◄إنّ الهدف الذي بُعث الإنسان له، وخُلق لأجله هو توحيد الله – تبارك وتعالى – في العبادة والطلب والتضرع، وإنّ الإسلام عندما يعلم التوازن والقصد والاعتدال في جميع الأمور، وسائر شعب الحياة؛ فإنّه كذلك يوجهنا إلى اتخاذ منهج الاعتدال والوسطية في باب العبادة، ويلقننا بأن نبتعد عن الإفراط والتفريط في هذا الباب، وكما أنّ الإنسان قد يصبح ملحداً أو زنديقاً بالتفريط في العبادة؛ فكذلك قد يكون فريسةً لبدعة الرهبانية التي قد تعرض لها أهل الكتاب (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) (الحديد/ 27).
وبهذه المناسبة يجب علينا أن نتذكّر تلك المبادئ التي علَّمنا الإسلام على أساسها الاعتدال في العبادة.
إنّ الله – تبارك وتعالى – قد خلق الإنسان وركبه بجزئي الجسم والروح، كما أنّ الروح لها حاجات ومقتضيات تخصها كذلك؛ فإنّ الجسم له ضرورات وحاجات، وكما أنّه يجب تلبية المقتضيات الروحية؛ كذلك، فإنّه يجب تلبية المقتضيات الجسدية، وكما أنّ هناك حياة للبدن والجسد كذلك، فإنّ هناك حياة للروح، وكما أنّ الجسد يصيبه الجوع والعطش ويتألم، فكذلك الروح يتألم على النوائب، خلاصة القول: إنّ هناك مقتضيات ومتطلبات لا تعد ولا تحصى للروح والجسم، والإنسان محتاج إلى أن يلبي متطلبات كليهما دون أن يفرط في جانب، أو يميل إلى جانب؛ فإذا مال إلى تلبية متطلبات الجسد، وتغاضى على الروح، فسيُعد من الحيوانات والأموات، قال تعالى عن الكفار: (أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (الأعراف/ 179)؛ ذلك لأنهم كانوا قد أهملوا المقتضيات الروحية، ولم يدركوا مدى خطورة النتائج التي تظهر عند الغفلة عن الاهتمام بها؛ لذلك خاطبهم الله تعالى بالميتة قائلاً: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) (الأنعام/ 122)؛ وذلك لأنّ أرواحهم كانت ميتة.
ثمّ إذا اشتغل الإنسان بتلبية وتكميل المقتضيات الروحية؛ فسيدخل في صف الملائكة التي لا تأكل ولا تشرب، وتواصل عبادة الله – تبارك وتعالى – ليل نهار؛ لذلك لما زعم المشركون، وأثاروا الشبهة بأنّ النبي (ص) يأكل الطعام (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ) (الفرقان/ 7)، رد الله – تبارك وتعالى – على شبهتهم بقوله: (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (الأنعام/ 50)؛ أي: أنّ الأكل والشرب من مستلزمات حياتي كسائر البشر ما دمت حيّاً، مما يعني أن تلبية المتطلبات الجسدية والروحية من الحاجات الطبيعية التي لا يقدر الإنسان أن يستغني عنها، وهي الميزة التي يُعرف بها النوع الإنساني.
هذا وإنّ العبادة تفي بالمقتضيات الروحانية للإنسان، كما أنّ المتطلبات الجسدية لا تكتمل إلا في صورة إكمال الضرورات، والحوائج المادية، وإذا أصيب الإنسان بالغلو في العبادة؛ فهذا سيترك آثاره السلبية على متطلباته البدنية، وإن كان النبي (ص) كثير التضرع والعبادة والتقوى، حتى إن قدميه كانتا تتورمان من كثرة القيام والصلاة، وعلَّم أمته كذلك الاجتهاد والمجاهدة في العبادة، وعدم التقصير فيها قدر الإمكان، ولكن هذا الاجتهاد سيكون جائزاً ومقبولاً ما لم يؤثر على المتطلبات المادية والجسدية للإنسان، ولم يقع الظلم على المتطلبات الإنسانية الطبيعية الأخرى، والمشاهد أنّ هذه المتطلبات دائماً تصير فريسة الاعتداء والظلم عند الغلو في العبادات؛ لذلك علمنا النبي (ص) في كثير من أحاديثه اتخاذ منهج الاعتدال والقصد في العبادات، عندما رأى النبي (ص) ميل بعض الصحابة – رضوان الله عليهم – إلى الغلو في العبادات؛ فأنكر عليهم بقوة وشدة ولقنهم القصد والاعتدال؛ وهو ما رواه الإمام البخاري بسنده إلى أنس بن مالك (رض) يقول: جاء ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي (ص) يسألون عن عبادة النبي (ص)، فلما أخبروا كأنهم تقالوها؛ فقالوا: وأين نحن من النبي (ص) قد غُفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر؟ قال أحدهم: أمّا أنا فإني أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر، ولا أفطر، وقال آخر: أنا اعتزال النساء؛ فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله (ص)؛ فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؛ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي؛ فليس مني"[1].
هذا وإنّ الأساس الملح الآخر للاعتدال في العبادات؛ هو أنّ الإسلام كدين شامل، ونظام متكامل للبشرية بأكملها لم يحصر الأجر والثواب فقط في إنجاز العبادات الظاهرة؛ بل إنّه قام بتوسيع دائرة الأجر إلى أن احتوى واشتمل على جميع أنشطة الحياة إذا تم فيها إخلاص النية، ومراعاة توجيهات الإسلام أثناء إنجازها، والظاهرة المشاهدة أن هناك كثيراً من الأعمال والأشغال التي ينجزها، والأنشطة التي يقوم بها الإنسان في حياته، خلال ليله ونهاره وهو يزعم بأنها تتعلق بالدنيا وتخص به، وتمس حاجاته الشخصية، وليس لها علاقة بالدين، ولكنه لا يدرك أنّه إذا قام بمراعاة الأسس والآداب الشرعية خلال إنجاز أعماله، وتلبية متطلباته، وإيفاء مقتضياته هذه؛ فإنّه سيستحق الأجر والثواب من عند الله – تبارك وتعالى – وقد بين الحبيب المصطفى (ص) في أحاديثه بأنّ المسلم يفوز بالأجر في نومه ويقظته، في أكله وشربه، في جلسته وخلوته، في تحركاته وانشغالاته، في تجارته وعمله، حتى في قضاء حاجته إذا راعى التوجيهات الشرعية؛ وهو ما رواه أصحاب الصحاح والسنن عن أبي بردة قال: "بعث رسول الله (ص)؛ أيا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن، قال: وبعث كل واحد منهما على مخلاف؛ أي: (الإقليم) قال: واليمن مخلافان، ثمّ قال: "يسِّرا، ولا تعسِّرا، وبشِّرا، ولا تنفِّرا"؛ فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه كان قريباً من صاحبه أحدث به عهداً، فسلم عليه فسار معاذ في أرضه قريباً صاحبه أبي موسى فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه؛ فقال: يا عبدالله كيف تقرأ القرآن؟ قال: أتفوقه تفوقاً، قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"[2].
وقد وصلت التوجيهات النبوية في هذا الباب إلى هذا الحد بأنّ النبي (ص) قال بأنّ المسلم يثاب على وضع لقمة في فِي زوجته كما يثاب على قضاء حاجته منها؛ حيث روى أبو ذر (رض) أنا ناساً من أصحاب النبي (ص) قالوا للنبي (ص): يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: "أوَ ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون، إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال فكان له أجر"[3].
فإذا ترسخت هذه الرؤية الإسلامية الشاملة في تفكير الإنسان المسلم حول تصور الأجر والثواب؛ فلن يعتبر إنجاز شؤونه الدنيوية وحاجاته الشخصية، من الأكل والشرب، والنوم والقعود، والجلوس مع أهله، والعمل والتجارة من فضول الأعمال، وأشغال الدنيا أبداً؛ بل إنّ هذه الرؤية المتوازنة التي ستكون قادرة على إقامة جسور الاعتدال والتوازن بين الدين والدنيا: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص/ 77).
أمّا الأساس الثالث الذي يطالب منا: الاعتدال والتوازن في العبادات هو: المداومة والثبات في العبادات.
أمّا الأساس الرابع للتركيز على منهج الاعتدال والتوازن في العبادات هو أن طبيعة الإنسان ومزاجه معرضان إلى التغير والتبديل دائماً، وإن أعمال الإنسان وتحركاته وأنشطته تكون دائماً تابعة لطبائعه وأهوائه؛ فإذا نشطت طبيعة الإنسان؛ فقد ينجز أعمالاً كبيرة وهائلة في فترة قصيرة، ولكن إذا لم ينشط؛ فيثقل عليه عمل هين صغير، وهذا الأمر يكون خارج إطار الاختيار، وكثيراً ما يعجز الإنسان أمام رغباته وميلان طبعه، وهذا التلون والتحول السريع يكون له تأثير كبير وعميق على حياة الإنسان العملية.
والآن أدركنا كيف تتأثر الحياة العملية والأنشطة الإيمانية للإنسان من طبعه وميوله، ولا يبقى إيمان الإنسان المسلم في حال واحد؛ بل تحدث تحولات في كيفياته الإيمانية: "والإيمان يزيد وينقص" كما أنّ حماس الإنسان للعمل لا يبقى على حال؛ حيث إنّه مُعرَّض دائماً للتثبيط في الهمة، ويصيبه التعب والمرض والإرهاق وغيرها من الأعراض؛ لذلك لا يكون الإنسان دائماً في حالة واحدة، وفي جاهزية للمواصلة الطويلة في العبادات، بل العبادة المتوازنة والمعتدلة هي التي يقدر الإنسان على إنجازها في الظروف كلها؛ لذلك توجهنا الأحاديث النبوية الكريمة لمراعاة نشاط الطبع في النوافل والمستحبات وغيرها؛ حتى نكون قادرين على الخشوع والخضوع المطلوبين، وأداء العبادات بوجه أحسن وطريق أكمل.
ويزعم كثير من الناس بأنّ الله – تبارك وتعالى – يعجبه تلك العبادة التي يتعب الإنسان نفسه فيها، ويتحمل المشقة والشدة؛ أي أنها زعموا، ثمّ حددوا المشقة والتعب معياراً لقبول العبادة عند الله – تبارك وتعالى – والفوز بأجره وثوابه، ثمّ تعبوا فيها باسم الشرع والدين، رغم أنّ طبيعة الشرع تعارض وتنافي هذا الزعم ولا تقبله، وقد قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185). وقد ورد هذا التوجيه الرباني بعد تلك الرخصة التي منحتها الشريعة للمسافر في الصوم، كما تم إكرام المسلم المسافر بهذه الرخصة؛ لكيلا يشق الصوم عليه، ولا يقع في حرج المعصية، ثمّ يقضي صيامه براحته بعد أن يقضي سفره.
وهناك آية أخرى تعارض هذا الزعم بصراحة، وتبدد هذه الفكرة والتصور؛ حيث يقول – تبارك وتعالى –: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 286). وأن دين الله يسر لا مشقةَ فيه، ولا يطلب الله من عباده ما لا يطيقونه، فمن فعل خيراً نال خيراً، ونعرف طبيعة الدين الوسط بصراحة أكثر، وبوضوح أكبر بقول النبي (ص): "إنّ الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة"[4].
وخلاصة القول؛ أنّ العبادة التي خُلق الإنسان لأجلها وبسببها إذا لم يُسمح فيها الغلو والمبالغة والإفراط والتفريط، ولم تقبل الشريعة مظاهر عدم التوازن والاعتدال، وحثت ولقنت المسلمين كلهم بالتمسك بالقصد والاعتدال والتوازن، فما بالنا بالمجالات الأخرى للدين والحياة؟ وذلك ما توضحه لنا جميع النصوص والمفاهيم الشرعية بأن نتذكر دائماً مراعاة الاعتدال والوسطية في كل شعبة، وفي كل مجال من مجالات الحياة.
الهوامش:
[1]- أخرجه: البخاري في صحيحه، كتاب النكاح، برقم: (5063)، ومسلم في كتاب: النكاح كذلك، برقم: (3469)، والنسائي في سننه، برقم: (3230)، وأحمد في مسنده، برقم: (13882، 14078، 14409)، والبيهقي في كتاب: النكاح، برقم: (13830، 13831).
[2]- أخرجه: البخاري في صحيحه، كتاب: المغازي، برقم: (4341، 4344)، وباب النهي في طلب الإمارة والحرص عليها، برقم: (1733)، وفي استتابة المرتدين، برقم: (6123)، ومسلم في كتاب: الإمارة، برقم: (4822)، وأبو داود في كتاب الحدود، برقم: (4356)، وأحمد في مسنده، برقم: (20194)، والبيهقي في سننه، كتاب: المرتد، برقم: (17272).
[3]- أخرجه: الإمام مسلم في صحيحه، كتاب: الزكاة، برقم: (2376)، وأحمد في مسنده، من حديث أبي ذر الغفاري (رض)، برقم: (22090، 22099) والبيهقي في سننه، كتاب: الزكاة، برقم: (8075).
[4]- أخرجه: البخاري في صحيحه، كتاب: الإيمان، برقم: (29-39)، والنسائي في سننه كتاب: الإيمان وشرائعه، برقم: (5051)، والبيهقي في كتاب: الصلاة، برقم: (4929).
المصدر: كتاب المنهج الإسلامي للوسطية والاعتدال
ارسال التعليق