• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مشروعية الأحزاب في ضوء الإسلام

د. نسيم الرضوي

مشروعية الأحزاب في ضوء الإسلام

◄يختلف مفهوم الحزب في الإسلام عن مفهومه في العرف السياسي، ولعل أقرب مصطلح له في العرف السياسي هو التكتل والتجمع، ومقومات كلّ واحد منهما يختلف عن الآخر، فالإسلام أساساً يدعو إلى التوحد ويرى في ذلك قوة كما الواقع والحقيقة، وما ورد في ذم الأحزاب إنما هو المراد به على المصطلح الحديث "التحزب"، وقد استعملت الكلمة في حالة افرزتها واقع العقائد، فأصبح الحزب يطلق على من يختلف عنه في المعتقد، فاطلق حزب الشيطان على من اتبعوا الشيطان وحزب الله على من اتبعوا الله جلّ وعلا، وعندما يتم الحديث في النصوص الإسلامية الأصيلة وتفسيراتها عن الحزب، فإنما يطلق على المعتقد ولذلك لا يوصف اتباع الملة الواحدة بالحزب، فالحزب إذا ما اختلف عن الآخر بالمعتقد جذرياً، وأما بين أبناء الملة الواحدة فلا تشمله الكلمة.

وعلى أيّة حال فالنزاع لفظي من جهة وحقيقي باعتبار انّ للكلمة حقيقة شرعية أي مصطلح شرعي، وبحث هذه المسألة في الأصول باب مباحث الألفاظ، وأما بالنسبة إلى ما ورد في حقيقته فإنّ الإسلام يدعو كما أسلفنا إلى التوحد ولذلك قيد الأُمّة من اتباع النبيّ محمد (ص) بالأُمّة الواحدة، ونادى بالاعتصام بالحبل الواحد ونبذ التفرق، ومن ناحية أخرى فإنّ الحزب في الوجهة الإسلامية لا يمكنه أن يكون مشرّعاً كما في الأحزاب الغربية أو غير الإسلامية، نعم له الحقّ في أن يقنن (يؤطر) تلك التشريعات التي صدرت من الله، واختيار سبيل وأسلوب تطبيقها، والتدرج في التعامل معها على أرض الواقع، وذلك لقوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة/ 44)، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة/ 47)، فالحكم لابدّ وأن يكون بما أنزله الله، وفي ذلك لا يختلف علماء المسلمين وفقهاؤهم، نعم يبقى بعض المساحات التي للحزب أو التكتل أن يتعامل معها منها استنباط القوانين من الأصول والكليات وهذا هو الاجتهاد وعندها لابدّ أن يراعى في ذلك ما يراعى في الاجتهاد ولو على الشكل المؤسساتي.

وهناك مجال آخر وهو السباحة في فضاء المباحات وتقنينها حسب مصالح العباد والبلاد وهذا يحتاج إلى إذن حاكم الشرع أو إشرافه أو المصادقة عليه فيما إذا تجب التجاوز من أحد الأحكام الخمسة: (الواجب، المحرم، المستحب، المكروه، والمباح) إلى آخر، وأما إذا كان في مجاله فلا حاجة ما سبق وأشرنا إلى ذلك، نعم هناك مجالات غير مغلقة ما يناسبهم شرط أن لا يخالف أي جانب من جوانبها الأحكام الشرعية، وللمثال اختيار الانتخابات كلّ ثلاث سنوات أو أربع سنوات، أو تقسيم المناطق الانتخابية إلى عشر أو خمس، أو ما شاكل ذلك.

ومنها مايرتبط حكمه بالكليات حيث ورد حكم الشرع فيه بنحو كلي كما في كلِّ ما يضر الإنسان أو البيئة حرام فتصل مراكز التحليل مثلاً إلى أنّ ضرر الدخان بالغ فعندها يجوز منع التدخين، ومنها ما يرتبط بتشخيص الموارد كما في الموسيقى والغناء، والذي يعبر عنه المتشرعة بالموضوعات، فإنّ الموضوع على المشهور ليس من اختصاص الحاكم الشرعي.

نعم هناك حالات أخرى يمكن أن يستفاد منها في هذا المجال وهي:

1-  أن يؤسَّس التكتل للسهر على تطبيق القانون الإسلامي، وملاحظة الاختراقات باعتبارات لتكون صمام أمان لا يقدر الحاكم أو المؤسسة الحاكمة على التفرد بالرأي أو الانحراف أو التقوقع في الذات الشخصية أو المؤسساتية.

2-  أن يؤسّس التكتل على أساس كثرة الاختراقات أو الانحرافات لتكون في الواقع حركة معارضة تقوم على مسألة المطالبة بالحقوق من جهة ووضع حل للاختراقات أو الانحرافات من جهة أخرى.

3-  أن يؤسَّس أثر وجود أحزاب أخرى في بلد قوامه على ذلك، حيث لا يصل المرء إلى الحكم الإسلامي إلا عن هذه الطريقة ولو بشكل جزئي كما هو الحال في أكثر البلاد الإسلامية، بل في البلاد الغربية.

4-  أن يؤسَّس الحزب أو التكتل على قاعدة شعبية مختلفة المذاهب والأعراق كما في لبنان مثلاً، والتعددية الحزبية تأتي في إطار الحصول على النصيب الطبيعي لصالح الإسلام والمسلمين من حيث تعدد الآراء والمقاعد.

5-  أن يؤسَّس التكتل على أسس قومية لا في الإطار الذي يعرف به اليوم بل في إطار الأعراف والتقاليد واللغة وما إلى ذلك من خصوصيات تلك القوميات، وإلا فإنّ الإسلام يرفض التفاضل القومي إذا لا فرق بين عربي وعجمي ولا أبيض وأسود إلّا بالتقوى.

6-  أن يؤسَّس التكتل كما هو الحال في التكتلات النيابية التي تقوم على الأقاليم.

7-  أن يقوم التكتل على تنسيق الأحكام الشرعية في قطاعاتها المختلفة ومجالاتها المتنوعة لتختار منها ما هو الأنفع أو الأسهل للأُمّة على ضوء معطيات تجدها الأهم كخلفية اقتصادية أو سياسية أو ما إلى ذلك، وهذا قد يشمله أدلة الأخذ بقول الأعلم في كلِّ مسألة أو التبعيض في التقليد.

8-  أن يؤسَّس لأجل ضرورة الأحكام الثانوية في بلاد أو زمان معيّن يقتضي ذلك، ولابدّ أن تكون التكتلات أو الأحزاب من أهل الحل والعقد لتتمكن من تشخيص الضرورات وعرض وجهات النظر إلى المؤسسة المرجعية الحاكمة.

ولا تنحصر في هذه إلا انّها العموميات.

وأمّا مسألة تكتل المهاجرين والأنصار، فكانوا من الموارد التي ذكرناها، ولم يكن بالمعنى الحزبي المتعارف عليه اليوم.

ومن المسلَّم انّ الإسلام لا يريد التفرق أو التحزب كما سبق وأشرنا، وانّما يحاول الحث على التنافس نحو الخير (.. وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين/ 26)، وأمّا مسألة الأخوة التي طبقها الإسلام في عهد الرسول (ص) مرتين للتكاتف ضمن مجتمع متعدد الاتجاهات كالمهاجرين والأنصار من جهة والطبقي كالغني والفقير من جهة والرفيع والوضيع من جهة والأبيض والأسود والعربي والعجمي، مما يدل على أنّ كلَّ ما من شأنه التفرق والتحزب مذموم مرفوض، فلابدّ أن لا تؤدي نتائج التكتلات إلى التفرقة والصراع، ولكن اختلافهم في فهم واقع الحياة وأسلوب التطبيق، وحتى مسألة فهم النصوص التي لم ينه الرسول (ص) في حياته عندما اختلفوا في الأمر الذي أوصاهم به بالنسبة إلى صلاة في سفرهم إلى بني قريضة، فهذا مما يحبذه الإسلام لأنّ فيه سعادتهم، ومن هنا جاء بعض التفسيرات لقوله (ص): "اختلاف أمتي رحمة"، فالخلاف إنما للوصول إلى الأفضل وليس الخلاف للخلاف ولا للتفرقة والضعف: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال/ 46)، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران/ 103)، حتى لا يكون شيعا يستضعف طائفة.

