• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حقوق الإنسان.. رؤية مقارنة بين الإسلام والغرب

د. مصطفى المحقق الداماد

حقوق الإنسان.. رؤية مقارنة بين الإسلام والغرب

  في البداية لابدّ من تقديم تحليل فلسفي وكلامي لقضية "حقوق الإنسان" من منظار الإسلام والمسيحية، ومن ثمّ نعرض إلى تحليلها ثانية من زاوية حقوقية وسياسية حديثة.

فكلمة ""حقوق الإنسان" بمعناها الاصطلاحي الغربي، ليست عريقة في تاريخ الفكر والحقوق الغربيين، فمثلاً عند قراءتك لكتب أكبر فلاسفة عصر التنوير، ونعني به "كانت"، الفيلسوف الذي عنى بالإنسان وبالكرامة الإنسانية أكثر من أي فيلسوف آخر، الذي جعل منهما المنطلق والركيزة الأساس التي تقوم عليها فلسفته العملية، لا نجد أثراً لمصطلح "حقوق الإنسان" فيها. والواقع انّ هذا المصطلح، تبلور من خلال الثورة الاجتماعية والسياسية التي حدثت في فرنسا، ولذا استطاع هذا المصطلح أن يحتفظ بمضمونه وخطابه السياسي إلى يومنا هذا، بحيث لا يمكننا اليوم التفكيك بين المصطلح وخطابه السياسي الذي نما وترعرع في احشائه. ومن هنا فإن مصطلح "حقوق الإنسان يعنى بالدرجة الأساس بمخاطبة الحكام والرؤساء الذين يصادرون الرأي المخالف، فأهم العناوين الحقوقية التي تنضوي تحت لافتة "حقوق الإنسان" هي: حق الحياة، حق الحرية، حق المساواة، حق العدالة، حق المطالبة بالعدالة، والحكم بالعدل، حق التمتع بحماية القانون من أيّة أعمال تنتهك الحقوق الأساسية، حق الحماية من التعذيب، حق المحافظة على الشرف والسمعة الحسنة، حق اللجوء، حقوق الأقليات، حق المساهمة في الحياة الاجتماعية، حق حرية الفكر والوجدان والدين، حق الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات، الحقوق الاقتصادية، حق الاحتفاظ بالمال، حق التوظيف والعمل، حق تشكيل الأسرة، حق المرأة، حق التربية والتعليم، حق الحفاظ على الحياة الفردية للإنسان، حق الاختيار الحر لمحل السكن. ومن البديهي انّ الشرط الأوّل والأساس في تكريس هذه الحقوق وتحقيقها، هو عدم مصادرتها لحقوق الآخرين، وبإمكاننا أن نجدول هذه الحقوق في ضوء النظام المنطقي الذي يحكمها من الداخل بالشكل التالي:   1- حقوق الحرية الفردية: وهي: أ- حق المحافظة والدفاع عن النفس. ب- حق الحياة والصحة البدنية. جـ- حق حرية الاعتقاد الديني. د- حق الملكية الفردية. هـ- حق حرية التعلم والتعليم.   2- حقوق الحرية السياسية: وهي: أ- حق المساهمة في الأمور السياسية والاجتماعية من قبيل: حرية الصحافة والنشر. ب- حق تشكيل حرية الأحزاب والمجاميع.   3- الحقوق الأوّلية في المجتمع: وهي: أ- حق العمل. ب- التأمين الاجتماعي. جـ- حق التطور والتنمية الاجتماعية والثقافية. هذه فهرسة اجمالية للعناوين المتداولة في العالم الغربي المعاصر، المنضوية تحت لافتة حقوق الإنسان. وأما فيما يخص العالم الإسلامي فقد توصل المؤتمر العالمي للفكر الإسلامي الذي عقد في سبتمبر/ أيلول عام 1981 إلى انّ الإسلام ومنذ أطلالته الأولى كان قد اقرّ أكثر من عشرين حقاً من "حقوق الإنسان" كحق الحياة، حق اللجوء، حقوق الأقليات، الحرية في العقيدة، حق التأمين الاجتماعي، حق العمل والاشتغال، حق التعليم والتربية وحق التنمية والتقدم في المجال المعنوي وغيرها. وهنا لابدّ من الإشارة إلى انّ التعبير عن هذه القيم بـ"الحق" أو "الحقوق" جاء من خلال قراءة ماورد على لسان الفقه الإسلامي من تكاليف فقهية وأخلاقية تخاطب المكلفين وتحدد لهم وظيفتهم تجاه الآخرين. وبعبارة أخرى، فإنّ هذه الحقوق ما هي إلا بيان للتكاليف، التي وردت في لغة التشريع الإسلامي، والتي يعبر عنها فقهياً: بالواجب والمستحب... إلخ، ويطالب المكلف بأدائها والالتزام بها. وفي ضوء الوظائف والتكاليف تنشأ هناك حقوق للمكلفين. (وهذا يعني انّ النصوص الإسلامية لم تطرح فكرة الحقوق بادىء ذي بدء، بل طرحت فكرة التكليف. ونحن اليوم نستنبط هذا الحقوق من "التكليف".) ومن هذا السياق نفسه، استطاع علماء الدين المسيحيون أن يستنبطوا من "علم الأخلاق" المسيحي ومن التكاليف الملزمة للإنسان المسيحي، مجموعة حقوق للأشخاص الذين تخدمهم تلك الأعمال والتكاليف الأخلاقية، وعلى هذا المنوال نفسه تأتي مزاعم الديانة اليهودية القائلة بأن حقوق الإنسان تستمد ركائزها ومنطلقاتها من التوراة. وفيما يخص حقوق الإنسان، فأن اتباع الديانات الثلاث "اليهودية" والمسيحية" و"الإسلامية" يركزون بالدرجة الأولى على المبدأ القائل بأنّ الناس متساوون أمام الرب. وفي الوقت الحاضر فإنّ الحقوق التي ينادي بها اتباع هذه الديانات فيما يرتبط بالمشروع الغربي لحقوق الإنسان، هي في حقيقتها قيم أخلاقية، أي انّها تفتقر إلى الضمانات الاجرائية الحقوقية، والالتزام بها وعدمه، في غير الموارد التي تضر بالنفس أو المال، لا يستتبع ثواباً أو عقاباً في هذه الحياة. وفي مقابل هذه القيم، وعلى العكس منها نجد أنّ الهدف من حقوق الإنسان في المنظور الغربي، والتي تم الفراغ من صياغتها بشكل نهائي، واعلنت عنها رسمياً عام 1789 في فرنسا، هو اخراج هذه القيم الأخلاقية المعروفة لدى اليونان والرومان بـ"الحقوق الطبيعية" بالإضافة إلى أنها معروفة في الأديان الثلاثة من صفتها القيمية، وصياغتها صياغة قانونية، واعتبارها أداة للسلطة السياسية، وبالتالي منحها ضمانات تنفيذية واجرائية محددة وواضحة على الصعيد العالمي والإنساني. وتأتي هذه المحاولة لتبيين الفوارق الأساسية بين ظاهرة "حقوق الإنسان" كإفراز للمسار التاريخي والفكري والسياسي الغربي منذ البداية (منذ عصر فلاسفة اليونان) وحتى يومنا هذا وبين ما بشّرت به الشريعة الإسلامية من مبادئ وحقوق تنضوي في هذا المجال.   - ما المراد بحقوق الإنسان؟ حقوق الإنسان يستدعي هذا التساؤل وهو: لماذا أريد لكلمة "الإنسان" أن تكون هي نقطة الارتكاز في هذا المصطلح؟ لسنا هنا بصدد اعطاء إجابة وافية عن هذا التساؤل المشروع واستعراض الأدلة التاريخية والاجتماعية في هذا المجال، ولذا نكتفي بالإشارة إلى هذه النقطة فقط وهي: انّ العالم الغربي أو قل الدول الغربية ومن خلال التجارب التي مرت بها عبر تاريخها الغامض والمعقد وفي ضوء علاقات الصداقة والعداء التي خبرتها طيلة القرون المتصرمة، وخاصة في القرن الثامن عشر، انتهت إلى هذه النتيجة، وهي: ليس من الممكن ارساء حياة ملؤها السلام والمحبة إلا من خلال تجريد الإنسان عن كل الخصائص والمميزات التي تضاف إلى إنسانيته، أي عندما يكون هناك إنسان خال تماماً عن أي إضافة أخرى، كالدين والسياسة والنسب والحسب والعنصر واللون والجنس والجاه والمنصب والمال والثروة والسلطة. وبكلمة أخرى، إنسان دون أي اعتبار آخر. وعلى حد تعبير المناطقة "إنسان من حيث إنسان" لا من حيث كونه مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، أو أيّ شيء آخر. لا أسود ولا أبيض، لا غني ولا فقير، لا عالم ولا جاهل، لا حاكم ولا محكوم.. وإلخ. وبتحديد مدلول كلمة "الإنسان" في إطار مفهوم "حقوق الإنسان" بهذا المعنى فمن الطبيعي أن تكون هناك حقوق أخرى. ويراد بالحق هنا: أقل ما يمكن أن تتطلع إليه النفس الإنسانية وتطلبه بحكم طبيعتها وماهيتها، وهذا الحق لم يعطه أحد، وليس لأحد أن يسلبه من الإنسان. كما انّ هذا الحق لا يثبت في ذمة أحد، بل هو ثابت في ذمة الشيء. فهناك حق للإنسان في الحياة، وحق في الحرية، وحق في المساواة وإلخ. وهذا مغاير لما يعبّر عنه بحق الولد على الوالدين وحق الوالدين على الولد حق الزوجة على زوجها وحقه عليها. فهنا يثبت نوع من الحق في ذمة إنسان آخر مما يستدعي بالنتيجة إلى أن يقوم ذلك الشخص بواجب وبتكليف تجاه من ثبت له الحق في ذمته. إذن حقوق الإنسان هي جملة الحقوق التي تثبت له في شيء معيّن لا على شخص معيّن. والسؤال المطروح هنا هو: من أين تستمد الحقوق المنظورة في ظاهرة "حقوق الإنسان" شرعيتها؟ وما هو الأساس الشرعي التي تستند إليه؟ بالنسبة إلى الحقوق الإسلامية والحقوق المسيحية و... لها مصدرها المعنوي والغيبي، واما هذه الحقوق فمن أين تستمد شرعيتها؟ الشرعية التي توفر الضمانة الاجرائية ويترتب عليها الجزاء والعقاب. ولتوفير الغطاء الشرعي، لم يكن باستطاعة المؤسسين الأوائل لـ"حقوق الإنسان" أن يتشبثوا بهذا الدين أو ذاك أو بأي مرجع آخر، أضف إلى ذلك أنهم لم يكونوا متحمسين لهذا العمل، لأنّهم إذا استندوا إلى دين أو مرجع ما، فهذا يعني أنّ الإنسان المنظور لم يعد إنساناً من حيث هو إنسان. لذا كان عليهم أن يبحثوا عن شرعية هذه الحقوق والضمانة التنفيذية لها في نفس الإنسان ولوازم ماهيته، بالتسلسل المنطقي والذي يعود تاريخه إلى عصر التنوير. لقد وجد هؤلاء أن مفهوم "الكرامة" الإنسانية، هو من أهم وأوضح الظواهر التي تلازم إنسانية الإنسان، ويمكن اعتبارها اصلاً بديهياً مسلّماً باتفاق كل الناس وفي كل عصر ومصر. ولا يحتاج الاستناد في إثبات ذلك إلى أي مصدر أو مرجع. كما انّ الأديان كافة هي أيضاً تنص على ذلك. فالكرامة بنفسها وبغض النظر عن كل الاعتبارات والحيثيات الأخرى مودعة لدى كل الناس فرداً فرداً، إذن الخطوة الأولى هي اعتبار الكرامة الإنسانية "الأصل الأوّل" الذي يدخل ضمن طبيعة حقيقة الإنسان، لا انّها حق من حقوق الإنسان. وهنا لابدّ من خطوة ثابتة تمنح هذا الشخص (باعتبار أنّ المقصود من الكرامة كرامة الفرد) طابعاً عاماً مقبولاً لدى الجميع. وهذه خطوة تتمثل بطرح مبدأ "المساواة"، فالمساواة التي يتفق عليها جميع الناس، إنما هي في الكرامة التي بامكانها اقناع جميع الناس بضرورة الدفاع عن حقوقهم الطبيعية (الماهوية) واثبات وجود حق المحاسبة وانزال العقاب بكل من يحاول أن يلتف على حقوق الآخرين على الصعيد الإنساني، وبالطبع فإنّ التسليم بهذا المعنى العام غير كافٍ، بل هناك مسألة تنفيذ العقاب وضمان التنفيذ، فيما إذا حاول شخص ما أن يعتدي على الحق، إذ يجب أن يحاسب بنحو من الأنحاء ويعاقب على مستوى الإنسانية جمعاء. وتبقى مسألة ضمانة التنفيذ التي توفر الجانب الفاعل والمباشر (active) في هذا الاستدلال بالنسبة إلى الكرامة والمساواة. بمعنى انّ الكرامة والمساواة من الأمور المودعة في طبيعة الإنسان، وأما العدالة، فهي تشكّل الجانب التنفيذي الصادر من جهة عليا، والذي يكون من الخارج. والعدالة هي الظاهرة الوحيدة التي يتفق عليها جميع الناس، والتي تعني في خطابها كل من لديه سلطة على الآخرين ولو بنحو من الانحاء. وبعد أن بحثنا فلسفة حقوق الإنسان وكيف نشأت، وما هي مضامينها والضمانات اللازمة لتطبيقها، نعرض الآن لبيان أسباب الاختلاف الموجود بين الفهم الغربي للإنسان، وبالتالي لحقوق الإنسان والفهم الديني وبالخصوص الفهم الإسلامي. ولبيان لماذا كل هذا الاختلاف بين الفهم الغربي للإنسان ولحقوق الإنسان، والفهم الديني والإسلامي، خاصة في هذا المجال. فيبدو انّ الاختلاف يعود بالأساس إلى الاختلاف في الرؤية. وبتعبير آخر يمكن القول: انّ الاختلاف يكمن في كيفية توظيف رؤيتين أو تصورين مختلفين، أحدهما التصور الذي يطرحه الغرب، والآخر، التصور الذي تقدمه الأديان السامية، والإسلام خاصة، عن الإنسان. ففي الأديان السامية، وبحسب ما ورد في القرآن الكريم، فإن "الله" تعالى هو محور الرؤية الكونية التي تتبناها هذه الأديان. والإنسان بمعناه الحقيقي، هو الشخص الذي يخلص في حياته وفكره وعمله لله تعالى. وبناءً على ذلك، فإنّ الكرامة الإنسانية بحسب الفهم الديني، مصدرها الاخلاص لله والفناء في ذاته وتقوى الله تعالى. وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). وأمّا الفهم الغربي للإنسان ولموقعه، فيختلف عن الفهم الديني تماماً. فالفكر الغربي يعني بالإنسان عناية فائقة، ويمنحه الأصالة والمركزية في جميع خلجاته الفكرية. وبالطبع فإنّ هذه الأصالة والصدارة التي يوليها الفكر الغربي للإنسان، لها خلفية تاريخية عريقة تعود إلى ما قبل سقراط، حيث كان يعتقد آنذاك بأنّ الإنسان هو الأصل، وهو المعيار والملاك، وبه تقاس كل الأشياء. وكان هذا أصلاً فلسفياً ساد في ذلك الوقت، وجاءت أساطير اليونان، ومن بعدها المذاهب الفلسفية لتكرس هذا المبدأ وتعتبره أحد أبرز منطلقاتها وأسسها التكوينية ومصدر إلهامها. فنجد آلهة اليونان والعالم وما حدث فيه من مجريات وأحداث تدور مدار الإنسان ورغباته. وبمرور الزمن تسربت هذه العقيدة إلى الديانة المسيحية الأوروبية، ونعني بها المسيحية التي لم يكن اتباعها في البداية من اليهود، بل كانوا يدينون بديانات أخرى غير اليهودية. وكانت النتيجة ان حل الإنسان محل الرب وأصبح هو المحور، وأما الرب فأصبح في خدمة الإنسان، وفي خدمة رغباته ونزعاته. وقد أدّى التعامل مع الذنب على أساس انّه أمر له ماهية ويجب النجاة منه ودفعه بأي شكل من الأشكال إلى استيحاء صورة على أساس ثيولوجي تقضي بضرورة أن يضحي بالإله – الإنسان – (الإله الذي أصبح إنساناً) على هيأة السيد المسيح، وان فداء السيد المسيح نفسه لإنقاذ البشرية من الذنب في حقيقته يصب في خدمة الإنسان (الإنسان الذي أضحى هو المحور) من دون أن تكون هناك أيّة منفعة لصالح الرب أو السيد المسيح. وبذلك أخذ "الإنسان المحور" في التراث اليوناني الغربي مكان "الله المحور" في الدين السامي كأصل ديني مسلّم به. أمّا الإنسان في المنظار الإسلامي، فله طابعه الخاص به، فهو إنسان فطر على توحيد الخالق (دين الفطرة) ويشكل الله تعالى المحور الأساس والأصيل في وجوه وكيانه، وبعبارة أخرى تكون الغلبة في الدين المسيحي لفكرة "الإنسان المحور"، وأما في الإسلام فالغلبة لفكرة "الله المحور". ومن الطبيعي أن تقوم الكنيسة بعدة محاولات لتحديد اطلاق "الإنسان المحور" خلال قوانين الكنيسة. ولكنها في النهاية استطاعت قوة "الإنسان المحور" ان تحرر الإنسان الغربي من تلك القيود. ويمكن تلخيص الانعكاسات والآثار التي تركتها فكرة "الله المحور" في الأديان السامية وخاصة في الإسلام وفكرة "الإنسان المحور" في الثقافة الغربية فيما يخص حقوق الإنسان بما يلي: حقوق الإنسان المستنبطة من الشرائع السماوية تأتي في إطار إرادة الله تعالى ومشيئته ولا يمكنها الخروج على إرادته بأي حال من الأحوال. وعندما يدور الحديث عن حقوق الإنسان في الإسلام، فإنّ الإنسان الذي تعنى به هذه الحقوق ليس الإنسان المطلق، بل هو الإنسان المرتبط بالله سبحانه وتعالى، وكذا الحال بالنسبة إلى المسيحية. في حين ان حقوق الإنسان بالمفهوم الغربي لا تقبل بكل ألوان التحديد والتقييد، لتحافظ بالنتيجة على اطلاقها. وهذا الاختلاف الموجود أسفر عن مناقشات ومباحثات عديدة دارت بين اتباع ومؤيدي "حقوق الإنسان" بمفهومها الغربي من جهة، وبين اتباع المذاهب من قبيل الكنيسة الكاثوليكية واتباع الإسلام من جهة أخرى. انّ هذا الحد الفاصل بين حقوق الإنسان المطلقة وحقوق الإنسان المقيدة بقيود دينية أدت إلى ظهور العديد من المناقشات والمباحثات بين المسلمين بصورة رسمية وبين المسيحين في مختلف الأزمنة والأمكنة. فما بحثناه هو تحليل فلسفي وكلامي للموضوع. والآن نعرض إلى السير التاريخي للقوانين والمفردات الموضوعية، في خصوص حقوق الإنسان في الغرب، ومن ثمّ نحاول تسليط الأضواء على الواقع الراهن لحقوق الإنسان هناك.   - تدوين حقوق الإنسان في الغرب: نشير هنا إلى فهرسة الاعلانات والمواثيق الصادرة لحد الآن في مجال حقوق الإنسان:   1- إعلان حقوق الإنسان في فرنسا: أوّل إعلان لحقوق الإنسان في فرنسا صدر في شهر آب/ اغسطس عام 1789م. ويشمل هذا الاعلان على مقدمة و17 مادة. وقد تم درجها ضمن القانون الأساسي لفرنسا الذي تم التصويت عليه فيما بعد. وكان لهذا الاعلان أثره في الاعلان العالمي لحقوق الإنسان أيضاً.   2- الاعلان العالمي لحقوق الإنسان: وقد تم التصويت على هذا الاعلان في العاشر من كانون الأوّل/ ديسمبر سنة 1948 بقرار الجمعية العامة للأُمم المتحدة رقم 217. وفي هذا الإعلان، اكتسبت فكرة حقوق الإنسان طابعاً عالمياً بعد ان كانت معروفة ضمن أطر ضيقة ومحدودة. واعطت جميع الدول عهوداً ومواثيق على احترام هذه القوانين، ويشتمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على وثيقة ومقدمة وثلاثين مادة.   3- الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان: تم التصويت على هذه الاتفاقية بتاريخ 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1950 في روما. وقد الحقت بهذه الاتفاقية حتى عام 1966 العديد من البروتوكولات. وتتضمن هذه الاتفاقية 66 مادة، وتعد من أكمل النصوص التي تتعلق بحقوق الإنسان. وفي ضوء هذه الاتفاقية التي تم التوقيع عليها من قبل الدول الأعضاء في "المجلس الأوربي" اكتسبت قضية حقوق الإنسان ضمانة إجرائية وقانونية وتعهدت الدول الأوربية الموقعة على احترام هذه الحقوق والالتزام بمضامينها، كما اعطت هذه الدول الحق لكل الأشخاص في المطالبة بتطبيق هذه المقررات. وفي هذه الاتفاقية تم تقديم اقتراح بتأسيس محكمة، مهمتها النظر في الشكاوى التي تتعلق بانتهاك القرارات الصادرة عن حقوق الإنسان.   4- الإعلان الاجتماعي الأوربي: تم التصويت على هذا الإعلان في 18 تشرين الأوّل/ اكتوبر 1961 في مدينة تورن. وهو يهدف إلى احقاق الحقوق الاجتماعية لجميع المواطنين في هذه الدول بالتساوي، ودون أدنى تمييز عنصري أو عرقي أو جنسي أو ديني أو سياسي. ويغلب على هذا الاعلان الطابع الاقتصادي ويسعى إلى رفع المستوى المعاشي، وتحسين أوضاع الشعوب الأوربية في المدن والأرياف.   5- اعلانات حقوق الإنسان في القارة الأمريكية: وقّعت القارة الأمريكية بدورها لحد اليوم على العديد من الاعلانات والاتفاقيات والمواثيق في مجال حقوق الإنسان، نشير إلى بعضها: أ- لجنة حقوق الإنسان الخاصة بالدول الأمريكية، وقد بدأت أعمالها سنة 1960. ب- الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، والتي تم التصويت عليها في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1969م. جـ- الاعلان الأمريكي لحقوق الإنسان ومهام الإنسان، الذي صوّت على عام 1948 في مدينة بوغوتا. د- المواثيق الدولية لحقوق الإنسان في السادس عشر من كانون الأوّل/ ديسمبر عام 1966. كما صوتت الجمعية العامة للأُمم المتحدة على ميثاقين آخرين، يعنيان بالجانب الحقوقي والسياسي. وهما يقعان من حيث الأهمية والقيمة في الدرجة الثانية بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ويمكن أن نعدهما مكملين له. أحدهما يعنى بالحقوق المدنية والسياسية، ويشتمل على مقدمة و53 مادة، والآخر يختص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويشتمل على مقدمة و31 مادة.   - حقوق الإنسان وسلطة الغرب: في الوقت الراهن ينظر الغرب إلى مسألة حقوق الإنسان، كأنّها مختصة بالإنسان الغربي، أما العالم الثالث والدول الرازحة تحت نير الظلم والاستعمار، فلا يعير لها أي حق. فعندما يتحدث عن حقوق الإنسان في العالم الثالث تشم من حديثه رائحة نوايا وأهداف سياسية خبيثة ومغرضة، وهذا ما أدّى إلى ان يفقد العالم الثالث ثقته بهذه المؤسسة ويشكك في مصداقيتها. فعلى الرغم من كل القرارات والاعلانات التي أشرنا إلى بعض منها، نرى الغرب في كثير من المواقع يقوم بأعمال لا إنسانية في بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية تحت لافتة تصدير مبادئ الإنسانية والحضارة والمدنية. انّ التاريخ الأسود للاستعمار بشقيه القديم الحديث في بلدان هذه المناطق يبقى عالقاً في ذاكرة الشعوب إلى الأبد، ولا يمكن أن ينسى بأي حال من الأحوال. وإلى الآن لازالت الدول الإسلامية تُنتهب من قبل المستعمرين بمختلف الأساليب والحيل، وتصادر ثرواتها وذخائرها المادية والمعنوية من قبل الدول الغربية الكبرى. وإلى جانب كل ألوان الظلم والاجحاف هذه نجد أنّ الغرب لا يكفّ عن المناداة بشعار الدفاع عن حقوق الإنسان وهذا يعود بالدرجة الأساس إلى انّ الغرب يرى حقوق الإنسان حكراً عليه. والشاهد على مدّعانا هذا هو سكوت المجاميع الغربية ازاء جرائم واعتداءات الصهاينة في فلسطين، بل دعمها وتأييدها. ولا يفوتنا أن نقول بأنّ الغرب هو العرّاب في تأسيس (الكيان الصهيوني) والذي يسعد النموذج البارز لانتهاك حقوق الإنسان في العالم الثالث. كما لا يكلف الغرب نفسه مشقة النظر في كل هذه القنابل المحرقة التي تصب على النساء والأطفال والمشردين من أبناء فلسطين، ويمر منها بصمت مشوب بالرضا. وإذا تقدم بمشروع للسلام، فلن يكون مشروعاً عادلاً يضمن حقوق الفلسطينيين المظلومين، بل لأنّه يهدف من ورائه تأمين مصالح الصهاينة العنصريين. ومن هنا يتضح لدينا، انّ الحضارة الغربية في حقيقتها قائمة على أساس العنصرية، وهذا مما لا يتفق مع التوجه العالمي لحقوق الإنسان. انّ مفهوم حقوق الإنسان في الواقع الغربي المعاصر اتخذ طابعاً فردياً، في حين انّ الإنسان في الرؤية الإسلامية يعدّ كائناً اجتماعياً وعلى صلة وثيقة وحميمة بمجتمعه. أضف إلى ذلك، انّ حقوق الإنسان في الغرب اضحت في الوقت الراهن أداة تجارية وسياسية لكن الإنسان في الأديان وفي الإسلام خاصة، عليه أن يحرر نفسه من الداخل ويحذر من الوقوع في مستنقعات الرذيلة والفساد. وأخيراً فالدين الإسلامي يرى في الإنسان أميناً على الرسالة الإلهية التي حملّها إياه، وترى الفكر الإسلامي يحاول دائماً أن يمزج بين المجالات الاجتماعية والمجالات الفردية والخاصة، ويصهرهما في بوتقة واحدة، من أجل خلق إنسان متكامل ومتعادل في جميع الأبعاد والمجالات.   المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 85 لسنة 1996م

ارسال التعليق

Top