• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المجتمع واللغة

عبد اللّه العروي

المجتمع واللغة

نتكلم منذ عقود في وطننا العربي عن التعريب، ماذا نعني بالكلمة وإلى أي ظاهرة اجتماعية نشير بالضبط؟ هل نعني حالة طارئة لم نعرف مثلها في تاريخنا الطويل ولم يعرف مثلها أي مجتمع آخر، أم نعني حالة عادية نسبياً في تطوير الثقافات، يعانيها اليوم العرب وغير العرب، بعد ما عانتها في الماضي شعوب أخرى؟
لنذكر الواقع اللغوي في روسيا القيصرية كما وصفه لنا بإطناب القصاصون الروس... لنذكر حالة إيرلندا والهند بعد قرون من الحكم الإنكليزي... لنذكر حالة كيبيك داخل الإتحاد الكندي... لنذكر مواقف الحزب الشيوعي الصيني إزاء مشكلات اللغة والثقافة والكتابة الصينية... إنّ مجرد ذكر هذه الأمثلة، والقائمة غير محدودة، يلفت انتباهنا إلى أنّ هناك مشكلاً نظرياً يمكن أن نطلق عليه اسم مشكل اللسان المقوعد داخل المجتمع المتغير. لنرسم صورة موجزة لهذا المشكل العام.
قبل كل شيء، لابد من أن نعيد إلى الأذهان، أنّ اللغة المكتوبة واللغة المحكية ظاهرتان اجتماعيتان مختلفتان: لكل واحدة منهما تعريفات وأصول وآثار خصوصية. نتكلم هنا عن الظاهرة الصوتية فقط. نهتم بكلمة (هيدروجين) ونهمل هل نكتبها حرفاً أو رقماً أو رسماً. بعد هذا التوضيح نطرح السؤال التالي: هل نستعمل لغة واحدة أم لغات كثيرة؟
الواقع، أنّه لا يوجد مجتمع يستعمل لغة واحدة، إنّ المستويات اللغوية متفاوتة في كل مجتمع. نميّز هنا أربعة، ونرتبها من الأقل إلى الأكثر تجريداً واستقراراً:
اللهجات وهي المستعملة في الحياة اليومية. قد تكون من أصل واحد وقد تكون من أصول مختلفة. وكونها مختلفة الأصول لا يمنع تجانس المجتمع وتوحيد الدولة. كما أنّ وجود دولة قوية ومجتمع واحد لا يحتم إنصهار بعضها في بعض، رغم قوة التأثيرات المتبادلة. لا شيء في التجربة التاريخية يدل على أن ظاهرة اللهجات قد تختفي في المستقبل القريب، بل العكس هو الأرجح الKآنآن.
بجانب اللهجات يوجد لسان مكتوب وهو لهجة وقع عليها الاختيار لسبب من الأسباب لتكون وسيلة التخاطب الرسمية: هو إذن لهجة الطبقة الحاكمة في البلاد. قد تكون لهجة مستعملة فعلاً داخل التراب الوطني، وقد تكون لغة أجنبية فرضتها ظروف سياسية أو ثقافية دينية محددة. تصبح اللهجة المذكورة لساناً عندما تجري عليها عملية تنميط وقوعدة. فتستطيع بذلك أن تبطل مفعول التغير في مخارج الحروف والتراكيب وقاموس المفردات. من هنا تنشأ قضية الفصاحة التي تعني أساساً معارضة كل تحول من أي نوع كان.
بجانب اللسان المقوعد المستعمل في المحافل الرسمية، تروج لغات اصطلاحية تلجأ إليها فئات متخصصة مثل أصحاب الصناعات أو المعارف. فهناك معجم البنائين، ومعجم الأطباء والصيادلة، ومعجم الوراقين... إلخ. تتجدد هذه المعاجم باستمرار ويزداد عددها بقدر ما يرتقي المجتمع ويتفنن في حياته. لماذا نقول لغات، مع أنّ الأمر يتعلق في الظاهر بمفردات مبتكرة أو مستعارة؟ لأنّ التطور قد يتعدى أحياناً المفردات إلى التراكيب. أو لسنا نتكلم عن لغة الفلاسفة، ولغة النحاة ولغة الشعراء، وكون اللغة الاصطلاحية تبتعد عن اللسان المقوعد في المجتمع الواحد يفسر لنا كيف تميل جماعة الاختصاصيين بطبعها إلى استعمال لسان أجنبي. أخيراً، إذا كانت الصنائع والعلوم الطبيعية، التي تصف العالم المادي المحيط بنا، تتسبب في تعدد اللغات الاصطلاحية، فإنّ العلوم النظرية، تلك التي لا تقنع بالوصف وتحاول الكشف عن العلل، تعمل على إبداع الرموز. من المعلوم، أنّ الرياضيات تتقدم بقدر ما تبدع من رموز. إن الصفر الذي ثوّر علم الحساب ليس مفهوم الفراغ المجرد، بل ذلك الرقم أو «النقش» الذي يعبر عن المفهوم بصورة دائرة فارغة. ومن المعلوم كذلك أنّ الكيمياء الحديثة انشئت عندما ابدعت رموز حرفية تمثل الجواهر. إنّ قضية القياس الكمي، أساس العلم الحديث، تتلخص في البحث عن رموز مناسبة.
لم نتجاوز هنا ضبط ما يجري على ألسنة الجميع، الكل يتكلم عن لغة العامة ولغة الخاصة، عن لغة الصناع ولغة العلماء، غير أنّ البعض يظن أنّ هذا الكلام من قبيل الاستعارة وأنّ هذه اللغات متفرعة من لغة أصلية هي اللسان المقوعد - ما يسمى بلسان التلقين - في حين أنّها كلها مستقلة بعضها عن بعض. وهذا الاستقلال الفعلي هو ما يفسر لنا ظاهرة تساكن لغات من أصول مختلفة، تقوم في المجتمع الواحد بالأدوار الأربعة المذكورة.
بيد أنّ اللسان المقوعد، الذي يقوم بدور الوسيط بين بقية اللهجات واللغات، يؤدي على ذلك ثمناً غالياً، ألا وهو الجمود وعدم التطور. يتغير الكلم في المستويات الاخرى سوى اللسان المقوعد، وذلك لأنّه مقوعد، فهو بالتالي متأخر حكماً عن تطور المجتمع، افتراضاً أنّ المجتمع متطور فعلاً.
قلنا أنّ اللسان المقوعد - لسان النحاة لسان التلقين - هو لسان وسيط، تترجم إليه جزئياً كل لهجة فئوية عندما تتجاوز محيطها الضيق. إلا أنّ اللسان المقوعد في مجتمع ما، قد لا يمثل هذا الدور لسبب من الأسباب - والسبب في الغالب هو القهر والإستعمار - فيقوم بدور الوساطة لسان مقوعد دخيل. في هذه الحال يصبح اللسان الأول لهجة خصوصية ضمن اللهجات الفئوية الأخرى ويلجأ مستعملوه إلى اللسان الدخيل ليدركوا أفهام الفئات الأخرى، الاجتماعية والحرفية.
لقد رسمنا صورة الحالة فيكون فيها المجتمع راكدا نسبياً، ويكون فيها لسان ذلك المجتمع لغة اصطلاحية، تزاحمها لغات أخرى، فتدعوا إلى تبني لسان دخيل - عن طواعية أو عن إكراه - ليقوم بدور الوسيط الذي كان من المفروض أن يقوم به اللسان الأصلي. لقد تحققت هذه الحالة في فارس تحت الحكم العباسي، وفي روسيا القيصرية، وفي إيرلندا تحت حكم الإنكليز، ونجدها اليوم في الهند وفي كيبيك... وعندما نتكلم عن قضية التعريب، فإننا نعني حالة اجتماعية ولغوية قريبة مما وصفنا. قد تختلف حدتها من قطر عربي إلى آخر، قد يختلف الباحثون في أسباب نشأتها: هل بدأت مع الاستعمار الأوروبي أم نشأت مع تغلب العنصر الفارسي أو التركي داخل الخلافة الإسلامية؟


المصدر: كتاب ثقافتنا في ضوء التأريخ

ارسال التعليق

Top