• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحرية واحترام إرادة الإنسان

السيّد محمّد باقر الصدر

الحرية واحترام إرادة الإنسان

◄الحرِّية: هي القدرة على الاختيار، والبحث في الحرِّية يقود إلى تقسيم الحرِّية إلى قسمين:

أ- الحرية الداخلية: أو حرية الإرادة والاختيار الباطني عند الإنسان: وهي التي دار البحث حولها من قِبَل علماء العقيدة (علماء الكلام) والفلاسفة والمفكِّرين الإسلاميين، وغير الإسلاميين، وانتهى البحث فيها إلى مذاهب وآراء شتّى، فذهب فريق أمثال الأشعري وغيره، إلى أنّ الإنسان كائن مُجبَر، لا يملك القدرة على الاختيار؛ فالأفعال تجري عليه كما يجري الماء في النهر. فنحن نقول: جرى الماء في النهر، وليس للماء حرِّية ولا إرادة في اختيار الجريان في النهر، بل يجري بقوّة قاهرة خارجة على ذات الماء.

وكذا الأفعال التي ننسبها إلى الإنسان، فهي أفعال الله تجري بواسطة الإنسان، وليس الإنسان هو الفاعل الحقيقي لتلك الأفعال، وفسّروا دور الإنسان بالكسب.

وهكذا جرّدت هذه النظرية الإنسان من الحرِّية والاختيار، في حين ردّت آراء إسلامية أخرى على هذا الاتِّجاه، واعتبرته معارضاً لعقيدة التوحيد التي تؤمن بعدل الله سبحانه، وتنزِّهه عن الظّلم، فكيف يُجرِّد الخالق سبحانه الإنسان من الاختيار، ويُجري عليه أفعاله، ثمّ يُحاسبه عليها، وهو لا يملك القدرة على الفعل والترك فيما فرض عليه، بل ما قيمة الأمر والنهي من قِبَل الله تعالى إذا كان الإنسان لا يملك القدرة على الاختيار.

فالإنسان وفق الرؤية القرآنية، ومنطق العقل الإسلامي، يجب أن يكون مختاراً وحرّاً، ليكون مسؤولاً، وليجري عالم الإنسان وفق عدل الله تعالى، فلا مسؤوليّة بلا حرِّية، قال تعالى:

(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد/ 10).

(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).

(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات/ 24).

(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (الأعراف/ 6).

وهكذا تتلازم الحرِّية والمسؤوليّة في العقيدة الإسلاميّة، وفي الفكر الإسلامي. وهكذا تكون قيمه الإنسانيّة في كونه حرّاً مسؤولاً.

ب- الحرِّية الاجتماعية: وإذا كانت الحرية الداخلية أو الذاتية تتمثّل في القدرة على الاختيار والترك، فإنّ القسم الثاني من الحرِّية، هو الحرية الاجتماعية.

وهي الحرية التي يمنحها القانون والأخلاق والمجتمع للفرد، ويُعطى حقّ ممارستها في المجتمع. ويجب أن تتعامل معه السلطة والمجتمع وفقها، ومثالها حرِّية الفكر والسياسة والتملّك وغيرها.

والحرية هي منطلق النهضة والتنمية والتقدّم لدى الفرد والمجتمع، فالإنسان الذي لا يملك الحرِّية لا يستطيع أن يصنع الحياة، والإنسان الذي يشعر بالاضطهاد وسحق إرادته وشخصيّته، لا يتفاعل ولا يستجيب للسلطة، ولا لمشاريعها وسياستها، ولا يستطيع أن يوظِّف طاقاته، وبالتالي لا يستطيع النهوض أو التقدّم.

وإنّ من أخطر أسباب تخلُّف عالمنا هو مصادرة إرادة الإنسان، وكبت حرِّيته المشروعة، الحريّة المسؤولة التي لا تنفك عن الالتزام والمسؤولية.

ولكي تنهض الاُمّة، فهي بحاجة إلى الحرِّية، بحاجة إلى حرِّية الفكر، بحاجة إلى أن يُحرّر العقل من الإرهاب الفكري، ويُفسح أمامه المجال واسعاً لينطلق، وليفكِّر وليبدع وليمارس دوره الملتزم في مجال المعرفة وتشخيص المسار فإنّ الإنسان المكبوت الحرية هو إنسان مشلول القدرة والإرادة، ولا يستطيع أن يوظِّف طاقاته وإمكاناته.

إنّ محنة شعوب العالم الإسلامي الأولى هي مصادرة حرية الإنسان، وسحق إرادته، وتسليط الاستعباد والكبت الفكري والسياسي عليه.

إنّ أصحاب الفكر ودُعاة الإصلاح يعانون من القتل والإعدام السياسي وحالات التعذيب الوحشي والزج في السجون والهجرات والتشريد.

لقد انطلق الإسلام مع الإنسان الحرّ المختار، فوهبة حرِّية الفكر، وحرِّية السلوك، وحرِّية التملّك وحرِّية العمل، والحرِّية السياسية، غير أنّه قَرَنَ الحرِّية بالالتزام المسؤوليّة.

إنّ أخطر ما يواجهه الإنسان المسلم اليوم هو الإرهاب السياسي الذي صادر إرادته وحرِّيته. فشعوب العالم الإسلامي لا تملك مصيرها السياسي، ولا تملك حقّ إبداء الرأي أو مناقشة السياسة القائمة، والمشاركة في التخطيط لشؤونها ومصالحها.

والإسلام أقام الحياة السياسية على أساس الحرِّية السياسيّة، أقامها على أساس الشورى والتشاور ومشاركة الأُمّة ورقابتها للسلطة، وثبّت هذا المبدأ في كتابه الكريم بقوله:

(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/ 38).

(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (التوبة/ 71).

ومن هنا انطلق في إعطاء الأُمّة حقّ اختيار حكّامها وولاة أُمورها غير المعصومين وفق مواصفات مبدئيّة محدّدة، ومنحها المحاسبة والرقابة بسلطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

بل وأمر الله نبيِّه الكريم (ص) المسدّد بالوحي الإلهي أن يستشير أمّته ليدرّبها على حياة الشورى، واحترام رأي الآخرين وإشراكهم في صناعة مصيرهم.

لقد خاطب الله سبحانه نبيِّه بقوله:

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159).

وبذا حدّد القرآن علاقة القائد السياسي بالأُمّة التي يقودها، بأنّها علاقة حب واحترام ورحمة ومرونة ومشورة، وهذه المبادئ قيم دستوريّة ثابتة في الفكر السياسي الإسلامي مشرّعة لتسير الأُمّة على هديها، وتستنير بضوئها.

إنّ السبب الأساس في ركود الأُمم وتخلّفها، هو طبيعة الأنظمة والسّلطات الحاكمة؛ فإنّ الاستبداد السياسي والأنظمة التي لا تحترم مصالح الأُمّة تسبّبت في عالمنا الإسلامي بتضييع ثروات الأُمّة، وطاقاتها المُبدِعة، وجعلت منها أُمّة متخلِّفة تتلاعب قوى الاستعمار والصهيونيّة بمصيرها ومصالحها وثرواتها وخيراتها وإمكاناتها.

 

المصدر: كتاب مبادئ النهوض الاجتماعي

ارسال التعليق

Top