منزلة هذا العنصر في القصة القرآنية:
لم يغفل القرآن الكريم – بالطبع – القيمة الكبرى التي يمكن أن يحملها تحديد المكان والإشارة إليه في إغناء محتوى القصة وتكثيف مدلولاتها وإيحاءاتها النفسية والروحية والتاريخية.
والمكان في القصة القرآنية – وفي أية قصة أخرى – يأتي في الدرجة الثانية من الأهمية والضرورة بعد عنصر الزمن، ففي حين لا يمكن لأي عمل قصصي – مهما كان – أن يستغني عن الزمن كموجه ومسير للأحداث وباعتباره الظاهرة المقترنة دائماً مع الحدث ووليدته، نرى أنّه قد يستطيع في بعض الأحيان الاستغناء عن العنصر المكاني فتأتي الأحداث عارية من تحديد الوعاء المكاني الذي جرت فيه، اللّهمّ إلّا إذا فهمنا المكان على أنّه المظاهر الطبيعية والبيئية المغلفة للأحداث ففي مثل هذه الحالة تكون ضرورة ذكر المكان في مستوى ضرورة ربط خيوط الأحداث بالوحدات الزمنية.
وبناءً على ذلك فإنّ مفهومنا للمكان في هذا الفصل هو ذلك المكان الذي تواضعنا على إطلاق اسم معين عليه تمييزاً له عن غيره، أي؛ أعلام الأمكنة، فليس قصدنا هنا المكان بمعنى البيئة وما يتعلق بها من معالم طبيعية وإنسانية، فالمكان – بهذا المنظار – يعتبر من العناصر التي أولتها القصة القرآنية أهمية عُظمى لما له من تأثير كبير في ترسيخ مفهوم القصة وتهيئة ذهن القارئ لتقبله.
ولو تحدثنا عن المكان ودرسناه على ضوء هذا المفهوم لطال بنا المقام لأنّ جميع القصص القرآنية تأخذ بنظر الاعتبار هذا العنصر بنسب متفاوتة من التركيز، ومن أجل أن لا تخلو هذه الدراسة من الإشارة التي مستوى الدور الذي يلعبه عنصر البيئة في إيصال المفاهيم الإلهية إلى ذهن الإنسان، لا بأس هنا أن نذكر نموذجاً قرآنية يوضح – إلى حد ما – مدى الأهمية التي أعارتها القصة القرآنية لهذه المكونة الحيوية من مكونات العمل القصصي.
لاح لي في هذا المجال أذكر قصة العبد الصالح ومروره بالقرية الخاوية على عروشها – على حد تعبير القرآن الكريم – لما لعنصر البيئة في هذه الحادثة من دور هام في إيصال المفهوم القرآني منها؛ وهو إثبات قدرة الله تعالى المطلقة على إحياء الموت.
وهذه هي الآية القرآنية: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) (البقرة/ 259).
والذي يهمنا من هذه الآية القرآنية هو هذا المقطع بالذات الذي يتوافر على تهيئة وإعداد ذهن القارئ – من خلال التركيز على الجانب البيئي من الحدث – للاقتناع بقدرة الخالق اللامحدودة على نشر الموتى مهما تقادم عهدهم بالموت، ومهما عمل فيهم معول الفناء والعدم.
المشهد الذي يجسمه لنا القرآن بأسلوبه التصويري المعجز هو مشهد قرية بكلّ ما تحمل هذه الكلمة وما تستدعيه في أذهاننا من معاني الحياة والحركة اللتين يتمخض عنهما تصور قرية مأهولة بالسكان، بعد أن نجسم هذا المعنى في أذهاننا يفجؤنا التعبير القرآني بهذه العبارة التي ستقلب كلّ تلك المعاني التي تمثلناها في أذهاننا رأساً على عقب: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا).
هذه العبارة بكلّ ما تحمله من بلاغة وقدرة غير متناهية على احتواء المعاني المتكاثرة في تلك الكلمات المعدودة.
وبانسياب هذه العبارة إلى الأذن تتداعى إلى أذهاننا بل أنفسنا كلّ ما يتعلق بالخراب والموت والفناء من معانٍ وصور قوية وعنيفة، ثم تأتي عبارة العبد الصالح التعجبية المندهشة المبهوتة لتوصل تلك المعاني إلى أوجها: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا).
مثل هذه العبارة كفيلة بأن تدفعنا إلى استحضار صورة العبد الصالح المحلقة بذهول واندهاش الجائلة بين أطلال القرية المتهاوية وتلك الهياكل العظيمة النخرة المبعثرة هنا وهناك الموشكة على أن تتحول إلى تراب تذروه الرياح.
هذه العبارة والوصف السابق للقرية: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)، تضافرا معاً ليهيئا في الذهن أرضية الإذعان لقدرة الله المطلقة على الإحياء مهما كان موضوع هذا الإحياء ودرجته من التلف والانعدام.
بعد هذه الإشارة الخاطفة إلى دور العنصر البيئي في القصة القرآنية وكونه يشكل مفردة من مفردات عنصر المكان في القصة، نعود الآن إلى دراسة عنصر المكان في القصة القرآنية من منظارنا.
قلنا إنّ المكان – بحد ذاته – لا يحتل في القصة القرآنية تلك المكانة والمنزلة اللتين تحتلهما العناصر الأخرى وفي مقدمتها عنصر الزمن اللّهمّ إلّا إذا كانت طبيعة الحدث تقتضي تحديد هذا المكان، كأن يكون هذا الحدث مرتبطاً بالمكان ارتباطاً وثيقاً بحيث يستحيل وقوعه في مكان آخر، وكأن يكون ذكر المكان ضرورياً لإشاعة بعض المفاهيم والمعاني في ذهن القارئ، أو كأن يكون الحدث متمتعاً بأهمية تاريخية بالغة بحيث تستوجب هذه الأهمية تحديد المكان بخصائصه ومواصفاته دفعاً للشبهات والتزاماً بالأمانة التاريخية، وفيما عدا ذلك يأتي مسرح الحدث نكرة بشكل كامل أو شبه كامل ومثل هذه الحالات كثيرة جداً في القرآن لدرجة تثير لأوّل وهلة التعجب والاستغراب بحيث إنّها دفعت الكثير من المفسرين والمؤرخين إلى الخوض في مثل هذه الموضوعات التي تركها القرآن الكريم يحيط بها الكثير من الغموض والإبهام.
والحقيقة أنّنا لو أخذنا بنظر الاعتبار الهدف الرئيسي الذي توخاه الخالق تعالى من قصص القرآن الكريم لزال أي تعجب واستغراب في هذا المجال، ولأراح المؤرخين والمفسرين أنفسهم من عناء لا طائل من ورائه للحصول على معلومات لا تؤثر قليلاً أو كثيراً في تعزيز مفهوم القصص القرآنية، بل إنّها – على العكس من ذلك – قد تنال من قدسية ونزاهة الأخبار التاريخية التي ضمها القرآن الكريم بين دفتيه، لأنّنا نرى البعض منهم – إرضاء لفضوله ورغبته في إكمال المعلومات التي سكت عن تفصيلها أو ذكرها القرآن الكريم – يجيز لنفسه حتى الاعتماد على مصادر أعدها أو زيفها أناس عرفوا على مر التاريخ بعدائهم الشديد للإسلام (أعني اليهود وإسرائيلياتهم).
ونحن لا نملك في هذا المجال إلّا أن نؤكد – كما أكد غيرنا – على ذلك القياس المنطقي المعقول الذي يعتبر أفضل موقف يمكن أن يتخذه الإنسان المسلم الحريص على إسلامه وقرآنه ألا وهو (السكوت عما سكت القرآن عنه)، فلو كان في تحديد وتوضيح تلك المبهمات والمجهولات ضرورة لكان القرآن أوّل المبادرين إليها.
ومن الطريف حقاً أنّنا لو استقرأنا جميع القصص القرآنية التي جاءت فيها مثل تلك النكرات استقراء دقيقاً يأخذ بنظر الاعتبار هدف القرآن من ذكر قصص الأنبياء والأمم الغابرة (وهو هداية البشرية)، لاكتشفنا أنّ رفع الإبهام والغموض عن تلك المجهولات لا يؤثر من قريب أو بعيد على قيمة القصة أو الحدث التاريخي ومدلولهما، بل إن تعمد الإبهام – على العكس من ذلك – يزيد من تلك القيمة والمدلول ويدعمهما، لأنّ عدم ذكر الأسماء يوحى بعمومية ذلك الحدث وكون دلالته خالدة ثابتة ليس لها أي ارتباط بالظرف المكاني أو الزماني الذي وقع فيه، كما نرى ذلك – مثلاً – في قصة أصحاب الكهف التي خلت من أي إشارة إلى مكان وقوعها؛ ذلك لأنّ موطن العبرة في القصة لا يمت بأي صلة بمسرح حدوثها، فالقصة تحكي لنا حادثة وقعت لمجموعة من الفتيان وفقهم الله تعالى للإيمان به في مكان عم فيه الظلم والإرهاب وشاع فيه الكفر بالخالق، فيهرب الفتية خشية أن يفتنوا في دينهم... حادثة يمكن أن تقع في أي زمان ومكان، فالإيمان بالله في وسط يخيم عليه الظلم والكفر لا نعدم له نظيراً على الصعيد الزماني والمكاني، وكذلك الهروب من هذا الظلم فراراً بالدين... ولو استقرأنا الحالات الأخرى المشابهة لتوصلنا إلى نفس النتيجة.
وعلى العكس من ذلك نجد القرآن الكريم يحرص في مواضع أخرى حرصاً واضحاً ملموساً على تحديد الظرف المكاني للحدث لما لهذا التحديد من أهمية مصيرية تتوقف عليها دلالة ذلك الحدث وبدون ذلك التحديد تزول الدلالة، كما نلاحظ ذلك – على سبيل المثال – في آية الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) (الإسراء/ 1).
مثل هذا التحديد لابدّ منه في هذه الآية التي تتحدث عن حادثة الإسراء المعروفة، إنّه ضروري لإضفاء معاني القدس والجلال على هذه الرحلة، وإشاعة الإحساس بأهميتها وعظمتها في النفس، وبدون تحديد المكان الذي منه بدأت الرحلة والمكان الذي انتهت إليه تبقى هذه الحادثة عادية يمر بها الإنسان مروراً عابراً، أما وقد حفت من طرفيها بهذين المكانين المقدسين فإنّها تكتسب أهمية عظمى تجعل الإنسان يقف عليها وقفة المتأمل المتأني.
وهنالك مواضع أخرى من القصص القرآني نرى المكان مذكوراً فيه باسمه ومواصفاته في بعض الأحيان، خصوصاً إذا كان الحدث من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن السكوت عن كشف وتحديد مسرح وقوعه، ونحن نلاحظ هذه الظاهرة أكثر ما نلحظها في قصص الأنبياء (عليهم السلام) الذين يشكلون منعطفات مهمة في تاريخ الرسالات السماوية كموسى وإبراهيم ويوسف... إلخ.
فكثير من أسماء الأماكن يطالعنا في قصص مثل هؤلاء الأنبياء كمصر ومدين والطور والأحقاف ومكة والبيت الحرام... إلخ.
وقد تكون (تفصيلية) القصة هي المقتضية لذكر أسماء الأماكن، كما نرى ذلك مثلاً في قصة النبي يوسف (ع) التي جاءت في القرآن مفصلة ومجموعة في موضع واحد، فمثل هذه التفصيلية في ذكر جزئيات القصة تستدعي تحديد مسارح الحوادث، أضف إلى ذلك أنّ الكثير من مفاهيم قصة يوسف (ع) ومعلوماتها يرتبط إيصالها بتحديد تلك الأماكن، فذكر المكان الذي آل يوسف إليه، والمكان الذي دبرت فيه المؤامرة ضده (مؤامرة إخوته) وهو فلسطين، مفيد في بيان مدى آلام الغربة التي قاساها يوسف والحوادث الكثيرة التي تقلب فيها، ومعول عليه – في نفس الوقت – في تصوير آلام وتباريح الشوق التي عاناها الأب المتعلق بابنه.
كما أنّ تحديد مسرح الملابسات التي مر بها يوسف وأبوه وإخوته يعتبر وثيقة هامة من وثائق تاريخ بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون في فلسطين ثم انتقلوا بعد ذلك إلى مصر بسبب وجود يوسف (الذي هو من بني إسرائيل) فيها.
وهكذا نرى المكان يسهم بعض الشيء في إكمال ملامح القصة القرآنية وحبك نسيجها العام وإنّ مكان إسهامه هذا مرتبطاً إلى حد كبير بنوعية الحدث وملابساته، فهو يلعب – إلى حد ما – دور العنصر الثانوي الاحتياطي الذي يستدعي للتوظيف في الحالات التي يكون فيها مفهوم القصة القرآنية وطبيعتها مستدعيين لهذا التوظيف، وما شاكل ذلك من الاعتبارات التي ذكرنا بعضاً منها.
وعلى هذا الأساس يمكننا القول أنّ عنصر (المكان) – بالمنظور الذي نبهنا إليه – لا يدخل في قائمة العوامل والعناصر الأساسية والجوهرية للعمل القصصي – أياً كان – اللّهمّ إلّا في حالات استثنائية نادرة كأن تكون القصة أو الرواية واقعية إلى حد ارتفاعها إلى مستوى الوثيقة التاريخية لمجموعة معينة من البشر، وكأن يكون تحديد أسماء الأماكن الحقيقية مقصوداً بذاته في العمل الروائي أو القصصي.
وحرى بالقصة القرآنية (وهي التي تحاول الوصول إلى أقصى حد ممكن من الاختزال في المعلومات إن لم تكن ضرورية في تحقيق هدف الهداية)، حرى بها أن تمنح مثل هذا الدور الثانوي الهامشي لعنصر المكان.
المصدر: كتاب القصص القرآني.. رؤية فنية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق