ستيفن دي تانسي/ ترجمة: رشا جمال
◄ليس من الحتمي على الإطلاق أن تكون حكومة الدولة حكومة ديمقراطية، ومع ذلك لا يمكن رفض وجود أنظمة تقليدية أو دينية أو عسكرية أو فاشية أو سلطوية باعتبارها مفارقات تاريخية حتى في القرن الحادي والعشرين. ومن أجل تحقيق أهداف هذه المناقشة، ينبغي افتراض الرغبة في وجود حكومة شعبية، وهو ما وصفه الرئيس لنكولن في غتيسبيرغ بـ"حكومة الشعب من الشعب ولأجل الشعب". ونتساءل نحن عن القيم التي تسعى مثل هذه الحكومات إلى تحقيقها، وما هو مدى إدراك المؤسسات الديمقراطية الحالية لهذه القيم.
يقترح تعريف لنكولن الشهير ثلاثة عناصر رئيسة للديمقراطية. الأول: لا تعني "حكومة الشعب" أنها فوق الشعب، بل تكتسب شرعيتها بالتزام الشعب بها (الحكومة بالقبول). والثاني: أنها "من الشعب" بمعنى أن يشارك الشعب فيها على نطاق واسع في العمليات الحكومية. وأما الثالث فكون الحكومة "من أجل الشعب" بمعنى أنها تسعى إلى تحقيق الرفاهية العامة وحماية الحقوق والأفراد.
ستحظى هذه المبادئ بقبول ليس فقط في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية في أوروبا الغربية وشمال أمريكا وأستراليا، بل حتى في الدول الشيوعية والأنظمة القومية ذات الحزب الواحد في الجنوب. وعلى الرغم من ذلك، فهناك جدل بالغ حول تفسير هذه المبادئ وأهميتها النسبية إذا وقع تعارض بينها. ولذلك تشدد الأنظمة الديمقراطية الليبرالية على حماية الحقوق الفردية، وعلى فكرة حكم القانون، بينما تشدد الأنظمة الشيوعية على المشاركة الشعبية والسعي من أجل تحقيق مصالح الشخص العادي. ويؤكد القادة القوميون الشعبويون شرعية القادة الذين يحظون بقبول الشعب باعتبارهم مفسرين للمصير الوطني (MacPherson, 1966).
- المشاركة والديمقراطية المباشرة:
إنّ أقدم الأشكال الديمقراطية كما معروف هو الذي كان يطبَّق في "الدول المدن" في اليونان القديمة، ولا سيّما أثينا، حيث كانت تُتَّخذ القرارات المهمة من قبل جميع المواطنين في المجلس الشعبي بتصويت الأغلبية (على الرغم من استثناء الأجانب والنساء والعبيد الذين كانوا يشكلون أغلبية السكان). وكان انتخاب المسؤولين الحكوميين على أساس مؤقت عن طريق القرعة، وينبغي أن نؤكد هنا أنّ اليونانيين كانوا يعتبرون طريقة اتخاذ القرارات عن طريق ممثلين منتخبين نيابة عن الشعب طريقة أرستقراطية أو استبدادية في الحكم لأنها تعتمد على صفات الأشخاص المنتخبين وسلوكهم.
وجدير بالذكر هنا أنّ أرسطو كان يعتبر تصويت الأغلبية شكلاً سيئاً من أشكال الحكومة، لأنّ القرارات الشعبية لم تكن ملتزمة بأي حماية قانونية للأقليات (الأغنياء). ويجدر أن نعرف هنا إن كان النظام الذي يعطي للأغلبية من السكان حق إعدام شخص ما – حتى لو كان مذنباً – نظاماً ديمقراطياً؟ بمعنى آخر، قد يتعارض حكم الأغلبية والمشاركة الشعبية مع أفكار العدالة والحقوق الفردية والفاعلية والكفاءة (باعتبار أنّ الشعب بطبيعته متوسط الكفاءة وقليل الاطلاع).
وعلى الرغم من ذلك، كان في أثينا مستوى عالٍ من الحوار والمعرفة والالتزام تجاه الدولة والولاء الكبير لها، لأنّه يجب أن تكون أغلبية المواطنين مقتنعة بالشكل الذي يتصرف فيه المجتمع. ويشجع مثل هذا النظام الأفراد على حرية الإرادة، وعلى أن يعاملوا بأنهم كائنات أخلاقية، وأن يتأقلموا مع المجتمع والحياة السياسية فيه.
غالباً ما يعتقد أنّ الديمقراطيات المباشرة أصبحت مستحيلة التطبيق نظراً إلى كبر حجم المجتمعات الإنسانية وتعقيدها. وعلى الرغم من ذلك ما زالت عملية صنع القرار تُمارس من قبل أغلبية المواطنين في بلدان مثل سويسرا، وفي ولايات عديدة من الولايات المتحدة، ففي سويسرا يجرى استفتاء على أي قضية بطلب نسبة معينة من جمهور الناخبين، أو حد أدنى من أعداد المصوتين، وتأخذ نتيجة الاستفتاء حكم التعديل الدستوري. وتطبق ترتيبات مماثلة في بعض الولايات الأمريكية، خصوصاً في ما يتعلق بالقرارات المالية المهمة، ونكرر أنّه حيث ما يتم اتخاذ القرارات بهذا الأسلوب، فغالباً ما ينشأ نقاش شعبي كبير حول القضايا المثارة.
ربما ينبغي التفريق هنا بين ما سبق والأداة الدستورية الأكثر شيوعاً التي تسمح للحكومة بإجراء استفتاء عام بخصوص بعض القضايا، إلا إنّ المشكلة تكمن هنا في أنّ مثل هذا الاستفتاء الشعبي قد يتحول إلى استفتاء على الثقة في الحكومة التي اقترحته. وقد استخدم القادة الشعبويون الكبار مثل الجنرال ديغول في فرنسا أو يلتسِن رئيس روسيا هذه الأداة الدستورية ليعززا من موقفهما أمام معارضيهما في البرلمان.
في الواقع، لم يعد حجم الديمقراطيات عائقاً أمام ممارسة هذه الديمقراطية الشعبية؛ فمع وجود تكنولوجيا الاتصالات الجماهيرية المتنوعة والسهلة نسبياً، وإمكانية إجراء انتخابات إلكترونية عن طريق الهاتف أو أي شبكات أخرى أصبح من الممكن تطبيق نظام "الديمقراطية الهاتفية" أو "الديمقراطية الإلكترونية" (Arterton, 1987, and Saward, 1993). كما يمكن على أي حال ممارسة هذا النظام على المستوى المحلي في المجتمعات الصغيرة (مثل الاجتماعات الأبرشية البريطانية وفي نيو إنغلاند).
ولا تزال فكرة إشراك أكبر عدد ممكن من المواطنين في العملية الحكومية عنصراً مهماً في مفهوم الديمقراطية لأنّه يساعد على الحفاظ على نظام الحكومة المحلية، وعلى هيئة المحلفين في الأنظمة الديمقراطية الأنكلو – أمريكية. وكان الاتحاد السوفياتي السابق قد حاول دعم أوراق اعتماده الديمقراطية من خلال انتخاب عدد كبير من المواطنين في المجالس السوفياتية واللجان الانتخابية والمصانع ومجالس المزارع الجماعية وغيرها.
- اختيار الحكام:
غالباً ما يعتقد في الديمقراطيات الليبرالية الحديثة أنّ الديمقراطية تقوم في المقام الأوّل بإتاحة الفرصة للمواطنين في اختيار حكامهم بحرية لفترات دورية، وليس إتاحة الفرصة لهم لصنع قرارات حكومية لأنفسهم.
ويبدو أنّ هناك شكاً في أهمية إجبار مجموعة متنافسة من الحكام المحتلمين على التنافس من أجل الحصول على أصوات الشعب في ضمان أنّ الديمقراطيات الحديثة تستجيب بعض الشيء لمصالح ناخبيها ورغباتهم. وبسبب نقص هذه الأداة في كثير من الأنظمة الشيوعية ودول العالم الثالث فقدت هذه الأنظمة اتصالها بالدوائر الانتخابية، الأمر الذي أدى إلى انهيارها بعد ذلك.
يبدو أنّه لا يمكن القيام بانتخابات حرة في نظام ديمقراطي، وفي المؤسسة يصعب تطبيقها أكثر مما يتخيل بعضهم (Mckenzie, 1958). فالاقتراع السري، والتحرر من الرشوة والفساد الانتخابي، وحرية الأحزاب في القيام بحملات انتخابية في أي مكان من البلاد، ونظام انتخابي غير منحاز بشكل معقول، كلها شروط تبدو واضحةً وبسيطةً في الدول التي حققتها بالفعل ولكن أظهرت التجربة في أوروبا الشرقية وأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في الآونة الأخيرة مدى صعوبة تحقيقها.
وعلى الرغم من ذلك يبدو أن هناك عدة عوامل معقدة تؤثر في مدى فاعلية الأنظمة الديمقراطية واستجابتها، وخصوصاً مدى تقديم الأحزاب السياسة والترتيبات الدستورية اختياراً حقيقياً لجمهور الناخبين، وفي هذا الصدد يمكن الاعتقاد أنّ الولايات المتحدة أقل "ديمقراطية" من المملكة المتحدة؛ ولذا، ينبغي لنا دراسة مدى تأثير الحالة الثقافية والاقتصادية لجمهور الناخبين في فاعلية المشاركة السياسية التي تصبح ممكنة من خلالها.
المصدر: كتاب علم السياسية الأسس
ارسال التعليق