• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحوار.. تنمية القناعات والمساحات المشتركة

محمد محفوظ

الحوار.. تنمية القناعات والمساحات المشتركة

◄يُعلّمنا القرآن الحكيم، أنّ الحوار يستهدف الانطلاق من القواسم المشتركة، ويسعى عبر آلياته وأُطره إلى تنمية المساحات المشتركة والعمل على تفعليها. قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64). فالحوار لا يستهدف بالدرجة الأولى إقناع الآخرين بقناعات الذات، وإنما تعريفها إلى الطرف الآخر. وبالتالي فإنّه حوارٌ لا يستهدف الإفحام والقطيعة، وإنما التواصل والتعايش. فـ"الإسلام يدعو إلى التحرر من كلّ القيود التي تمنع الإنسان من الانطلاق في خط الحرّية والمسؤولية أمام الله تعالى، كما أنّه يدعو أيضاً إلى الخروج من كلّ الضلالات والجهالات التي تمنعه من أن يكون خليفة الله تعالى على الأرض، وهو يتمكّن من ذلك حينما يقدر على إصلاح نفسه ومجتمعه على ضوء التشريع الإلهي من خلال الالتزام به".

وينهى القرآن أيضاً عن المراء والجدال الذي لا يُفضي إلى نتيجة، بل قد يزعزع المشتركات، ويوجد مناخاً نفسياً يحول دون تنمية القواسم المشتركة. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام/ 159).

وقال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) (الشورى/ 14).

إنّنا مُطالبون جميعاً، أن نمارس فاعليتنا الفكرية وحيويتنا الثقافية، لتوطيد أركان وعوامل المنهج الحواري، حتى نكون جميعاً بمستوى المشاركة النوعية بصنع حقائقنا، وصياغة راهننا، وإنضاج خيارات غدنا ومستقبلنا.

وكما يقول أحد المفكِّرين الإسلاميين: إنّ الحوار بحاجة إلى ثقافة وفكر يحترمان الفروق والتنوع، ويرى أنّ الحقائق المجتمعية ماهيات مركبة ذات وجوه وأبعاد لا جواهر بسيطة مطلقة ذات بعد واحد.

إنّه فكر يجيد التبادل والتأليف انطلاقاً من توسّط مشرف من غير أن يجنح إلى دمج كلّاني يُلغي المسافات والتخوم، أو يقع في تفريعية انقسامية تقطع العلائق وتعدم التواصل.

ولقد أظهرت وقائع الحروب والمنازعات أنّ التصادم داخل الجماعة البشرية الواحدة، كان أشد فتكاً من تصادم الجماعات البشرية المختلفة. وما يجري من قتل وفظاعات وتدمير أعمى في الجزائر وأفغانستان وبعض دول القرن الأفريقي، يؤكد هذه الحقيقة، ويجعلنا نجزم أنّ ضحايا الحروب الداخلية والاقتتال الأهلي، أكثر فظاعة وتدميراً من كلّ الحروب الخارجية التي خاضتها البلدان العربية والإسلامية.

وأوضح عبدالمنعم سعيد هذه الحقيقة بالأرقام، وقال: إنّ الصراع مع إسرائيل كلف في العقود الخمسة الماضية حوالي 200 ألف من الضحايا، ولكن الصراعات الأهلية والحروب الداخلية بين البلدان العربية والإسلامية كلفت 2.5 مليون ضحية، ومن حيث التكلفة المالية، فإنّ الصراع الأوّل كلفت الدول العربية حوالي 300 بليون دولار، أما باقي الصراعات فبلغت تكاليفها حوالي 1.2 تريليون دولار.

وهكذا نجد أنّ 80 في المئة من الحروب والصراعات والنزاعات تقع تحت عنوان الحروب الداخلية التي تتنازع فيها القوى المختلفة حول السلطة والثروة والنفوذ.

ويشير أحد المفكرين إلى هذه الحقيقة بالقول: ولا تزال الحياة تحتضن الحوار، وترزح في الوقت نفسه تحت ثقل الأساليب العنيفة التي تريد أن تخنق الحار بالجو الخانق الذي تصنعه، وبالقوة المادّية الغاشمة التي تحشدها، وبالعقليات الضيّقة التي تربيها، ويقف الحوار أمام القوة كما وقف الأنبياء ليعلموا القوة أنّها لا تستطيع أن تبني الحياة التي تصنعها إلّا من خلال الحوار. لأنّ القوة التي تفقد ذلك سوف تدمر نفسها في نهاية المطاف. لأنّها لا تجد أمامها إلّا الحجارة التي ترجم حجارة، من دون هدف أو معنى. إنّ الحوار يعطي القوة المضمون الذي تتحرك من خلاله، والهدف الذي تسعى إليه والروح التي تعيش فيها.

لهذا فإنّ الحوار الثقافي والتواصل الإنساني، ينبغي ألا يتوقّف عند الأحكام القاطعة والكاسحة، التي هي صدى أنّ انعكاس لحقبة التصنيفات الأيديولوجية، وبذور الحوار والتلاقي الذي يقمع بالإدانات والتهويش والتخوين، وقد كلفت هذه المرحلة العالم العربي والإسلامي الكثير من الضحايا والجهود والإمكانات.

يقتضي الحوار في الحقل الثقافي والإنساني العمل على مستويين في آن واحد، مستوى الذات والعمل على التخلص من رواسب لغة النفي والإقصاء والتخزين وكلّ المفردات التي تلغي المختلف والمغاير، ولا تسمح بأي شكل من الأشكال بأي مستوى من الحوار معه.

لذلك فإنّ تنظيف النفس والعقل من كلّ المفردات والمنطق السائد في تلك الحقبة التاريخية، يُعدّ من الأعمال الجوهرية التي يجب أن نتوجّه إليها وتكون لدينا الشجاعة الكافية، لإعلان نهايتها ودخولنا في حقبة تاريخية جديدة تشجع الحوار وتؤسس للتسامُح وتؤصل الحرّية لرأي الآخر.

ومستوى الواقع الذي يجب أن يسوده الحوار ونتدرّب فيه على احترام التنوّع وإدارة الاختلاف بعقلية حضارية مُنفتحة وبعيدة كلّ البُعد عن التعصُّب المقيت الذي لا يفضي إلّا إلى المزيد من الحروب والاقتتال الداخلي.

يتحوّل الحوار الثقافي الذي يخرج من هذا السياق أو النطاق إلى حوار طرشان، لا يفضي إلّا إلى المزيد من التعصب للرأي وسيادة عقلية الخصم والإفحام، وهي العقلية التي تدفع بشكل جنوني إلى خيارات عنيفة، تدمّر الجميع، وتحيل الأوطان إلى أرض خربة تعشش فيها الغربان والحيوانات المفترسة.►

 

المصدر: كتاب حوار الأديان وقضايا الحرية والمشاركة

ارسال التعليق

Top