الحلول لكثير من المشاكل التي طرأت وتطرأ. انّ الأئمة واكبوا تطورات العصر، وكانوا بالمستوى المطلوب بالنسبة إلى متطلباته. ولعلكم تصادفون أحياناً انّ سيرة بعضهم قد اختلفت عن البعض الآخر، وهذا بسبب الظروف المختلفة التي عاشوها، فمثلاً الإمام الحسن يصالح، في حين الإمام الحسين يقاتل. وهكذا بقيّة الأئمة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى وضعهم في حياتهم الخاصة وأسلوب معيشتهم. فمثلاً نجد الإمام عليّاً (ع) يكتفي من لباسه بطمريه، في حين كان الإمام السجاد (ع) يرتدي لباس الخز، وكان يهيىء لنفسه ثوباً منه كل عام. والحال انّ هذين اللونين من اللباس لم يلاحظا في سيرة النبي (ص). "جاء في الكافي انّ سفيان الثوري دخل ذات يوم على الإمام الصادق (ع) فرأى عليه ثياب بيض كأنها غرقىء[1] البيض. فقال له: انّ هذا اللباس ليس من لباسك، فقال له: اسمع منّي وعِ ما أقول لك فإنّه خيرٌ لك عاجلاً وآجلاً إن أنت متّ على السُنّة والحق ولم تمت على بدعة أُخبرك أنّ رسول الله (ص) كان في زمان مقفر جدب فأمّا إذا أقبلت الدنيا فأحقّ أهلها بها أبرارها لا فجّارها ومؤمنوها لا منافقوها ومسلموها لا كفّارها فما أنكرت يا ثوري فوالله انني لمع ما ترى ما أتى عليّ مذّ عقلت صباح ولا مساء والله في مالي حقٌّ أمرني أن أضعه موضعاً إلا وضعته. قال: فأتاه قوم ممّن يظهرون ويدعون الناس أن يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشف، فقالوا له: إنّ صاحبنا حصر عن كلامك ولم تحضره حججه. فقال لهم: فهاتوا حججكم، فقالوا له: إنّ حججنا من كتاب الله فقال لهم: فادلوا بها فانّها أحقّ ما اتّبع وعمل به..."[2]. وبعد أن قرأوا عليه آيات من القرآن الكريم أجابهم – سلام الله عليه – فأفحمهم، ولم يقدروا على الجواب. واستنبط من كلامهم انّ النبي (ص)، وأمير المؤمنين (ع) والصحابة، لم يلبسوا مثل هذه الثياب. فأجابهم بلسان حاله: انّ هذه القضيّة لا ترتبط بالإسلام، وإنما بالزمان وتطوراته، ولو كنتُ في زمن النبي (ص) للبست مثل لباسه، وكذلك لو كان هو في زماني للبس مثل لباسي. فالأصالة في الإسلام للمواساة أي: أن يواسي المسلمون بعضهم بعضاً. والمسلم الحقيقي هو الذي يدفع ما عليه من حقوق واجبة. وهذا أمر ثابت غير قابل للتغير مع تغير الأزمنة والعصور. وينبغي أن يكون اعتماد المؤمن على الله لا على المال، وهذا هو المعنى الحقيقي للزهد. ممّا لا يخفى انّ الوضع العام للناس في عهد النبي (ص) كان شديداً وعسيراً، وكلّنا قرأنا في التأريخ انّ الجيش الإسلامي في غزوة تبوك عرف بجيش العُسرة مع ان تعداده كان ثلاثين ألفاً لشدّة ما عاناة من عُسر وضيق وقلّة في الارزاق حتى ضعفت القلوب، وتفادياً لهذا الضعف كان الثلاثة والأربعة يتقاسمون في تمرة واحدة لاشباع بطونهم. وفي معركة بدر كان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر، ولم تتجاوز سيوفهم الأربعين، وكانت لهم ثلاثة أو أربعة من الخيول، في حين كان عدد المشركين بين التسعمائة والألف، وكانوا ينحرون عدداً من الابل كل يوم طعاماً لهم. وكان أهل الصفة في وضع يُرثى له حيث وصل حالهم حدّاً كانوا يتناوبون فيه على لباس واحد لتأدية الصلاة.. وقرأنا كذلك انّ رسول الله (ص) دخل بيت فاطمة ذات يوم فوجد ستارة معلّقة، فرجع. ولما علمت الزهراء بذلك، أنزلتها، وكذلك نزعت سواراً من فضّة كان في يدها، فقدّمتها إلى النبي (ص) لينفقهما على الفقراء. فعامل الزمن يلعب دوره حيث كانت المواساة تقتضي مثلاً ان تبقى ستارة في البيت لأنّ ظروف الفقر والبؤس كانت تفرض ذلك، أمّا اليوم فقد تبدل كل شيء في حياة الناس لكن لا يعني هذا الغاء مبدأ المواساة، كما لا يعني الخروج عن حدّ الاعتدال، وعندما أقول: تبدل كل شيء، فانّي أقصد انّ الحالة ليست هي الحالة التي كان عليها المسلمون في الصدر الأوّل بحيث تستوجب عدم بقاء الستارة في البيت مثلاً.. وحينما أرتدي لباساً فانّما أرتدى لباساً ملائماً يتناسب وهذا العصر.. وبعبارة أخرى: لا أصالة للملبس أو المأكل في الإسلام، ولا يفرض الإسلام على اتباعه أن يرتدوا نوعاً معيّناً من اللباس بل له تعليماته الخاصّة به التي في ضوئها يكون الملبس أو المأكل مثلاً. وهذه التعليمات مبادىء ثابتة توجّه الإنسان كيف يكيّف نفسه مع التطور، وكيف يمارس عمله، وكيف يؤدي مسؤوليته.. ولو كانت هناك أصالة لشيء من الأشياء وفق الرؤية الإسلامية، فهو غير قابل للتغيير والتبدل. فالثابت في الإسلام هو الأصول والمبادىء، والمتغير هو كيفية تنفيذ تلك الأصول والمبادىء. وهذا ما يخضع لتطورات العصر التي تلعب دورها في تبديل صور التكليف، ولو لم يكن هذا، ولو كانت هناك أصالة لهذه القضايا الجزئية، فمن المستحيل أن يمارس الإمام علي (ع) أسلوباً في العمل يختلف عن غيره من الأئمة.. وهناك مفردات تجسّد الأصالة للقضايا الأساسية الثابتة التي لا تتبدل بفعل تطورات العصر ومتطلباته، مثل عبادة الله تعالى، والخوف منه، ومواساة الفقراء وتفقدهم... وما إلى ذلك، وفي هذا الأمر يتساوى الإمام علي (ع) مثلاً مع الإمام السجاد (ع)، فقد كان الإمام أمير المؤمنين (ع) مشغولاً في العبادة من أوّل الليل حتى الصباح، وكان يصلّى في بعض الليالي ألف ركعة، وكذلك كان الإمام السجاد (ع)، والإمام الرضا (ع) فكلهم كانوا يتفقّدون الفقراء... وهذا مبدأ ثابت وله أصالته ولا يتبدل بفعل التطورات والمتطلبات، ولكن أي نوع من اللباس يلبس الإنسان، فهذا يرتبط بالتطورات الحاصلة في كل زمان. ينقل الكليني في الكافي[3] عن معلّى بن خنيس "قال: خرج أبو عبدالله (ع) في ليلة قد رشّت[4] وهو يريد ظلّة بني ساعدة فاتبعته فإذا هو قد سقط منه شيء فقال: بسم الله، اللّهمّ ردّ علينا، قال: فاتيته فسلّمت عليه. قال: فقال: معلّى؟ قلت: نعم جُعلت فداك. فقال لي: التمس بيدك فما وجدت من شيء فادفعه إليَّ فإذا أنا بخبز منتشر كثير فجعلت ادفع إليه ما وجدتُ فإذا أنا بجراب اعجز عن حمله من خبز. فقلت: جعلت فداك احمله على رأسي. فقال: لا أنا أولى به منك ولكن امض معي. قال: فأتينا ظلّة بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام فجعل يدسُّ الرغيف والرغيفين حتى آتى على آخرهم ثمّ انصرفنا، فقلتُ: جعلت فداك، يعرف هؤلاء الحق فقال: "لو عرفوه لواسيناهم بالدُّقّة"[5]. فهذه القصّة وأمثالها لا تتعلق بعصر دون آخر، لأنها تترجم لنا المواساة، والمواساة لا تخصّ زمناً دون آخر، بل هي في كلّ الأزمنة والعصور. لماذا عقد الإمام الحسن (ع) الصلح مع معاوية؟ ولماذا قاتل الإمام الحسين (ع) يزيد؟ وأمثال هذه الأسئلة المثارة، ولا أدري لماذا نناقش أسلوب هذين الإمامين في العمل فقط، فلو رجعنا إلى الوراء قليلاً، لننظر لماذا لم ينهض الإمام علي بن أبي طالب (ع) في عصر الخليفة الأوّل أو الثاني أو الثالث؟ ولكن بعد الخليفة الثالث عندما جاءه المسلمون وبايعوه وقف بكل حزم ولم يهادن. فمصلحة الإسلام هي الأهم عند علي بن أبي طالب، والاصالة وفق المنظور الإسلامي هي للدفاع عن الإسلام والمحافظة عليه، وهذا الموضوع مقدّم على كلّ شيء، وله أولويّته. وكانت المصلحة الإسلامية تقتضي أن يستتب الأمن والهدوء، وأن لا يكون هناك أي شرخ داخلي من شأنه أن يضعف الحكومة الجديدة بعد وفاة الرسول محمد (ص)، لا سيما وقد هدّدت كيانها أخطار، كان عليها أن تواجهها بحزم وصلابة.. مثل فتنة المرتدين التي يجب على الحكومة الجديدة أن تكون بالمستوى المطلوب لاخمادها. وكذلك هناك الوافدون على المدينة من نقاط بعيدة حيث تنعدم عندهم المقاييس الصحيحة في التقويم فلا يفرّقون بين هذا وذاك.. كلّ هذه وأمثالها تقتضي أن تكون المصلحة الإسلامية هي الأهم، وان تقدّم على كل مصلحة بالرغم من الانحراف الذي طرأ. وكان الموقف يتطلب من عليّ محاربة معاوية، وبالفعل فقد حاربه.. ويأتي بعد ذلك دور الإمام الحسن (ع)، وإذا بها مرحلة عصيبة زاخرة بالمحن المرّة التي كانت وليدة الأحداث الكثيرة التي ظهرت في عصر أبيه. وابتُلى بأصحاب ضعاف النفوس، خائري الإرادة، ولو كان قد قاتل معاوية لقتل قتلاً غير مشرّف ليس كقتل أخيه سيد الشهداء، الذي قدّم نفسه الزكيّة مع اثنين وسبعين من أصحابه البررة حتى استشهد شهادة شرف وفخر واعتزاز.. ولا زالت دماؤهم الطاهرة تسقي شجرة الإسلام. لقد ظهرت على أتباع أهل البيت (ع) في عصر الإمام الحسن (ع) حالةٌ الارتخاء والفتور والضعف والتعب بحيث لو خاض المعركة مع معاوية لخسر الجولة، ولسُلّم مكتوف الأيدي إلى طاغية الشام، ويا له من ذُلّ! لا سيما وان معاوية لم يظهر من القسوة والظلم شيئاً تلك الفترة حتى يمتعض منه الناس ويحاربوه.. ولكن حينما غصب الخلافة وحكم عشرين سنة، وولّى المغيرة بن شعبه وزياد بن ابيه على الناس، يجورون ويحيفون عليهم حتى ذاقوا شتى ألوان المحن والويلات منهم، عند ذلك عرف الناس من هو معاوية، ومن هو علي، وعضّوا على أناملهم ندماً وحسرة على ما فرّطوا في جنب علي ولم يلبّوا دعوته، وتألموا على تقصيرهم بحقّه وحق ولده المجتبى، وولده سيّد الشهداء... ولذلك قامت انتفاضات كثيرة بعد واقعة الطف، ومنها انتفاضة التوّابين الذين التفّوا حول المختار. ولعلّ تشخيص الناس لحقيقة الحكم الأموي في عصر الإمام الحسن، كان من العوامل المساعدة على ثورة الإمام الحسين (ع) وإضافة إلى ذلك فإنّ يزيد كان يختلف عن أبيه معاوية. حيث كان معاوية قد مارس أسلوب النفاق والمراوغة في سياسته، امّا يزيد فقد أظهر الكفر علناً. وكان معاوية يغطّي على أعماله المشينة، فلم يشرب الخمر علناً، ولم يهارش الكلاب علنا، امّا يزيد فقد كان شاباً نزقاً ما جنّاً خليعاً لم يحسب للأمور حسابها وكيفما تكون فالناس يسمّونه خليفة رسول الله. وكان يشرب الخمر علناً حتى الثمالة، وينال من النبي (ص) بمحضر من الناس، فلو لم تكن كربلاء، ولو لم ينهض الإمام الحسين – تلك النهضة العظيمة التي آلت إلى سقوط يزيد فيما بعد، والذي لو ظلّ لحكم مثل أبيه عابثاً بالحكم مدة طويلة – لما كان للإسلام وجود.. فالظروف كانت تختلف من عصر لآخر.. وما قام به الإمام الحسن (ع) قام به الإمام الحسين (ع)، وكذلك ما قام به الإمام الحسين (ع) قام به الإمام الحسن (ع) ولم يتغير الّا أسلوب العمل امّا الموقف فهو واحد، والروح واحدة.. هذان مثالان وددتُ أن أطرحهما في هذا المجال. الهوامش:[5]- الملحّ.
المصدر: كتاب الإسلام ومتطلبات العصر
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق