ينبئ استشراف الواقع الحالي عن ترشّح ثنائية حضارية مستجدّة للتدافع على الواجهة التاريخية، متمثّلة في الكتلتين الغربية والإسلامية، وهذا التولّد التاريخي المنتظر والناضج في أحد جوانبه، ليس في حّلٍّ واستقلالية عن كافة ارتباطات الصراع السالفة له، المختزَنة داخل رؤى وجودية وفلسفية ودينية تتحدّد بها كل من الحضارتين، والمتجلّية عبر محطّات الالتقاء والتصادم المتنوّعة. وهو ما يُضفي على المسألة خطورة وأهمية في حجم الانبعاث المرتقَب، المحافظ على الأصول والمقصاد العليا، المتخلّدة والباحثة عن التشكّل المحدث.
ولعلّ أكثر الأسئلة المطروحة على الطرفين إحراجاً اليوم تتعلّق بأي رؤية يعرض كل منهما رسالته على الآخر، وضمن أي منهجية يعي غيره ويفكّر به؟ سوف نتجنّب الرؤى الاختزالية التي ترى في الغرب حضارة مادية فاقدة لأي بعد ديني أو إنساني، ليُوجز في قوة نفعية وآلة عمياء، أو تلك التي تقارب الحضارة العربية الإسلامية بصفتها وعي مرحلة تاريخية غير قادر على الانبعاث المستجدّ في التاريخ. نقدّر أن تلك الرؤى متجاوزة للعديد من الحقائق والوقائع التي تشكّلت عبرها كلّ من الحضارتين، ومسقطة للمخزون الشامل لكلا الطرفين، الممتدّ من الروحي إلى المادي، ومن المعرفي إلى العملي. إذ لم يخل الغرب عبر مسيرة تشكّله الممتدّة من الإغريق والرومان، مروراً بالقرون الوسطى مع التبني الصريح والشامل للمسيحية كرسالة إيمانية، من أبعاده الأسطورية والدينية. وبالمقابل، لم تخلُ حضارة العرب ولم تنتفِ منها إبداعاتها المادية والمعرفية والحضارية، ذات الوجه المدني والعمراني، حتى تُختزل في رسالة روحية ذات وجه كنَسي. وضمن هذا الاعتراف والإقرار بشمولية الرسالة الحضارية للطرفين يُطرح مشروع التعارف المرنو إليه.
لم تخل العلاقة، خلال الطوّرات التاريخية للحضارتين، من تصادم وعنف، صاغ صورة الآخر لدى المقابل، من حيث تحديد هويته ورسالته واستراتيجيته. تبلغ تلك الصورة قبحها وعدوانيتها، ولا إنسانيتها أحياناً، في تمثلات فولكلورية هوامية وإسقاطية تنأى عن الصدق، حيث يتحوّل تعريف العرب وحضارتهم بأنهم مبدعو قطع الأيدي، وتشريعاتهم مختزلة في إباحة تعدّد الزوجات، وإضافتهم الحضارية لم تتجاوز ترويض الناقة والبعير وصقل السيف. أو يتمّ النظر إلى الغرب من الطرف المسلم بكونه مجال الفوضى الجنسية وانعدام الخُلق والدين، وأن لا إشكاليلات اجتماعية مطروحة على أهله سوى اغتنام اللذائذ أياً كانت. تتحكّم تلك المقولات وشبيهاتها بالجانبين، من دون رؤية معمّقة للآخر، من حيث كينونته وإسهامات، حتى صارت تهيمن حتى على الأنتلجنسيا، من الجانبين، قوالب بدئية ومسبقة مضادة للصواب الذي هو أحق أن يُتّبع. فقد رسم الاستشراق في بدايته صورة فولكلورية عن الشرق، يمتزج فيها تمثيل السحر بالتوحّش. ولا تزال الصورة توجّه الوعي الغربي وتستحكم بإدراكاته، وهو ما يُلزِم الغرب بالانخراط في عملية تطهير ذاتية لإعادة الصواب إلى الوعي المقلوب لديه. فمن أولى مشروطيات فلسفة التعارف الاحتكام للندّية والتساوي وتجاوز العنجهية الحضارية التي تقسّم الإنسانية إلى "بدائي" و"متمدن"، وحضارات "تقليدية" وأخرى "حداثية"، من أجل تدمير الثقة لدى الآخر في كيانه وعالم رموزه المغاير.
فإحدى الدرئيات المانعة للرؤية الواقعية لدى الغرب، كامنة في الضعف الاقتصادي والعلمي الذي يخيّم على نظائره، مما جعله يحكم انطلاقاً من المعيش والموجود. والصواب هو في تجاوز الموجود إلى المستبطَن، أي معانقة المنبع والمصدر، المتمثِّل في روح الحضارة الإسلامية والتوجّهات الأصيلة للتشريعات والمقاصد العليا. فلا يخفى أن عملية القراءة الغربية السالفة للشرق مع موجات الاستشراق المتنوّعة، كانت رهينة الالتحاق والارتباط بالآلة الاستعمارية المجتاحة للشرق، مما جعل التحرّر المنهجي والمعرفي للغوص في العقل الإسلامي منعدماً وميؤوساً منه، حتى راجت الكثير من الأحكام المغلوطة، التي لا يزال يستبطنها الغرب بطريقة لا واعية ويستهلكها بشره في إعلامه.
يُلاحظ المتابع لتاريخية المثاقفة الغربية العربية تطوّرات وقطائع مهمّته في ذلك. فبعد أن هيمنت قراءة الاتهام والاستنقاص للآخر على العقلين، طيلة فترات طويلة، لمحنا مساعي جادة من الجانبين للتعامل الرصين والموضوعي، القاطع والمتجاوز للمنهجية الرّينانية، التي طالما تهجّمت على العقلية الإسلامية ومقدّساتها. إذ تنشط اليوم في الغرب، في أقسام الإسلاميات، انشغالات علمية وإبستيمية بشأن التصوّف الإسلامي والفلسفة العربية مبرزة ثراء هذين القطاعين، رادة الاعتبار إلى مساهمتهما ودورهما في تشكيل العقل الإنساني الحديث بعيداً عن كافة تحيّزات المركزية الأوروبية، وإن كانت لا تزال ضيقة المجال. وبالمثل نجد أبحاثاً ودراسات مهمّة في الجامعات المغاربية بشأن الفلسفة الغربية، تبرز ما فيها من تطلّعات إنسانية رائدة. ولكن هذا التصحيح الذي يسير بخطى وئيدة، قد ترافقه بعض الارتدادات بعد أن ظننّا أنّ التصحيح قد استتبّ، وأنّ الغرب قد شرع في مراجعة ذاته، ولكنه يعاود السقوط مجدّداً في القوالب المتخلّدة عن العهود السابقة. فعندما يطرح السوسيولوجي الغربي المسألة الأصولية، مثلاً، فإنّه يطرحها بصفتها نتاج الوعي الديني الأحادي المنغلق، وإفرازاً طبيعياً لآليات اشتغال العقل الإسلامي. والظاهرة بالأحرى، في جانب أساسي منها، هي ردّ فعل غاضب ضد التدمير الهووي الذي سلكه الاستعمار سابقاً ويتمادى فيه الغرب حاضراً.
فأمام شتى التجارب، السالفة منها والحديثة، يتأكّد أنّ التعارف، كقيمة عليا محتكمة إلى الموضوعي والعلمي، هو المخرج الأوحد للفكاك من تكرار تجارب التصادم. وحتى وإن لاح التدافع بين الحضارتين كثيفاً وثقيلاً في الراهن الحالي، فالهمّ الإنساني يشغل الثنائي، وإن تناءت الأهداف وتضاربت المصالح. فمركزية استخلاف الإنسان ورسالته التعميرية للكون في الفلسفة الإسلامية، وانشغالات العقل الغربي بالإنسان، كما عبّرت عنها فلسفات الإنسانوية، تبدو الأساس الصلب التي سيبنى عليه العمل المستقبلي الموحّد بين اللذين طالما حسبناهما نقيضين، وصدرت الأحكام الجازمة بشأنهما: الشرق شرق والغرب غرب ولا يلتقيان.
المصدر: كتاب العقل الإسلامي.. عوائق التحرر وتحديات الانبعاث
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق