تمهيد..
1- العبير الفني كرصيد احتياطي:
إنّ ضرورة البحث في مجال الفنون بعامة والفن المسرحي بخاصة تتعلق بمدى النفع الذي يجنيه المجتمع منه من جهة، وبمقدرة هذا الفن على جعل المجتمع يتحوّل أو يتبدّل أو يتطوّر. إنّ البحث في علاقة الفن المسرحي بالمجتمع، يهدف في ما يهدف إليه، إلى فحص الوضع البشري من وقت لآخر، وإلى إيجاد التوازن الضروري للفرد والجماعة الاجتماعية، تلك الحياة التي يعيشها في روبصة جزئية أو كلية. حتى يغدو عاجزاً عن الحراك أو التطور.
2- الإقتراض الضروري:
إنّ التعبير مهما كان نوعه ومهما كانت أدواته في شتى المجالات وبخاصة في مجالات العلوم الإنسانية وعلوم الفنون والفنون، ويعتبر الرصيد الإحتياطي، أو بالأحرى، النشاط الإستباقي من أجل ديمومة التقدم البشري. هنا يصبح العمل الفني الإبداعي ذلك الإفتراض الذي نضعه أمام الحياة البشرية لتلحق به نموذجاً يُحتذى، نموذجاً جميلاً، خالصاً، رائعاً، ودليلاً على الأمل. والفن المسرحي في هذا الإطار يغدو تلك الصورة التي نضعها أمامنا لنلحق بها، فنقتل الضّجر والسأم والملل. إنّه الشغف القوي الذي نحاول عبثاً أن نستقوي به على الموت بالحياة.
- بين النظرية والتطبيق:
يحتاج المجتمع المدني في كل زمان ومكان إلى الفنون وإلى أبحاث في مجال الفنون، من أجل الإضاءة على درجة التفاعل من عدمه، على ضفتي حياة الإنسان في التوحّش والتقدّم، وعلى عوامل القطع المعرفي والفن التواصلي في مسيرة البشرية نحو ما هو أسمى في التعبير عن الحياة.
فالمجتمع البشري ليس كناية فقط عن بنيات متعددة لها مجالات أو حقول تعتمد على العلم البحتة أو العلوم الصحيحة، أو على علوم لها أدواتها التي تجعلها قابلة للتقييم والتقويم والقياس والحساب، بل هو أيضاً عبارة عن بنيات في حاجة دائمة إلى نصفها الآخر، أي إلى نصفها البشري والإنساني.
فالإنسان هو سلوك وتفكير وانفعال وإبداع وتعبير جمالي، ولابدّ أن يكون لهذه الحقول المعرفية أو العلوم من آليات تعمل بموجبها وتحتّم بحوثاً لتطويرها، وتبيان مدى الفائدة والضرورة التي تعود بها على المجتمع. وإذا كانت الآليات الداخلية لتلك الحقول المعرفية تمنع عليها البحث العملي في تطويرها كما يدّعي البعض، فهذا ليس من الإنصاف في شيء، الأمر الذي يدفعنا للبحث عن آليات أخرى، فما هي؟
1- البحث في المجال التطبيقي للفنون:
تتركّز الأبحاث في ميادين الفنون في مجالها التطبيقي. إذ أنّ المجال النظري للأبحاث الخاصة في العلوم الصحيحة كالرياضيات وغيرها، على أهميتها، تُستخدم للتطبيق في الأنشطة الحياتية كافة وفي الإختراعات والحسابات والمقاييس والأوزان والعمران والتكنولوجيا إلخ...
والسؤال: أي نوع من البحوث في مجال الفنون، المجتمع المدني هو في حاجة ماسة إليها؟
المقصد هنا، هو الأبحاث التطبيقية، وليس الأبحاث النظرية. إنّ الأبحاث النظرية هي في علاقة ضرورية فيما بينها، لكنها في علاقة أكثر ضرورة مع الأبحاث التطبيقية من أجل التصويب والتطوير، ومن أجل التحسين من أدائها ومن مردودها فيما خصّ المتلقّي. يستفيد المتلقّي مباشرة من التطبيق. فالمجال التطبيقي هو الإنجاز، إنّه العمل المنجز. إنّه الفن، هكذا هو الفن، إنّه إنجاز: إنّه مشروع منجز ومطبّق وعملي، إنّه أداء وعمل، يُحسّ ويشمّ ويُرى ويُسمع ويفكَّر، إنّه عمل يبعث على الإنفعال كما على التفكير...
من هنا يأتي القول بضرورة استخدام المنهجية العلمية في البحوث في مجال الفنون، ومثلها هنا كمثل البحوث الأخرى في المجالات كافة.. ولابدّ لهذه المنهجية من أن تقود إلى الهدف من هذه البحوث. ولابدّ من التذكير في هذا السياق بضرورة التمييز: بين المنهجية العامة والمنهجية الخاصة في مجال هذه البحوث وبين الذاتي والموضوعي وبين العام والخاص ولابدّ من التمييز بين المنظر والباحث والناقد... ثمّ نسائل أنفسنا بعد ذلك عن الرابط بين المجال النظري والمجال التطبيقي بالنسبة للأبحاث في مجال الفنون.
2- الرابط بين ما هو نظري وما هو تطبيقي في مجال الفنون
إنّ علاقة التطبيقي بالنظرية هي كعلاقة التكنولوجيا بالعلم. ولابدّ من الإقرار بأسبقية التطبيقي – العملي والحسي – الميداني على ما هو تعقيد وتنظير. والإبداع في مجال الفنون بعامة وفي مجال الفن المسرحي بخاصة مرتبط بالتطبيق كطبيعة عمل لهذه الفنون.
ولم تعد النظريات المرتبطة بالفنون مجرّد تيارات فكرية وفلسفية ذات بعد تجريدي أو مفاهيمي، بل أنّها تعدّت ذلك مستفيدة من أدوات جديدة في التفسير والتحليل والتواصل ما بين البنيات والوحدات والمعاني والإشارات في الأعمال الفنية. وها هي تتبنى علوم السيمياء والسيمانطيق والألسنية لرصد التحوّلات الدلالية لتراكيب ووحدات العمل الفني، من أجل تسهيل فهم أبعاده ومراميه سواء في المسار التركيبي أم في المسار التحليلي. وإن تلك العلوم أعلاه هي نظريات بحدّ ذاتها ويمكن القول أنّها قد حلت محل النظريات الكلاسيكية القديمة والتقليدية.
إنّ هذه النظريات تقرّب بالأعمال الفنية من جماهيرها ومن المختصين بها من جهة وهي تمكن هذه الأعمال والفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص من تطوير آلياتها الذاتية، وتجعلها في مسار التطوير على الدوام.
بعد إنجاز العمل الفني المسرحي على سبيل المثال، تكون البداية في علاقة التطبيقي بالنظري انطلاقاً من انطباعات الفرجة والنقد اليومي، سواء الصحفي أم المتخصص. بعد ذلك تأتي التراكمات، لتوضع جميعها في منظومة البعد التنظيري للنقد الفني العلمي المسرحي، المنضبط، أي الذي يرسو على قواعد معيّنة، وله ضوابط أكيدة، متسلّحاً بأدوات بعض النظريات العلمية الحديثة أو متبنّياً لها جزئياً أو كلياً.
إنّ نظريات التلقي للعمل الفني المسرحي تتيح مجال التفسيرات الممكنة لأهمية هذا الفن بالنسبة للمجتمعات. ولابدّ أن تكون وظيفة النقد لها أبعاد على هذا المستوى.
النقد عمل إبداعي بموازاة العمل الفني الإبداعي المقدّم. وهو نقد إبداعي لأنّه نقد متحرّك وليس نقداً جامداً، يظلّ أسير القواعد السابقة والنظريات غير المتجددة.
3- وظيفة النقد:
يأخذ النقد الفني دوره البارز في بلورة وإنضاج التواصل ما بين الفن المسرحي والمجتمع.
إنّ إيضاح ما ظلّ مبهماً من العمل الفني وتحليله وجعل معان وتفسيرات لبعض التفاصيل أو لمجمل العمل، هو استكمال للهدف الأساسي له.
المقصود بالنقد هنا هو النقد كعمل إبداعي بموازاة العمل الفني الإبداعي المقدّم. وهو نقد إبداعي لأنّه نقد متحرّك وليس نقداً جامداً، يظلّ أسير القواعد السابقة والنظريات غير المتجددة. وهو نقد يعتمد التفسير والتأويل بديلاً عن التحليل الكلاسيكي، ومع تعيين نقاط التقارب والتباعد بين الناقد والباحث والمنظّر، فإنّ هؤلاء يتداخلون في أعمالهم وأنماط تخصّصهم.
فالناقد باحث بشكل من الأشكال، حين يحتاج إلى عمق تاريخي وبُعد نظري كمرجعيات قوية وموضوعية وعلمية لتخمين نقده لعمل فني ما، وإسناده.
غير أن مردود النقد إجتماعياً يظلّ أقل بكثير من تأثير عمل فني فرجوي كالمسرح مثلاً، ممتع ومحرّك للمشاعر والإنفعالات والأفكار. ذلك أن من يهتم بالنقد هم قلة قليلة من المهتمين، سواء كان النقد صحفياً أم في طيات الكتب المتخصصة.
ويظل الإطلاع على النقد الصحفي اليومي أكثر إنتشاراً لدى الأفراد والمهتمين، نظراً لتداوله الأخبار الثقافية والفنية منها.
من هنا تشديدنا على أنّ البحث الحقيقي في مجال الفنون بعامة والمسرح بخاصة هو في الإنجاز والتحقيق للإبداع وللجديد، إنّ العمل الفني هو بحث لا أكثر ولا أقل.
وعلى هذا الصعيد تتحقق وتلبى احتياجات المجتمع المدني إلى أبحاث في مجال الفنون، لأن علاقة الفن بالمجتمع هي علاقة ميدانية، علاقة خشبة مباشرة، تفاعلية، علاقة فكرية وشعورية في ذات الوقت، علاقة صورة وصوت، وتواصل مباشر في مجال الحس، إنها هي كما في المسرح. لا للبحث عن السينما يهمني على سبيل المثال بقدر ما يهمني مشاهدة فيلم سينمائي رائع جديد، وإبداعي. ولا ينفعني كثيراً كفرد اجتماعي بحث عن الفن التشكيلي بقدر ما يهمني معرض رسوم ولوحة مرسومة أتفرّج عليها مباشرة. لا يفيدني بحث عن المسرح كمواطن اجتماعي وكمجتمع، بقدر ما يهمني وينفعني حضور عرض مسرحي حي.
- المجتمع المدني والمسرح:
1- احتياجات المجتمع المدني:
إذا اعتبرنا أنّ حاجات المجتمع المدني هي على علاقة وطيدة وضرورية بالأبحاث في مجال الفن المسرحي، فالسؤال ما هي طبيعة وحدود الأبحاث في المسرح، ثمّ ما هي طبيعة وحدود حاجات المجتمع المدني التي هي في علاقة معها؟
كما سبق وذكرنا، يعتبر قمّة البحث الإبداعي في مجال الفن المسرحي، هو العمل الفني، أي العرض المسرحي.
إذن لا يستفيد المجتمع إلا من ترجمة عملية لما هو نظري وفكري أوّلاً، ثمّ أنّ المسرح لا يمكنه الخروج من جلده والإنقلاب على طبيعته، ثانياً.
المسرح هو في أحد مقوّماته فن التمثيل. إنّه تمثيل لصورتنا البشرية وإلقاء للضوء بشكل ممتع ومبهر على هذا الوجه الكالح للحياة البشرية في معظم الأحيان.
فإذا اتفقنا على أنّ العرض المسرحي هو المبحث الحقيقي في مجال المسرح، فالسؤال هو كيف يجيب هذا البحث على حاجات المجتمع المدني؟ وقبل الإجابة على هذا التساؤل لابدّ لنا من محاولة تحديد حاجات المجتمع في هذا الإطار. لا يمكننا وضع قائمة بحاجات المجتمع المدني ثمّ نقول كيف يجيب المسرح عليها أو كيف يلبيها، فالحاجات هنا تتحدد ضمن دينامية العلاقة مع الفن المسرحي فقط، وكل ما هو خارج هذه العلاقة من حاجات لا تعني المسرح أو البحث في مجال المسرح، على سبيل المثال:
- ضرورة الإحتفالية: المسرح هو أحد الأشكال الإحتفالية، والمجتمع بحاجة من وقت لآخر إلى مسرحة أفعاله وصورته من أجل إعادة التأكيد على وجوده. فكل حفلات التدشين والأعياد الرسمية وأعياد الميلاد والتجمّعات الخطابية، إلخ.. هي ضرورية للمجتمع، فاكتمال دورة المجتمع صعوداً هي في هذه الحركة اللولبيّة التطورية..
- تمثيل صورة الإنسان والعلاقة مع الذات ومع الآخر.
- الدورة الإفتراضية وضرورتها.
- التواصل الاجتماعي.
- حاجة الإنسان إلى التسلية والمتعة، إن درجة المتعة العالية تجعل الإفادة أقوى وأشمل.
2- دورة المجتمع بين التوحش والتثقف:
إنّ إكتمال دورة المجتمع بين التوحش والتثقف سوف تؤول لصالح التثقف في حال أوجدنا الأرضية اللازمة لها. تتكون هذه الأرضية المادية من عدة معطيات: الإنسان المتخصص والكفؤ، والأمكنة والفضاءات المجهزة لهذه الغاية والمختصة بكل نشاط ثقافي أو فني، والتعرّف على النشاط البشري في مجال الفن منذ الطفولة مروراً بالمدرسة وحتى المرحلة الجامعية وما بعدها، وحريّة التعبير عن الذات وعن الآمال والتوقعات والهواجس واكتشاف الذات واكتشاف الآخر، ثمّ إيجاد الدعم الرسمي المادي والبشري، وتغطية كل المساحات على مستوى الوطن، وإيجاد آلية للإتصال أفقياً بين الأمكنة والأنشطة والتنسيق بينها، والخروج في كل فترة زمنية بإحصاءات موضوعية وبنتائج (مؤتمرات وقدرات متخصصة).
المسرح هو في أحد مقوّماته فن التمثيل. غنّه تمثيل لصورتنا البشرية وإلقاء للضوء بشكل ممتع ومبهر على هذا الوجه الكالح للحياة البشرية في معظم الأحيان.
- المسرح والتواصل الاجتماعي:
1- ماذا نعني بالتواصل الاجتماعي؟
نعني بالتواصل الاجتماعي، التواصل الذي يحصل بين جماعة إجتماعية وجماعة أخرى، بين الفرد والجماعة، وبين الأنا والآخر، ثمّ بين الذات وصورتها لدى الفرد ولدى الجماعة.
2- كيف يسهم المسرح في تحقيق التواصل الاجتماعي؟
المسرح يؤمن هذا التواصل، ليس لوحده بالضرورة، فهناك فنون أخرى ووسائل إتصال وتواصل عديدة، لكن المسرح عند الفرجة يجعل هذه المساحة في قاعة المتفرّجين، مساحة للإنسانية (الأنسنة). فضاءً للإحتكاك والتواصل بشكل مباشر وغير مباشر.
إنّ الذي يجري في الإحتفال يطال الجميع متّحدين كما يطال كل فرد على حدة.
إنّه يوحّد الشعور ويشرّك التوقعات ومداها.
إنّ هذا التواصل على أهميّته في قاعة المشاهدين، هو جانب من جوانب التواصل الأخرى التي يؤمنها المسرح والعرض المسرحي.
أمّا النواحي الأخرى من التواصل الاجتماعي فهي الاختلاف في الرأي والتقويم والنقد، بين الأفراد، وفي التربية على الثقافة ونموها، وتنمية الذائقة الفنية. إنّ التواصل أيضاً يكون في اللقاء بين الناس خارج وداخل قاعة العرض، إنّه في الدعاية والإعلان للعمل المسرحي...
- بناء المتفرّج واسهامه في بناء وانتاج المعنى:
إنّ تعوّد المتفرّج على الفرجة المسرحية وتواصله الدائم مع هذا النشاط، إلى جانب وجود الأعمال المسرحية الهادفة والقيّمة والممتعة، تنشئ لديه ذائقة فنيّة عالية. وإذا كان كل عمل فني هدفه النهائي ذلك المتفرّج – المتفرّج هنا هو المتلقي النهائي للأعمال الفنية، إذ من أجله تقوم هذه الأعمال، بغض النظر عن المتعة التي ينشدها المعدّون فإنّه هو الذي يسهم بشكل غير مباشر في تطوير العمل الفني المسرحي وفي إعادة الإنتاج والتركيب، كيف؟
كلما كان المتلقي يمتلك ذائقة فنيّة عالية ويتمتع بثقافة متقدّمة كلما إنتبه المعدّون من مؤلفين ومخرجين وممثلين إلى هذه النقطة وحسّنوا من أدائهم الفني. وكلما تمتّع المتفرّج بحسّ نقدي، كلما أحسن الإنتقاء والنقد والتعليق. وكلما نقد موضوعياً وجمالياً، كلما أسهم في تطوير هذا الفن ودفعه قدماً إلى الأمام. إنّه المتفرّج الذكي والمثقّف والذوّاقة...
- المسرح والتواصل العمودي في نمط الفرجة:
1- بناء المتفرج وعلاقته بالتواصل العمودي في الفرجة المسرحية:
إنّ إعداد المتفرّج له علاقة بما يسمى: التواصل العمودي في الفرجة المسرحية. والتواصل العمودي يكون بإنتظام الأنشطة المسرحية وبإدارة ثقافية لها من المعنيين، من أجل إيجاد آلية دائمة من مواكبة الأعمال المسرحية بحسب الأعمال والمراحل ودرجات الوعي، دون ثغرات أو فراغات أو حلقات مفقودة، التي من شأنها أن تسبب بعملية قطع معرفي وفني لدى الإنسان بين فترات زمنية معيّنة، حتى ولو كانت قصيرة قياساً إلى عمره.
2- آلية انتظام الفرجة وتطوّرها:
إنّ انتظام الفرجة وتواصلها في المدارس والأندية والمسارح تجعل من الإنسان المتفرّج، مشاهداً منسجماً مع ذاته وذا عين ثقافية استثنائية. إنّ عدم التواصل على المستوى العمودي يجعل الإنسان غير قادر على مواكبة وتلقي كل جديد. وينتج كذلك متلقياً فاشلاً وعاجزاً وغير منتج وغير مبدع. إنّ التلقي هو إبداع أيضاً. إن صقل المعنى وإعادة إنتاجه وإعطاء المعنى النهائي للتعبير الفني، يكون من خلال المتلقي – المتفرّج – المشاهد، هذا الإنسان الذي في حال انقطع التواصل عمودياً معه على مستوى الذات الثقافية والذات النفسية والفكرية والشعورية الفنية، فإنّه لن يتمكن من الإسهام بشكل فعال في إنتاج المعنى.
- صورة الآخرة في التمثيل المسرحي:
1- انا الممثِّل وازدواجية الفن التمثيلي:
في المسرح نمثّل صورتنا عندما نمثل، صورتنا كما نشتهي أو نرتأي، كما هو تصوّرنا عنها. وكذلك نمثل صورة الآخر/ ألغير. إننا ونحن نتفرج، نتصور أن تلك الصورة هي صورة الآخر وليست صورتنا، كما أننا ندرك أنها صورة كل واحد منّا، بحسب آلية الإسقاط والتوقع والبعد الثقافي والتذُوق الفني.
يتخلّى الممثل عن أناه بشكل مؤقّت ليخلق أنا ثانية وثالثة، فيستطيع أن يصور لنا ذواتنا وصورنا. إنّها أنا الممثل التي تمثل الدور والحالة. إنّ هذه الإزدواجية في الفن التمثيلي وهذا الإنفصال المؤقت لذات الممثل ودخولها في أنوات أخرى، وهو ما يبعث على الدهشة والاستغراب والمتعة لدى المتفرّج. وأنّه لولا هذه المقدرة على الدخول والخروج للمثل بين أنا وأخرى وبين ذات وأخرى، لما حصلنا على التمثيل وعلى السحر وعلى المتعة والدهشة.
إنّ هذا الجهد والتعب الآدمي وهذا الإبداع والإبتكار، هو نتيجة صقل موهبة موجودة بواسطة التدريب المستمر والثقافة الجسدية والفكرية والنفسية.
فالشخصية المسرحية الممثلة، سواء كانت درامية أو ملحمية، لها ذات ولها أنا. إنها الذات الأخرى بالنسبة للممثل التي تتحرك ويطلق لها العنان فتلبسه. إنّها الأنا الأخرى للممثل التي تحاكي ذاتها الأخرى: هنا يجد المتفرّج نفسه يتفرّج على ذاته وعلى صورة تلك الذات فيخاف منها أو يخاف أن يقترب منها، يحبها أو يكرهها، يقف موقفاً نقدياً، ويرى أيضاً بالإسقاط صورة الآخر ذاتاً وأناة.
- المسرح إلى أين؟
1- مسرح الصورة:
ما هو مصير المسرح؟ ومآله إلى أين؟ هل ضرورته باقية؟ إنّه يستمد شرعة بقائه من ضرورته المستمرة. إنّه أمام صراع في الآن، يصارع من أجل البقاء. إنّه أمام تحد للسينما والتلفاز والانترنت والساتلايت ووسائل الإتصال الحديثة. لكن المسرح رغم ذلك قد أدخل تقنيات جديدة واستعان بالصورة السينمائية والمتلفزة، واستعان بتقنيات صوتية ورقمية، ووسائل إضاءة متطوّرة. وهذا لا يفقر من أهميته ولا ينقص من أصالته، كونه من الأساس فناً مركباً ومحصّلة فنون عديدة تتحد ويتم توليفها بالإخراج.
2- عصر الصورة والتقنيات الحديثة:
إنّه مهما تقدّمت الوسائل الحديثة والتقنيات، ومهما تطوّر عصر الصورة والمرئيات، سيبقى المسرح أباً للفنون وضرورياً للمجتمعات والأفراد، فناً مدهشاً وصعباً وخلّاقاً، له تأثير مباشر وغير مباشر على الإنسان.
إنّ عصر الصورة هو غير قادر على إلغاء الفضاء المسرحي والخشبة المسرحية، والتمثيل الحي العلاقة الحسية بين المتفرّج والممثل. وهو غير قادر أيضاً على إيجاد بديل للإحتفالية التي يتفرّد بها المسرح. إنّ عبارة هنا والآن التي لن تتكرر في كل عرش مسرحي لا توجد في بقية الفنون.
خلاصة..
إنّ تأمين اللقاء الحميمي بين الناس هو من مهام المسرح الأولى. إذا اعتبرنا أنّ الفن المسرحي، من بين الفنون الأخرى، فناً إحتفالياً فرجوياً بامتياز فذلك لأنّه:
- يتفرّد بالإحتفالية، كونها تشاركية: هنا يطرح العمل المسرحي هماً ما ويوحّد الفرجة، حيث تنتشر عدوى التفاعل الإيجابي أو السلبي بين المتفرّجين مع ما هو مرسل من على خشبة المسرح.
- يتفرّد باللقاء: فالمسرح هو فن اللقاء البشري الحي دون منازع، ولقد بتنا جميعاً عطشى لهذا اللقاء في عصر العولمة.
قد يختلف وضع المسرح بين أن يكون أداة للتغيير أو أن يكون أداة للتعبير. فهو كأداة تغيير يعتبر أداة نضالية وثورية لها بعد استراتيجي في نشدان التقدّم الاجتماعي والسياسي. وهو كأداة تعبير ليس سوى هامش ضرورية متروك من قبل السلطة للذين هم خارجها من أجل أن يتسلوا بالتعبير عن هواجسهم ومواقفهم.
· المراجع والمصادر:
1- مراجع باللغة العربية:
- إيلام، كير، سيمياء المسرح والدراما، ت: رئيف كرم، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1992.
- بعلي، حفناوي، مدخل في نظرية النقد الثقافي المقارن، منشورات الاختلاف، الجزائر، والدار العربية للعلوم، ناشرون، بيروت، 2007.
- بينيت، سوزان، جمهور المسرح: نحو نظرية في الإنتاج والتلقي المسرحيين، ت: سامح فكري، القاهرة، مركز اللغات والترجمة، أكاديمية الفنون، 1995.
- نيتشه: فريديريك، مولد التراجيديا، ت: شاهر عبيد، ط1، عام 2008، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية، سوريا.
- مصطفى، مشهور، "صورة الآخر في فن التمثيل المسرحي، مقاربة سوسيولوجية (منهجية ونظرية) في التأسيس لتكوين صورة الآخر"، مجلة فن وعمارة، الجامعة اللبنانية، العدد الثاني والثالث، 2010.
- أوبر سفيلد، آن، مدرسة المشاهد، منشورات إجتماعية، باريس، 1981.
- مصطفى، مشهور، إعداد الممثل أم إعداد المتفرّج، دار الفرابي، بيروت، 2006.
- سعد، صالح: "الأنا – الآخر وازدواجية الفن التمثيلي"، عالم الفكر، المجلّد 25، العدد 1، 1996، الكويت.
- ماير خولد، ف، في الفن المسرحي، الفرابي، ت: شريف شاكر، ط1، 1979، بيروت.
- عوّاد، علي، الحضور المرئي، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق، بيروت، ط1، 2008.
2- المراجع باللغة الأجنبية:
- CAZENEUVE, Jean, sociologie du rite, p.u.f, paris 1965.
- DUVIGAUD, Jean, sociologie du theatre, p.u.f, paris 1965.
- UBERSFELD, Anne, I’ecole du spectateur, Ed. Sociales, paris 1981.
- PAVIS, Patrice, voix et images de la scene, p.u.f, paris 1982.
- BARTHES, Rolland, elements de semiologie, in du seuil, paris communication, n4, 1968.
الكاتب من لبنان مخرج ومؤلف مسرحي وممثل. ناقد وباحث في مجالي المسرح وعلم الإجتماع الجامعة اللبنانية – معهد الفنون الجميلة
المصدر: مجلة الخشبة/ العدد 1 لسنة 2013م
ارسال التعليق