أسرة البلاغ
انسجاماً مع خطة الإسلام الواقعية في تعامله مع الأشياء والأحداث، والوقائع، فقد منحت الشريعة الإسلامية الحاجات المادية لدى الإنسان نصيبها المناسب من الاهتمام والرعاية بالشكل الذي يحفظ حالة التوازن بين المطالب المادية، وغيرها في حياة الإنسان، وقد حقّق الشرع الإسلامي ما يلي رعاية للجوعات الطبيعية لدى الإنسان:
1- أقرّ الإسلام الحنيف النزوع إلى تملّك المال لدى الإنسان وأعطى الفرص المناسبة للاستجابة لهذه الحاجة الحياتية:
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ[1] لَشَدِيدٌ) (العاديات/ 8).
(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) (الفجر/ 20).
(لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) (النساء/ 32).
على أنّ الإسلام لم يُبحْ التملُّك للمال دون ضوابط، وإنّما قضى بفرض القيود المناسبة للحيلولة دون النموّ الاقتصادي السرطاني في دنيا الناس.
وقد تبنّى الإسلام لتحقيق هذا الهدف منهجين معاً:
أ- سدّ منافذ التموّل غير المشروع كالاتّجار بالمحرمات، والتعامل بالربا والقمار والغشّ والشعبذة، وما إلى ذلك ما هو مثبَّت في كتب الفقه الإسلامي[2].
ب- فرض الإسلام الضرائب المالية كالزكاة والخمس كضرائب ثابتة على المال، وخوَّل الحكومة العادلة لفرض ضرائب تصاعدية كضريبة الجهاد أيّام العدوان على المسلمين أو بلدانهم مثلاً.
ورغم اعتراف الإسلام بالملكية الخاصة المحدود، بأُطر وضوابط معلومة، فإنّه يدعم الملكية العامّة في الحياة الاقتصادية للمسلمين لتوفير مستلزمات النهضة في بلاد المسلمين، إضافة إلى رعاية شؤون العاجزين عن العمل وأمثالهم من خلال هذه الملكية العامّة.
فالإسلام مدرك لمخاطر الفقر والحاجة والحرمان في المجتمع من ناحية الاستقرار النفسي والالتزامي، ومن ناحية موقف الإنسان المحتاج الجائع من المجتمع ورسالته، فالمحروم المستغلّ المسحوق يُخشى عليه من الانحراف الروحي والأخلاقي، وإنّ خطب الوعظ وأساليب التحذير لا تقف أمام ثورة البطن الجائع.
فالكلام الوعظي لا يسدُّ عوز المحروم، ولا يمنع من كرهه للمستغلّين، ولا يمنع من الكفر بالوضع الذي لا يستجيب لحاجاته الضرورية ويلبِّيها.
ولهذا الواقعية في فهم الحقائق يرفض الإسلام الحنيف بشدّة حرمان الناس وافتقارهم، ويعلن حربه على الفقر بجميع مظاهره، فهذا عليّ بن أبي طالب (ع) يوضّح بقوّة مخاطر الفقر بقوله:
"الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت"[3].
ويبيّن رسول الله (ص) أهمية الغنى وسدّ الحاجة في حياة الناس، فيقول:
"نعم العون على تقوى الله الغنى"[4].
ويعلن الإمام عليّ (ع) صراحة:
"ألا وأنّ من البلاء الفاقة، وأشدّ من الفاقة مرض البدن، وأشدّ من مرض البدن مرض القلب، ألا وأنّ من النّعم سعة الحال، وأفضل من سعة الحال صحّة البدن، وأفضل من صحّة البدن تقوى القلوب"[5].
وكان الإمام عليّ (ع) يبالغ في الضراعة إلى ربّه الأعلى عزّ وجلّ أن يوسّع عليه رزقه حتى لا يضطرّ إلى سؤال أحد من الناس وأن يحفظه من ذلّ السؤال:
"اللّهمّ صُنْ وجهي باليَسار، ولا تبذل جاهي بالإقتار، فاسترزق طالبي رزقك، وأستعطفُ شرار خلقك، واُبتلى بحمدِ من أعطاني، واُفتتن بذمّ من منعني، وأنت من وراء ذلك كلّه وليّ الإعطاء والمنع إنّك على كلّ شيء قدير"[6].
ولقد أنحى الإسلام باللائمة على المتخلّفين عن أداء حقّ الأُمّة في أموالهم وحمّلهم مسؤولية ما يتعرّض له البعض من حاجة وحرمان. قال أمير المؤمنين عليّ (ع):
"إنّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُتِّع به غنيّ، والله تعالى سائلهم عن ذلك"[7].
ولم يكتفِ الإسلام الحنيف بمهاجمة الفقر، وتعداد سيِّئاته في حياة الفرد والجماعة، وتبيان أسبابه، والتحذير منه، وإنّما وضع تخطيطاً حكيماً لعلاج أسبابه التي يتيسّر علاجها، فضلاً عن علاجه كموضوع:
1- فقد شجّع القادرين على ممارسة العمل على كسب قوتهم، وعدّ كسب القوت الحلال، وبذل الوسع من أجله عبادة إسلامية وحذّر من التهاون في مسألة كسب الرزق.
قال رسول الله (ص):
"ملعون من ألقى كلّه على الناس"[8].
"العبادة سبعون جزء أفضلها طلب الحلال"[9].
"نعم العون على تقوى الله الغنى"[10].
2- إلزام الإسلام لجهاز الحكم الذي يلتزم بمبادئه بضرورة الاهتمام بفتح المشاريع لتوفير العمل للقادرين عليه، ولنا فيما جاء بالوثيقة الدستورية التي كتبها الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) إلى واليه على مصر للعمل بمقتضاها خير مثال على ذلك، فقد ورد من جملة ما ورد فيها ما يلي:
"وليكن نظرك في عمارة الأرض، أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأنّ ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد"[11].
3- تشريع مبدأ التكافل العام بين الناس، ويقضي هذا المبدأ بضرورة الإنفاق على المحتاجين، وتغطية نفقاتهم من قبل الأُمّة، وقد جاءت صياغة هذا المبدأ من خلال النصوص الآتية:
قال رسول الله (ص):
"ما آمن بي مَنْ بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به"[12].
"مَنْ كان له فضلُ ظَهْر فليعُد به على من لا ظهر له، ومَنْ كان له فضل زاد فليعد به على مَنْ لا زاد له"[13].
وقال الإمام محمد بن عليّ الباقر (ع):
"من حقّ المؤمن على أخيه المؤمن أن يشبع جوعته، ويواري عورته ويفرِّج كربته ويقضي دينه..."[14].
وقد عدّد الإمام الصادق (ع) حقوق المسلم على المسلم وذكر منها:
".. لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى"[15].
4- إلزام الدولة بكفالة المحتاجين كفالة مباشرة، فمن كتاب عليّ أمير المؤمنين (ع) إلى واليه على مصر يحدّد فيه الإمام (ع) مسؤولية الحاكم المسلم تجاه أهل الفاقة، والحرمان بقوله:
"ثمّ الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزُمنى.. واحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم واجعل لهم قسماً من بيت مالك وقسماً من غُلّات صوافي الإسلام، وتعهّد أهل اليُتم، وذوي الرقّة في السنّ ممّن لا حيلة له..."[16].
ويتحدّث الإمام القائد (ع) عن هذه المسؤولية بالذات حديث آخر، فيقول:
"هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع أوَ أبيتُ مِبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى!!"[17].
وهكذا يتناول الإسلام المسألة الاقتصادية من جميع أقطارها ويعالجها علاجاً شاملاً، بالنظر لأهميتها وتأثيرها في مسيرة الإنسان في الحياة، الأمر الذي ينسجم مع الخطّ الواقعي الذي يتبنّاه الإسلام في تناول مسائل الحياة الإنسانية كلّها.
ثانياً: اعتراف الإسلام الحنيف بالغريزة الجنسية كجانب حيوي في الكينونة الإنسانية. قال تعالى:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ...) (آل عمران/ 14).
وإلى جانب اعتراف الإسلام بالميل الجنسي لدى الإنسان طرح مفهومه حول إشباع ذلك الميل، وقضى للمؤمنين ألّا يخالفوا عن أمره، ولا يتجاوزوا أُطروحته لإشباع الجوعة الجنسية. قال تعالى:
(.. فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ...) (النساء/ 3).
(فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ...) (النساء/ 24).
وحيث شرّع الإسلام الحنيف الزواج بشقّيه الدائم والمنقطع كطريق طبيعي لإشباع الجوعة الجنسية، فإنّه في ذات الوقت قد منع من ممارسة الزنا واللواط والمساحقة، وسواها من سبل غير مشروعة، وشرَّع العقوبات لمخالفي نهجه المتين:
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون/ 5-7).
وبالإضافة إلى ما ذكرنا من المناهج الإسلامية المتبنّاة لرعاية النزعات المادية عند الإنسان، فإنّ الشريعة الإسلامية قد اهتمّت كثيراً بحمل الإنسان على ضرورة التمتّع بخيرات هذا الوجود الرحيب، لأنّه لم يخلقه إلّا لأجله ولخيره وسعادته، قال تعالى:
(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا في الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (الجاثية/ 13).
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الأعراف/ 32).
(وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (الحديد/ 7).
هذا فضلاً عن أنّ الإسلام قد منع من تعاطي كلّ ما يوجب إضراراً للإنسان كأكل الدّم وأكل الميتة وغيرها، قال عزّ وجلّ:
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ...) (المائدة/ 3).
(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ...) (المائدة/ 90).
وهكذا يطرح الإسلام مبادئه وأحكامه من خلال التزامه بمبدأ الواقعية في تناول المشكلات وفي أسلوب العلاج.
الهوامش:
[1]- الخير = من معانيه المال.
[2]- راجع شرائح الإسلام، للمرحوم المحقِّق الحلّي (كتاب التجارة)، وغيره.
[3]- نهج البلاغة، باب المختار من الحكم، رقم النص 319. المقت = الحقد، والعداوة.
[4]- الفروع من الكافي، كتاب المعيشة.
[5]- نهج البلاغة، باب المختار من الحكم، رقم النص 388.
[6]- نهج البلاغة، باب الخطب، رقم النص 255، اليسار: الغنى، الاقتار: الفقر.
[7]- نفس المصدر، باب المختار من الحكم، رقم النص 328.
[8]- الفروع من الكافي، الشيخ الكليني (رض)، كتاب المعيشة.
[9]- نفس المصدر.
[10]- نفس المصدر.
[11]- عهد أمير المؤمنين (ع) إلى واليه على مصر مالك الأشتر (رض)، رقم النص 53، ص436.
[12]- المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، الفيض الكاشاني، ج3، (كتاب آداب الصحبة والمعاشرة).
[13]- نفس المصدر.
[14]- المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، الفيض الكاشاني، ج3، (كتاب آداب الصحبة والمعاشرة).
[15]- نفس المصدر.
[16]- نهج البلاغة، عهد الإمام (ع) إلى واليه على مصر مالك الأشتر (رض)، رقم النص 53، ص39-438.
[17]- نهج البلاغة، كتابه، رقم النص 45، ص418.
ارسال التعليق