هناك شبهات وجهها خصوم الإسلام إليه منها: "أنّ الإسلام تنقصه الناحية الروحية، وأنه دين مادي". ومنها: "أنّ الإسلام نظام شرعي أكثر منه نظاماً أخلاقياً روحياً".
والحق انّه ليس هناك شبهة أبعد في الخطأ من هذين الزعمين، فالإسلام قد اشتمل على مبادئ روحية لا يوجد لها نظير في سموها وسرعة استجابة النفس لها في أي دين من الأديان، وهذا ما سنعالجه في البحوث الآتية وهي:
صلة الإنسان بالدنيا – وصلة الإنسان بالله – والأخلاق – والعبادات.
- الإنسان يتكوّن من روحٍ ومادة:
يتكون الإنسان من عنصرين: عنصر مادي ينمو ويتحرك، وآخر بريء من المادة له تلك المظاهر الخاصة من تفكير وعلم وإرادة، وحب وبغض، وخلق كريم أو ذميم.
لكلٍ من هذين العنصرين رغائب يتوق صاحبها إلى تحصيلها في أقصى حدودها، فللجسم رغائب من الطعام والشراب والجنس وغير ذلك، وللروح مدارج في الترقي يمكن أن تنال منها حظوظاً متفاوتة حسب سعيها ومجاهدتها.
اتصلت الروح بالبدن، وفي هذا الاتصال ألوان من البلاء، فصار كثير من الناس عبيداً لشهواتهم، وانحطت بشريتهم إلى درجة الحيوانية المحضة لا يرغبون من الحياة إلا ألوان الطعام والشراب وسائر أنواع الشهوات، بل ربما انحدروا إلى ما وراء الحيوانية المعتادة بما وهبوا من التفكير.
لهذا جاء القرآن بتشريع روحي قوامه الإيمان بالله والتحقق بمعرفته معرفة يقينية لا يأتيها الشك، تسمو بالمرء، وتجعله فرداً صالحاً في المجتمع الإنساني، وتنقذه من الأزمات النفسانية التي تجتاحه من جراء جهله سر هذا الكون.
ثمّ دعا القرآن الإنسان أن يجاهد نفسه ويروضها على فعل الخير، وأن يصفي قلبه وينقيه من أدران الشهوة والهوى والبغض والحسد وسائر أمراضه لتجتمع النفوس على المحبة والإخاء والسلام.
- العالم بحاجة إلى ثقافة الروح:
والعالم اليوم بحاجة إلى ثقافة روحية، هذا العالم المادي الذي كان تحت تأثير اعتقاد جازم بأنّه بتقدمه المادي المطرد قد بلغ مرتبة الكمال، ولكن أحداث الثلاثين عاماً الأخيرة قد بدلت هذا الاعتقاد.
فالرقي المادي الذي وصلنا إليه في هذا القرن لم يؤت ثمرته الفعلية من اسعاد الناس بل على العكس جلب التعاسة والخراب الناجمين عن الحروب المتلاحقة، فلا زال القوي يفترس الضعيف، ولا زال الاستعمار ينشب مخالبه في صدور الدول الضعيفة، ولا زالات الأجناس يكره بعضها البعض، وهذا كله يدلنا على إفلاس الحضارة المادية الخالية من القيم الروحية.
لهذا نرى طاغور الشاعر الهندي ينتقد هذه المدنية الحاضرة التي قامت على العلم والمادة دون أن تهتم بالقيم الروحية فيقول هذه الكلمات التي أملاها على أحد تلامذته قبل وفاته بساعات: "... فالاصلاح العلمي والاجتماعي والاقتصادي قد يهذب من أحكام الطبيعة وقد يلطفها ويصقلها ولكنه لن يجعل من الإنسان إلا حيواناً ممتازاً، ولن يرسم للفرد كوحدة مستقلة سبيلاً واضحاً إلى الكمال الروحي المنشود إذ الكمال الروحي لا يتقيد في عرفي بالتقدم المادي وانما هو جوهر أبدي كامن في نفوسنا سواء أكنا متأخرين في الرقي المادي أم متقدمين. والواجب أن نبحث في ارواحنا ما استطعنا عن هذا الجوهر الأبدي، أن نبحث عن مظاهره فينا، وعن قواه المشتركة بيننا وبين الآخرين وعلى قدر احساسنا بهذه القوى يكون اتجاهنا نحو الكمال.
ولقد أدرك الكثيرون من قبلنا هذه الحقيقة فكانوا أمثلة حية من الكمال الروحي دون أن تكون لهم حضارة كحضارتنا وعلوم كعلومنا ورقي مادي كرقينا لقد تعهدوا بالملاحظة والتربية قواهم الأبدية فازدهرت وآتت أبرك الثمرات. ولكن ما تلك القوى الأبدية؟.. هي الطيبة والمحبة والإيثار والتضحية وكل ما يجعلنا نحس اننا في غير حاجة إلى الأنظمة والقوانين كي نقرّ السلام في قلوبنا والعدل والإخاء بيننا وبين الناس.
وأعجب ما أعجب له أن حضارتنا تعتمد على إصلاح الأنظمة والقوانين لترقيتنا ثمّ لا تقرن هذا الإصلاح بالدعوة الحارة البعيدة عن التعصب لمذهب أو عقيدة، إلى تلك القوى الروحية كمجموعة عناصر مشتركة أبدية يجب أن ننتفع بها كما ننتفع بالفحم والحديد والبخار والكهرباء...
... وعندي أنّه يجب أن تدرّس للصبيان فوائد المحبة بجانب فوائد الكهرباء ومنافع الطيبة والرحمة بجانب منافع الفحم والحديد. أي يجب أن نقرن في نفوسهم العواطف الأبدية بالمعارف وتطبيقاتها العملية، وإلا جاءت هذه المعارف وتطبيقاتها بعكس الغرض المنشود منها فاكتسحت العواطف وردت الإنسان إلى وحشيته الأولى".
وهذا ما ذهب إليه أيضاً العالم الشهير أندرو كونواي ايفي في قوله:
"إنّ النواحي الروحانية والأخلاقية من حياة الإنسان وما ينبغي أن يفعله أهمية بالغة بالنسبة لسلامة الإنسان ورفاهيته، وهي أهمية تفوق أهمية معرفته وسيطرته على الطبيعة غير الإنسانية. فإحاطتنا بالعلوم الطبيعية تزيد من فهمنا للعالم الذي نعيش فيه، ومن وسائلنا في تحسين الانتاج وتوزيع الضروريات ووسائل الاستمتاع بالحياة وتقلل من الآلام وتطيل الحياة، ومع ذلك فإنّ المشكلة العظمى في العالم في الوقت الحاضر تعد مشكلة أخلاقية ودينية، فهي تدور حول معرفة كيف نستخدم الطاقة الذرية لتحقيق صالح البشر ورفاهيتهم، لا لكي ننزل بهم الدمار. ولعل أعظم ما صادف الناس والمجتمعات من مشكلات في الحياة كانت من النوع الخلقي، وكانت تدور حول معرفة كيف نتخذ القرارات الصائبة.".
جَمعيّة التسلح الخلقي: وقد قامت اليوم بعض الجمعيات في سويسرا وغيرها لهذا الغرض. منها جمعية التسلح الخلقي التي أنشأها الدكتور (فرانك بكمان) وقد قصد بها إلى تغيير المجتمع بتغيير أفراده، ووسيلته أن يتسلح كل فرد بمبادئ يأخذ نفسه بها في غير تساهل، ومن هذه المبادئ: الاتجاه إلى الله والاصغاء إلى أوامره وطاعته، وأن يحاسب المرء نفسه كلما أذنب مصمماً على أن يتجنب الرذائل، وأن يتعاون الأفراد على تحقيق هذه المبادئ كي تسود في المجتمع. فالانقسام من علامات عصرنا... والاتحاد مطلبنا العاجل، والانقسام نتيجة التكبر والحقد والشهوة والطمع، وهو من صنع المادية وهو العلامة التي تميز بضاعتها".
والقرآن أتى بأسس روحية تكفل الاستقرار والسلام والاخاء لسكان الأرض، وهي ياللأسف لا تزال مجهولة لكثير من الشعوب ومفكري الإنسانية الذين يبحثون عن خير الوسائل لنشر السلام والمحبة في عالمنا المضطرب هذا ما دعانا إلى كتابة البحوث التي ستأتي فيما بعد لنبرهن على أنّ الإسلام هو دين الإنسانية في المستقبل العاجل.
- نظام الروحية عند أكثر الأديان:
ما هو نظام الروحية في الإسلام؟ هذه مسألة لابدّ لفهمها وإدراك معناها من أن نكون على خبرة تامة بين مفهومها في الإسلام في الأديان والنظم الفلسفية الأخرى.
فالفكرة التي ما زالت مسيطرة في ميدان الديانات والفلسفة أنّ الروح والجسد يتعارضان في مصالحهما، فمن المتعذر اذن رقيهما وازدهارهما جنباً إلى جنب، فالجسد والعالم المادي سجن للروح، والعلائق الدنيوية والانغماس في لذائذها ورغباتها هي الاصفاد والأغلال التي تقيد بها الروح البشرية.
كانت نتيجة هذه الفكرة: التفريق بين الطرق الروحية والمادية. فالذين آثروا المادة يئسوا من أوّل خطواتهم من مسايرة الروح فانغمسوا في عبودية المادة كل الانغماس وابتعدوا عن الروحانية كل الابتعاد، والذين آثروا الروحانية قصدوا لرقي أرواحهم طرقاً ومناهج تبعدهم عن الشؤون الدنيوية وذلك انّه من المستحيل في نظرهم أن يوجد لارتقاء الروح طريق يمر بين الحياة الدنيا وشؤونها. ولهذا نراهم في سبيل ترقية الروح قد اهملوا أمر الجسد، ومن أجل ذلك تراهم قد اخترعوا رياضات بدنية شاقة قضت على رغبات النفس مثل البراهمة والبوذيين في الهند وغيرهم، فمنهم من يقللون طعامهم وشرابهم إلى أن يصيروا كالهياكل العظيمة هزالاً ونحولاً، ومنهم من يضيفون إلى هذه إثقال أجسادهم بالسلاسل الحديدية، بل منهم فئة يجلسون وينامون على أسنّة مشرعة من المسامير.
وإذا نظرنا إلى المسيحية رأيناها ديانة زهد وتخلص من علاقات الدنيا واعتداد بالروح دون الجسد.
المصدر: كتاب روح الدين الإسلامي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق