• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المـال والـثروة

المـال والـثروة

المال هو ما ملكته من جميع الأشياء، وفي الأصل ما يُملك من ذهب وفضّة، ثمّ أُطلق على كلّ ما يُقتنى ويملك من الأشياء العينية، وكان أكثر ما يُطلق عند العرب على (الإبل) لأنّها كانت أكثر أموالهم. والمال كما يقول (الراغب الإصفهاني) في (غريب مفردات القرآن): "من الميل وهو العدول عن الوسط إلى أحد الجانبين، وإنّما سُمِّي المالُ مالاً لأنّه مائلٌ وزائل".

وأمّا الثروة، فهي الكثير من المال، ويُراد بها في المفهوم الاقتصاديّ كل ما يرضي حاجة الانسان أو رغبته من الأموال القابلة للتملُّك والتقويم. ولقد حفل الكتاب الكريم بآيات المال والثروة بالنظر لأهمية هذه القضية التي شغلت الانسان أيّما إشغال لما ورد في القرآن من أنّ الانسان يحبّ المال حبّاً جمّاً (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر/ 19-20)، وقوله تعالى: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات/ 8)، فلنعرض لمنظور القرآن للمال أوّلاً، ثمّ لنستلَّ منه الرؤية القرآنية لأهم قضية احتلّت وما تزال تحتل الاهتمام الأوّل عند الغالبية العظمى من الناس.

 

1- المال.. مال الله تعالى:

قال سبحانه (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي آتَاكُمْ) (النُّور/ 33).

 

2- المال.. إستخلاف الانسان فيه:

قال عزّوجلّ: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد/ 7).

مُستَخلَفين: أي وكلاء في إجرائه وتوظيفه وإنفاقه في المصارف السليمة التي ذكرها لله لكم في كتابه.

 

3- المال.. زينة:

قال جلّ جلاله: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) (الكهف/ 46).

والزينة كلُّ ما يُتزيَّن به من ملابس وحُليّ وغيرها، وقيل هي كلّ ما يفاخر به الانسان في الدنيا من مال وأثاث وجاه.

 

4- المال.. موضع ابتلاء:

قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 155).

 

5- المال.. لا يُغني عن الدين والإيمان:

قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا) (آل عمران/ 10).

 

6- المال.. الإنشغال به عن ذكر الله:

قال عزّوجلّ: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (الجمعة/ 11).

وقال جلّ وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون/ 9).

 

7- المال.. النهي عن إنفاقه رياءً:

قال تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة/ 264).

 

8- المال.. الأمر بإنفاقه في وجوه الخير:

قال جلّ جلاله: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ) (البقرة/ 177).

ومن وجوه الخير إنفاقه في الجهاد في سبيل الله، وإنشاء مشاريع خيريّة، وتسييله في مجرى الاقتصاد وعدم احتكاره وتجميده في أرصدة بنكية لينتفع به التاجر والثري والعامل الفقير، قال عزّوجلّ: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة/ 34).

 

9- المال.. النهي عن البُخل به:

قال تعالى: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) (النِّساء/ 37).

 

10- المال.. تحريم أكله بالباطل (الرشوة):

قال عزّوجلّ في الرشوة: (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 188).

وقال سبحانه وتعالى في الاستيلاء على أموال اليتامى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النِّساء/ 10).

 

11- المال.. النهي عن المراباة به:

قال عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة/ 278-279).

 

12- المال.. النهي عن الإعجاب بثراء الأثرياء:

قال تعالى: (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة/ 85).

 

13- المال.. النهي عن التفاخر به:

قال عزّوجلّ عن صاحب الجنّة (البستان): (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا) (الكهف/ 34).

وقال سبحانه: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) (الحديد/ 20).

وقال جلّ جلاله على لسان قارون الذي زعم أنّ ما لديه من أموال طائلة وثروة هائلة هي من عنده، ونتيجة لجهده وذكائه وليس من عند الله تعالى وفضله: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) (القصص/ 78).

 

14- المال.. حرِّيّة التصرُّف فيه:

قال تبارك وتعالى عن أهل مَدين: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) (هود/ 87)؛ لكنّه لا يجوز للسفيه الذي لا يحسن التصرُّف بأمواله أن يترك يُبذِّر ويهدر ويتلف أمواله، بل يجب حجر المال ومنعه عنه: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا) (النِّساء/ 5)، أي إنّ الذي يتصرَّف بماله وينفق منه عليه العاقل من ذويه.

 

15- المال.. الحقوق المفروضة فيه:

قال عزّوجلّ: (وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذّاريات/ 19).

والسائل المستعطي أو المستجدي، والمحروم هو الفقير المعدم.

وقال جلّ وعلا: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة/ 103).

من هذا الاستدلال القرآني يمكن أن نخلص إلى الآتي من النتائج القيمية المترتِّبة على أهمية المال في حياتنا:

1- المال رزق، والرزق يجب أن يسعى إلى كسبه بالطُّرُق المشروعة (الحلال) لا بالاستغلال (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (النجم/ 39)، ولذلك نَبَّه القرآن إلى أنّ الكذب والغشّ والتدليس والاختلاس والسرقة والتزوير ليسوا من الرزق في شيء، قال تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (الواقعة/ 82).

مثلما حذّر تحذيراً شديد اللهجة من السرقة حتى أنّه جعل عقوبة السارق – ضمن شروط معيّنة – قطع يده اليمنى من الأصابع كيلا يعاود السرقة، ولكي يكون عبرةً لمن يعتبر، قال عزّوجلّ: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) (المائدة/ 38)، ويقول صاحب (الطريق إلى السعادة): "الانسان الذي يعجز لسبب أو لآخر عن الحصول على الأموال والأملاك بصورة شرعية، يمكنه أن يدَّعي أنّ الأشياء ليست مُلكاً لأحد؛ ولكن جرِّب أن تسرق حذاءه وانظر ماذا سيفعل؟ إنّ اللصّ يملأ الجوَّ حوله بالغموض، فالكلّ يبدأ بالتساؤل: أين اختفى هذا؟ وأين اختفى ذاك؟ إنّه يُسبِّب من المتاعب والمشاكل أكثر بكثير من قيمة ما يسرقه".

"إنّه – والقول ما يزال لـ(ل. رون هابرد) – يتخيَّل أنّ سرقتها تجعله يحصل على شيء قيِّم بتكلفة زهيدة، وهذه هي المشكلة الأساسية: التكلفة! والحقيقة أنّ السعر الفعلي الذي يدفعه السارق سوف يكون أعلى بكثير مما يعتقد، فأكثر اللصوص في التاريخ قد دفعوا ثمناً باهضاً لغنائمهم، ذلك بقضاء حياتهم في المخابئ البائسة أو السجون، ولا يحظون إلّا بلحظات نادرة فقط من الحياة المرفهة، إلّا أنّه ليس هناك شيء في الحياة، مهما كان ثميناً، يمكن أن يُعوِّض قضاء العمر خلف القضبان، كما أنّ قيمة المواد المسروقة تتناقص بشكل سريع، لأنّ المسروقات يجب أن تُخفى عن العيون، كما أنّها تُشكِّل في حدّ ذاتها تهديداً لحرِّيّة السارق نفسه"[1].. ولأنّه لم يتعب في اقتنائها، فإنّه أزهد الناس بقيمتها، لذلك يبيعها أحياناً بأتفه الأسعار!

2- المال بكلّ مفرداته من بناء الثروة، والحصول على المقتنيات، والعيش برفاهية، محبوب بشري، لقوله تعالى: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (العاديات/ 8)، وقوله سبحانه: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر/ 20)، والسعي لاكتسابه بالطرق المشروعة مطلوب: (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك/ 15)، وقال سبحانه: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) (الرَّحمن/ 10)، أي مُسخَّرة للناس، وليست المشكلة في أن يُنمِّي الانسان ثروته، وإنما هي في إغفال الخسائر التي يتكبَّدها من أجل ذلك، عندما يكونُ جمعُ المال غايةً بذاته، وعندما يصرف الانسان عن تحصيل رصيده الثقافيّ والمعرفيّ والاجتماعيّ والأُخرويّ، وعندما يمنع ماله من السيولة والتداول، وعندما يجمع لغيره تتكوَّن عليه التبعة وللمستمتع بتركته المهنّى، يقول الإمام علي (ع): "مَن رزقه الله مالاً وجمالاً فعفّ في جماله، وواسى في ماله، كُتب في ديوان الأبرار"[2]، وقد يكون حبّ المال من الآخرة إنْ وظَّف في الإنفاق على الذات والأهل والأقارب والمحتاجين، وبُذل في الأعمال الخيريّة، بل حتى في بناء المشاريع النافعة التي تدرّ على صاحبها ربحاً، وتُمكِّن الكثير من العُمّال أن يسعدوا بسعة نعمته فيتنعَّموا بها بما يتاحُ لهم من فرص العمل والتشغيل.

وقد ورد في المرويات عن الإمام علي (ع): "أفضل الأموال أحسنها أثراً عليك"[3].. وإذا كان بعض الناس يقول بأنّ المال هو جواز سفر عالمي يسمح لحامله الذهاب إلى كلّ البلاد خلا السماء، وهو يجلب كلَّ شيءٌ خلا السعادة، فإنّنا نقول: نعم، يُسمح له بالدخول إلى السماء أيضاً إذا وُظِّف في تنمية الحياة، وإعانة المحرومين، بل ويجلب السعادة للسبب نفسه!

إنّ الذي جعلنا وكلاء مستخلفين بالمال والثروة والمواهب والممتلكات، وهو الله تعالى، هو نفسه الذي جعل جزءاً مما نملكُ حقّاً للسائل والمحروم، ولذلك ضرب لنا مثلاً في قصة أصحاب الجنّة (البستان)، والآيات من سورة (القلم) وافية شافية في تصوير قصّة البخل وحرمان المساكين من حقوقهما التي افترضها الله تعالى في أموال الأغنياء.. تأمَّل!

(إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (القلم/ 17-33).

قرَّروا وبيَّتوا أن يمنعوا المساكين حقوقهم فحرمهم الله من نعمة البستان كلّه، وهو قادرٌ على أن يطمس الأموال والثروات ويخسف بها الأرض كما فعل بـ(قارون). وفي الأمثال الفارسية مثلٌ طريف لعلّه مستوحى من جوّ القصّة القرآنية: "في زمن الغِلال يُصابُ البستانيُّ بالعمى"[4].

3- قَدَّرَ الله تعالى للناس أرزاقهم، وقد يُوسِّع وقد يُضيِّق لحكمة، وقد يكون ذلك نتيجة لسعي الانسان وتحصيله.. أمّا أن تمتدّ يد الغني للاستيلاء على رزق الفقير إمّا بسبب سطوته وسلطته وقدرته على استضعافه، وإمّا لرغبته بزيادة ما عنده من ثروة ليزداد غنىً على غنى وإن جرَّد الفقير من القليل الذي عنده، وتلك هي قصّة الاقتصاد العالمي بين دول الشمال الغنيّة المستكبرة والمسيطرة على ثروات الشعوب في العالمين الثاني والثالث، وقصّة هذه المُكبَّلة بديونها التي لا تتمتَّع إلّا بالفتات من ثرواتها، والقرآن يضرب لنا مثلاً عن ذلك في قصّة الأخوين صاحبي النعاج اللذين جاءا داود (ع) يحتكمان لديه في فض منازعة الغني صاحب النعاج الـ(99) مع أخيه الفقير صاحب الـ(نعجة الواحدة)، إذ حاول إجباره على التنازل له عن نعجته لتصبح نعاجه مئة كاملة، ولم يُفكِّر في أن يعط تسع نعاج لأخيه لتصبح نعاجه عشرة كاملة، بل ولم يُفكِّر في أن يعطيه نعجة واحدة لتصبح لديه نعجتان.. لاحظ استكبار النفوذ وسطوة الثراء وطغيان الجشع.. تأمَّل النصّ القرآني المُفصح عن هذه (الواقعة) التي لها نظائر كثيرة في (الواقع): (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) (ص/ 21-24).. ولو درسنا ظاهرة الاستكبار دراسة اجتماعية لرأينا أنّ منشأها الاستغلال.

والمفارقة الغريبة أنّ صاحب النعاج الـ(99) – كما في إيحاء النصّ – يرى أنّ من حقّه الاستيلاء على النعجة الواحدة لاستكمال ثروته الناقصة، للمخاطبة بلغة الجمع (فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ)، وكأنّ من حقّ الحكومات المستكبرة ودول الشمال أن تعيش في ثراء، وإنّ من نصيب دول الجنوب أن تعيش البؤس والفقر والحرمان!!

والشيء نفسه يُقال عن تنمية ثروة المرابي عندما يشترط على المدين أن يقرضه قرضاً بزيادة، في حين يقول الله تعالى: (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة/ 276).. واستيحاء من ذلك، ورد عن الإمام علي (ع) قوله: "ما جاع فقير إلّا بما مُتِّع به غنيّ"[5]، وحُكي أنّ امرأة عجوز ضعيفة كانت جاراً لغني ذي سلطة بنى داراً واسعة إلى جوار دارها الصغيرة، ولمّا أراد أن يخصص من مساحة البيت الواسعة للحديقة، فكَّر في ضمّ حديقة جارته العجوز إلى حديقته لتتسع، فلمّا طالبها بذلك وعرفت أنّ ليس بإمكانها أن ترفض لسطوته وجاهه، سألته أن ينقل له كيساً مملوءاً من تراب حديقتها لتحتفظ به كذكرى، ولمّا ملأ الكيس وأراد حمله إلى بيتها عجز عن حمله، فقالت له: إذا كنت عاجزاً اليوم عن حمل كيس من تراب الحديقة، فكيف تستطيع غداً أن تحمل الحديقة كلّها؟! وقصّة العجوز الفقيرة مع الغنيّ المتسلِّط هي قصّة الحياة وصراع الفقراء مع الأغنياء.

4- المال للسيلولة والتداول والحركة والتبادل التجاري وتنشيط الفعّاليات الاقتصادية، وليس من حق إنسان أن يحجب ثروته عن التداول أو يحتكرها أو يُجمِّدها لأنّه بذلك يُضيِّق أحد سبل النشاط التجاري أو المالي أو الاقتصادي، والله تعالى ينهى عن تجميد الثروة واكتنازها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة/ 34)، وقال جلّ جلاله: (مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الحشر/ 7)، وفي الأمثال اللاتينية: "من الحماقة أن تدخِّر، إذا كنتَ تجهل لمن تدخِّر"[6].

5- المال بحد ذاته ليس قيمة تفاضلية أو معيارية، وشواهد القرآن وقصصه في ذلك كثيرة، تأمَّل في معاني وأبعاد أقواله تعالى في اعتبار الغنى سبباً للخلود: (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (الُهمزة/ 3-4).

وعن ثروة أبي لهب المسخرة لمحاربة النبي (ص): (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) (المسد/ 2).

وفي عجز المال عن دفع الموت: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) (الحاقّة/ 28-29).

وفي تصور أنّ اتساع الثروة يعني اتساع الحظوة عند الله: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (آل عمران/ 178).

وفي قصة الظالم لنفسه صاحب الجنّتين (البساتين) والفقير المؤمن، درس قرآني في التفريق بين ما هو (قيمة) بذاته، وما هو ليس بقيمة في ذاته، يقول تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً * لَكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) (الكهف/ 32-42)، ومن هنا ورد في الحديث الشريف: "مَن أحبّ أن يكون أغنى الناس، فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده"[7].

المال إذاً لا يشتري السعادة، ولا الصحّة، ولا السكينة، ولا الأصدقاء الحقيقيين؛ لكنه وسيلة من الوسائل العديدة لتحقيق ذلك، ويوصي لقمان الحكيم ولده فيقول له: "يا بُني، عليك بطلب العلم، وجمع المال، فإنّ الناس طائفتان: خاصّة وعامّة، فالخاصّة تكرمك للعلم، والعامّة تكرمك للمال. يا بُني، شيئان إذا أنت حفظتهما لا تبالي بما صنعت بعدهما: دينُك لمعادك، ودرهمُك لمعاشك"[8].

 

[1] - الطريق إلى السعادة، ل. رون هابرد، ص91-92.

[2] - جواهر العقول، وصال حمقة، ص571.

[3] - جواهر العقول، مصدر سابق، ص574.

[4] - جواهر العقول، ص574.

[5] - جواهر العقول، ص575.

[6] - المصدر نفسه، ص571.

[7] - جواهر العقول، ص577.

[8] - المصدر نفسه، ص571.

ارسال التعليق

Top