وأما آية: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104)، فإنها لا تدل على المفهوم الحزبي عند الغربيين بل تأتي في سياق التخصص وتوزيع الأمور كما لو قال فلتكن منكم أمة تريد الحكم، ولتكن منكم أمة تصنع أو تزرع.

وأمّا مسألة السبق والرماية، فهي إحدى الوجوه التي ذكرناها ويشملها بالإضافة إلى الأدلة الخاصة قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (الواقعة/ 10-11)، التي تنخرط في تنمية القدرات والتنافس إلى الأفضل.

وأما قول الرسول (ص): "أنا في الحزب الذي فيه ابن الأدرع" – راجع مستدرك وسائل الشيعة: 2/ 516 كتاب السبق والرماية حيث وجد (ص) أصحابه منقسمين إلى مجموعات وهم منشغلون باجراء مسابقة فيما بينهم –، فهو يرشدنا إلى المراد بالحزب والحزبية في ذلك العهد الشرعية، وبذلك وردت روايات كثيرة وتخللت الكلمة في الأدعية والزيارات بل موارد الآيات من هذا النحو بل ربما كان أعم منه.

وأما ما درج اليوم من انّ الحزب يجمع من خالف المسلمين في العقيدة كالمسيح واليهود أو غيرهما، بل وانتخابهما للرئاسة والعضوية، فهو لا يصح لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ...) (المائدة/ 51)، نعم يجوز ذلك في عداه، أو أن يكون لهم تكتل ديني لشؤونهم في الدولة الإسلامية وهي إحدى الموارد التي ذكرناها.

وأمّا مسألة اختلاف الرأي والنظر فهو أمر طبيعي في حياة البشرية كما في قوله تعالى: (ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) (الكهف/ 12) في قصة أصحاب الكهف، ولكن لابدّ أن لا يصل اختلاف الرأي إلى العصبية العمياء فيرى كلِّ حزب بما لديهم فرحون ولا يرى للآخر رأيا.

والحاصل انّ أصل التكتل مما يحسنه العقل فيما إذا كان فيه مصلحة العباد وبما لا يخرجه عن طاعة المعبود، وقد روي عن الإمام جعفر الصادق (ع): "انّ الله فوَّض إلى المفوّض أمره كله" (سفينة البحار: 7/ 160).

وإذا اعتبرنا من التكتل تلك المعارضات التي ظهرت في عهد الإمام عليّ (ع)، فإنّه لم يناقشهم على أصل التكتل بل عارضهم على حملهم السلاح وقطعهم الطريق في مسألة الخوارج ومقولته معروفة في ذلك.

إذا المسألة هي مسألة العقيدة فقط – الواحدة – من الجانب الفكري والفساد من الجانب العملي، فإذا تجنب التكتل أو المتكتلون هذين الأمرين لا دليل على منعهم، أما إذا كانوا هم متكتلون على النصرانية مثلاً في ظل الحكم الإسلامي، فهو خارج عن الموضوع لأنّهم في الأساس يختلفون مع المسلمين في العقيدة، ولكن ملزمون بالجانب الثاني، وهو مسألة الاحتراز في الفساد الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان والأسلوب والموضوع.

وأمّا مسألة الشورى فلا ترتبط بأصل مسألة مشروعية تأسيس التكتل، بل مرتبتها مرتبة طويلة، فإذا كانت تكتلات فلابدّ من الاستشارة بينها، بل الشورى قائمة حتى في التكتل نفسه، فهي إذاً مسألة متحركة، فلكها ومدارها واسع، وحدودها غير مقيدة، وضرورة الشورى قائمة على المختار، ولا حاجة إلى القول انّ تطبيق الشورى بحاجة إلى خلق تكتلات بل انّ للشورى صوراً متعددة لا مجال لذكرها هنا، ولكن المهم انّه لا علاقة لها بالتكتل.

 

المصدر: مجلة الرأي الآخر/ العدد 47 لسنة 2000م

ارسال التعليق

Top